“انفتحت أبواب جهنم وفاحت رائحة الموت واكتوت جلودنا بالسعار وقيض للوطن أن يتحول إلى أسوار شاهقة لسجن خفي كان يبتلع كل من فيه” يوسف, سفانة, إسماعيل, حسنين, عماد, سعاد, الأم, دلال. الواح تتعاقب في أتون السرد الغائر في أعماق الوجد والحزن والضياع فلقد جعل الروائي خضر عواد الخزاعي من روايته الواح العقد الثامن من هؤلاء الشخوص في الرواية الواح فنية سردية مفعمة بالحس المرهف الذي ينساب كنغمة ناي رفيع حزين حنين يتواصل مع السرد ليهيئ المتلقي للإبحار مع فضاء الأحداث, لون آخر من الوان السرد الروائي المتمكن الذي خرج فيه هذا الروائي بجهده المضنى من أنواع السرد التقليدية إلى نمط آخر أجاده هو دون سواه, أنه يخاطب الروح, يتوغل, يسبح, يغوص, يبحر, ينقل الأحداث بلغة انسيابية مبهرة تجعلنا متوحدين نراقب بشغف الألواح المتعاقبة التي تشبه الدوائر التي تحدث داخل النهر, تبدأ صغيرة, ثم تكبر, وتزداد اتساعاً, حتى تحيط بنا لتهيمن على حواسنا, استطاع الروائي أن يجعل من الألواح الدائرية حبكة روائية سردية, تبدأ, تتفاعل, تنطلق, أخذاً بنظر الاعتبار مهمة الروائي في الانطلاق الصحيح للحدث السردي داخل تلك الألواح الدائرية التي جاءت بديلاً عن السرد المنطقي الذي يضفي بنا إلى السياق المنسق الراقي لأساسيات تناول الرواية, كما أن الرواية لها وجوه متعددة وزوايا مختلفة, وتمتلك مبنا ميتا سردياً, يشكل نمط أخراً من الأحداث, كما أنه قام بتوزيع الألواح الفنية السردية إلى شخوص الرواية ليقوم بتناول السرد بما يجعله متوحداً, ومتفرعاً في آن واحد, فهو متصل مع الحدث العام, ومتفرعاً لأنه مبنا ميتا سردياً يخص الشخص الذي قام بطرح لوحته الفنية الموسيقية المبهرة, وهذا يوسف الذي كان ينعم بالسلام وسط البلد, وكان شاهداً على انقلاب الحياة بطريقة تحسسنا أن الحرب كارثة تهدم كل شيء, فلقد فقد هذا الأمان وهذا السلام, ليخيم شبح الحرب على الوطن, يهدد الجميع بالموت, حتى أننا نحس الفارق كبير جداً, بين بلد ينعم بالسلام, وبلد حل عليه بلاء الحرب, فهو يحب سفانة حباً جماً ولا يستطيع أن يفارقها, وفجأة وبسبب الحرب, تطرد هي وعائلتها, ترحل خارج البلاد في صورة لوحية مؤلمة وحزينة وقاسية تتمثل في قسوة السلطة وجبروتها وطغيانها وانعدام الإنسانية فيها, هذا لأنها من الأكراد الفيل, والسلطة كانت ترفض وجود هذه الطائفة بينهم, وهذا كان سبباً كبيراً في الانكسارات النفسية التي حدثت ليوسف لتشكل الصدمة الأولى والكبيرة له, بعدها يفاجأ بوفاة صديق عمره إسماعيل, ثم قتل أخيه حسنين في الحرب وهذه الأحداث السردية لوحات تأخذنا إلى واقعها وتأثيراتها النفسية فنعيش حالة الانهدام النفسي والاسى والحزن, ثم يجبر على الزواج من دلال التي كانت تتحين الفرص لكي تفوز بقلب يوسف, ولكن لم يحدث الوفاق المطلوب بسبب بقاء قلب يوسف متعلقاً بسفانة ويحدث الفراق بينهما, ويفارق أمه, كما فارق الأعزاء قبله, ويتفرغ للعمل الأدبي والصحفي, وهذه الكوارث التي توالت عليه ما كانت تحدث لولا هذا الشبح الكبير, الحرب المدمرة التي دمرت نفوسنا, وأخذت أعزاءنا, “ذات مساء اتصل رجلاً قال أنه مسؤول بالفرقة الحزبية التي تبعد عن بيتنا مئات الأمتار قرب الشارع العام وطلب مني الحضور بأسرع وقت شعرت بالخوف والتوجس على مصير حسنين لأننا كنا نرى في أحيان كثيرة كيف كانت تحمل النعوش إلى المقرات الحزبية ثم توزع على ذوي الضحايا” وهكذا فأن يوسف يتناول هذه الوقائع السردية بواقعيتها التي تشبه السهل الممتنع ثم تغلف بذات الإحساس الروحي المنعكس من شدة صدمة الحدث, ومع هذا فأن لكل شخص من شخوص الرواية لوحة قائمة بحد ذاتها, يتناول فيها جانباً من السرد الذي هو مكمل وجزء لا ينفصل من العملية السردية المبهرة للرواية, وكان لالتحاقه بالخدمة العسكرية بعد تخرجه من الدراسة الجامعية لوناً آخر من ألوان التناول السردي, حتى جاء ذلك اليوم المشؤوم الذي حملت فيه الدفتر الأحمر وقد ختم الضابط على صفحته الأخيرة، يلتحق إلى مركز تدرب النجف 1/8/1985) وفي لوحة الأم تسرد لنا الأم الجانب سردياً في الرواية لأنها تستعرض حياتها منذ زواجها, إلى أن حلت تلك الكوارث في البلد في الأسلوب المتناغم السردي لتكشف الجوانب المختفية في العملية السردية “في سن العشرين تزوجت من عبدالكريم وحين أضع حياتي التي عشتها بين كفتي ميزان بين أن نعدها بعمر السنين التي عشناها وبين ما قدمته لنا تلك السنين من مسرات وعطاءات تغلب الكفة الثانية” وفي لوحة دلال تضيء لنا الجوانب الروحية الموغلة في أعماق نفسها وهي تتناول سرد حكايتها الميتا سردية “منذ البداية لم اكن أطيق وجود سفانة كرهت أن نجتمع في مكان واحد حتى قبل إن يدخل يوسف بين رغباتنا” وهنا نكتشف أن يوسف يضع اللوحة الكبيرة لواقع السرد الروائي العام ويتولى الشخوص مهمة توضيح الجانب الذي يخص حيواتهم بشكل يضيء جوانب خفية تحتاج إلى التوضيح, ويأتي دور سفانة في تناول الجانب الميتاسردي الذي يخص حياتنا وعلاقتها بيوسف وحبها والأحداث التي المت بها. “لم أعي الخطر الذي كان يحدق بي وبأسرتي إلا في وقت متأخر خلال سنتين من زمن الحرب, بدأ القلق يساور أبي وإخوتي بعد أن نجونا بأعجوبة من تهجير أو موت محدق قبل الحرب بشهور”.. ثم تأتي لوحة سعاد شقيقة يوسف في إدخال لوحتها، أراد شريف أن يأتي معي إلى المقبرة لكني رفضت أردت أن أكون لوحدي مع يوسف كما تعودت في مرات كثيرة اقرأ القرآن وامسد على شعره وأشاطره أحزانه.. وتنتهي رحلة يوسف بوفاته فقد ناء بحمل ثقيل, وحمل هموم وطن ينضوي تحت نيران حرب شروس, حالماً بوطن يزهو بالأمن والسلام, “ رفعت الغطاء عن راسه وجهه شاحباً نحيفاً أبيضاً ترقد خصلاته البيضاء فوق جبينه تبحث عن أصابع حانية ترفعها عن جبهته مستسلماً لآخر نوبات الألم الذي ترك وجعه حول شفتيه اليابستين، وبرحيل يوسف نطوي حكاية تناجي الروح, وسرد أشبه بنغمة موسيقية تنطلق بكل هدوء تناغي مشاعرنا فتندى العيون بدموع الاسى والحزن على أناس رحلوا وهم يحلمون بالسلام الذي لتهتز الأرض ببركان غضب الحرب, أن الروائي خضر عواد الخزاعي بروايته “ الواح العقد الثامن” يضع أمامنا العقد الثامن من الزمن الذي تحول فيه الوطن إلى كائن آخر مخيف, ونار تبتلع الجميع, أن هذه الرواية تمتلك عنصر ما بعد الحداثة وهي في مصاف الروايات التي تشكل ثورة في التجديد والتجريب.