مسرح الجريمة؛ هو ذلك المكان الذي شهد ودارت فيه تفاصيل وأحداث جريمة معيّنة وجرائم بعينها، وكل مكان وموقع وأرض وتراب وبيت ومتجر وملهى وووووو... إلخ يثبت ويلاحظ عليه وفيه وقوع جريمة جنائية معيّنة أو حادث ما، أكان مرورياً أو أمنياً وعرضياً؛ فإنه يسمّى ويُطلق عليه رجال وأجهزة الأمن المختصة وحتى رجال الصحافة والإعلام وكل العامة من الناس، والسبب معروف ولا يحتاج إلى توضيح أكثر؛ ما يعني أن الجميع وصل إلى مرحلة مناسبة من الوعي والفهم المطلوبين في مثل تلك الأمور والأشياء, إلا أنه ومع الأسف الشديد هنالك ثمّة مشكلة وآفة؛ بل إنني اعتبرها ظاهرة وعادة مقيتة وتصرّفاً سلبياً وفعلاً أهوج يقع فيه غالبية المواطنين بكل فئاتهم وشرائحهم المجتمعية.. ألا وهي حالة التجمهر والاحتشاد حول مسرح الجريمة ومكان الحادث من قبل المتواجدين حالة الفعل والشي, وارتكابه أو ما بعد الواقعة وحدوثها, ولا يدرك هؤلاء وكل من صادفه أمر ما وسارع للاحتشاد والتجمهر إنهم يتسببون في عرقلة الكثير من الأعمال والجهود التي تحاول وتهدف للقيام بها الأجهزة الأمنية بشتى تخصصاتها وعلى حسب ونوعيه الحادث سواءً كان جنائياً أو غير جنائي وحتى حريق أو حادث مروري. هذه العادة السلبية همومها وأوجاعها كثيرة وربما فظيعة وأخطر مما قد يتوقعه البعض والتطرّق لها يحتاج وقتاً طويلاً وسطوراً كثيرة, ولكنني ورغم الإطالة غير المتعمدة في البداية ومقدمة جريمة هذا الأسبوع على صفحات “إنسان الجمهورية” اخترت قاصداً تفاصيل إحدى الجرائم التي سجلتها الأجهزة الأمنية في اليمن عامة وإب خاصة مثالاً لما يتم مواجهته ومعاناته جراء عادة “التجمهر والاحتشاد حول مسرح الجريمة” وستوضحها السطور التالية. هي ليست بالغريبة أو الأمر الجلل الذي يتفاجأ فيه الجميع, إنها جريمة قتل ارتكبت في أحد الأماكن بالمدينة وضواحيها, دون بلاغها الأولى بعبارة “قتل من مجهول” الأمر الذي سيجعل الأمن ورجاله يبذلون قصارى جهدهودهم، وربما يلاقي متاعب كي يتم الوصول للجاني وكشف غموض الجريمة. كالعادة وعقب البلاغ من أحد المواطنين عن وجود جريمة قتل في الشارع “الفلاني” هرع رجال الأمن والبحث وفي مقدمتهم خبراء الأدلة الجنائية، إلى مكان الحادث وفق البلاغ فأول الواصلين من أفراد أقرب قسم شرطة لمكان الحادث مهمته تحريز مسرح الجريمة والحفاظ عليه قدر الاستطاعة لحين وصول خبراء المعمل الجنائي الذين يتوجب عليهم فور وصولهم القيام بتحريز مكان الحادث بطريقتهم الخاصة وبالشريط الأصفر المعروف لدينا إلى من من سبقوهم وهم أنفسهم غالباً ما يواجهون متاعب ومعاناة جراء قيام المواطنين في التجمهر حول مسرح الجريمة، بل أن هؤلاء الخبراء اتهموا المتجمهرين من الناس وبصريح العبارة بالعبث بمسرح الجريمة, وتضليل رجال الشرطة من أول وهلة لمباشرتهم لمهامهم وعرقلتها بشكل كبير وبدون أن يشعر هؤلاء الناس بفداحة الجرم الذي اتهموا به من قبل المختصين في كشف الجريمة والجرائم عامة. عموماً وصل رجال الأمن والمعمل الجنائي لمسرح هذه الجريمة ووجدوا حالة التجمهر حوله, وعملوا على مباشرة الإجراءات بقدر استطاعتهم مع استمرار حالة الاحتشاد، وكانت الجريمة فعلاً قتل والقتيل لايزال مرمياً بالشارع والدماء من حوله مضرجاً بها، بادر خبراء الأدلة بتصوير الجثة ومعاينتها وتحريز أي آثار مادية في مسرح الجريمة، ووجدوا ما وجدوه ونقلوا الجثة إلى المستشفى لإيداعها ثلاجة الموتى بعد أن عرفوا هوية صاحبها من خلال الوثائق الثبوتية التي عثروا عليها بحوزته, ما ساعد على وصول أولياء دمه. في الجانب الآخر كان رجال البحث الجنائي يقومون باتخاذ إجراءات البحث والتحري في موقع الحدث ومسرح الجريمة, بغية منهم في الوصول لأول خيوط الجريمة واكتشافها، فكل من سمعت أفادته قال لهم «سمعت صوت طلقة نارية وشاهد البعض وقوع وسقوط الشخص أرضاً ليتضح أنه قتل»، دون أن يفصح أحدهم بأية معلومة أخرى, فيما البقيه أفادوا أنهم قدموا لمشاهده ما حدث وظلوا يشاهدون كغيرهم من المتجمهرون. المحققون وبعد الجلوس مع خبراء الأدلة الجنائية الذين قاموا بمعاينة مسرح الجريمة والجثة توصلوا لنقطة مهمة مفادها أن مسرح الجريمة تعرض للعبث وتغيير بعض الآثار المادية فيه جراء عدم الوعي واللا وعي من قبل المتجمهرين من المواطنين الذين تسببوا في تلك الورطة والعرقلة الصعبة التي كانت ستقود الشرطة لمعرفة الجاني وضبطه، فهو كان أحد المتواجدين في المكان بل والمحتشدون حول مسرح الجريمة وفيه أيضاً وهذا لم يجعل المحققين ييأسوا أو يعلنوا فشلهم ويرمون باللوم والمشكلة على الآخرين. واصل فريق التحقيق الإجراءات واستمرت لأسابيع وكان للظرف الفارغ المحرز يوم الحادث ولسلاح نوع مسدس “مكروف” أهمية بالغة وكبيرة ومقارنة بالاحتمالات والتوقعات التي وضعها خبراء الأدلة والمحققين معاً عن وضعيه القتل قبل مقتله, مروراً بإصابته وسقوطه أرضاً ومسار الطلقة النارية التي أصابته بالرأس وكانت قاتله، كانت النتيجة الوحيدة عدم تطابقها مع حقيقه مكان العثور على الظرف الفارغ الذي تأكد لهم أنه للطلقة النارية التي أصابت الرجل وقتلته، لاسيما وأن المقذوف الناري “ساكن” ولم ينفذ والذي استخرج من رأس القتيل كان لسلاح مسدس “مكروف”. رغم ذلك استخلص المحققون نتيجة سريعة أولها: احتمالية قيام البعض بتحريك الجثة وتغيير وضعيته من قبل البعض عند محاولتهم إسعافه مثلاً وإنقاذ حياته دون أن يفصح أحدهم بأقواله عن ذلك أو لعدم تمكن الأمن من معرفة من كان بجواره وحاول إسعافه, ما جعل مسألة أخذ أقوالهم صعبة جداً, ثانيها: احتمالية نقل الظرف الفارغ من مكانه الحقيقي والطبيعي إلى ذلك المكان الذي حرز فيه ومنه وهذا الأمر وارد تماماً لاسيما وأنهم وضعوا في بالهم أن عملية تحريز الظرف الفارغ كانت بمساعدة أحد المواطنين ولم يكن من قبل الخبراء أنفسهم. ركز المحققون على الاحتمال الثاني بهدف استثمار الوقت وكسبه بالقدر اللازم, لاسيما وأن الخبير الذي حرز الظرف الفارغ بمساعدة المواطن قد ذكر اسم المواطن وبياناته ليتم الرجوع إليه من خلالها وأخذ محضر جمع استدلال وتحرٍّ معه واستفساره عن المكان الذي عثر فيه على الظرف فحدد لهم وهو نفس المكان الذي سبق له تحديده بل ويؤكد لهم أنه من هذا المكان أخذه وسلمه للمعمل الجنائي وأقفل المحضر وعليه وقع على صحتها. من خلال الإصرار والتأكيد الذي وجدوا المواطن عليه بنى المحققون خطوتهم الجديدة حيث قاموا بوضع الاحتمالات مجدداً واحتمال هذه الخطوة في تحديد المكان الذي من المحتمل أن يكون مطلق النار على القتيل متواجداً فيه، سواء واقفاً أو جالساً وبأي طريقه معتمدين على مسافه اندفاع وخروج الظرف الفارغ من السلاح بعد قيام إبرة ضرب النار للمسدس بضرب الطلقة وانطلاق مقذوفها وخروج ظرفها الفارغ. احتمالات وصفها البعض من المحققين بالمعقدة إلا أن البعض الآخر كان عنده أمل وتفاؤل جديد من هذا الاحتمال واتباع خطواته بدقة, تحديد المكان مطلق النار, وكيف لو كانت وضعية القتيل مختلفة عن الوضعية التي وجدوا جثته عليها وعدم تطابق احتماليه مسار الطلقة مع مكان العثور على الظروف والصعوبات في هذا الجانب. استكملوا وضع النقاط الكاملة للاحتمالات الأخيرة والجديدة, وشرعوا في التحري وجمع الاستدلال في المكان المحتمل وجود مطلق النار ووقوفه فيه, كان مقارب لباب محل تجاري تابع لأحد الأشخاص هو أول شخص تم استهدافه في أخذ أقواله، وكانت العملية ستستمر عقب الانتهاء من أخذ أقوال هذا الشخص ويأتي الدور على البقية، في الوقت الذي رصدت التحريات معلومة مهمة تتعلق بنوعية السلاح الذي يحمله كل شخص من المستهدفين في الخطوة الجديدة وبالذات الشخص الذي توقفت عنده الإجراءات وحده. مع إيجابية معرفة نوعية سلاحه، ورصد تناقضات في محضره وتنصله عن الأدلاء بأية معلومات معللاً عدم علاقته ودخله بما حدث, إنها البداية الحقيقية لكشف غموض الجريمة والوصول لهوية الجاني وقاتل المجني عليه, فسلاحه مسدس “مكروف” وتهرّب من إحضاره عند طلب المحققين منه ذلك، فقال إنه باعه وتراجع وقال أخذه زبون وأنه كان حق الزبون, تناقضات أوقعته في قفص الاتهام، والاتهام المباشر مالم يبرىء تناقضاته بحقائق واقعية. كثفت الإجراءات والتحريات حيال المتهم والمشتبه به وكانت أكثر إيجابية وأهمية بالغة، تمثلت بخطوة كبيرة في القضية وأهم المعلومات الواقعية في ملف القضية ألا وهي اعتراف المتهم ببيعه لسلاح مسدس نوع مكروف وتحديده يوم بيعه وصادف أنه قبل مقتل المجني عليه بثلاثة أيام، سارع المحققون إلى التأكد بطريقتهم عن حقيقة وتاريخ بيع المسدس وكانت عكسية, ومغايرة لما قاله المتهم. بعد جهد كبير توصّل المحققون إلى تاريخ بيع المتهم للمسدس المكروف كان بعد جريمة القتل بيوم واحد فقط، وتم إثبات ذلك بمحضر رسمي, ومواجهة المتهم بهذه المعلومة والنتيجة، الذي أصر على صحة كلامه، وما جاء بعده ليس صحيحاً، إصراره هذا كان آخر أوراقه الرابحة بل الخاسرة, فالمسدس كان لايزال لدى الشخص الذي اشتراه من المتهم الأمر الذي جعل المحققين يقومون بضبطه وتحريزه وإحالته للأدلة الجنائية لفحصه مع الظرف الفارغ المحرز لديهم من يوم الحادثة, وهذا مالم يكن يتوقعه المتهم ظناً منه أن المشتري للمسدس منه قد تصرّف به كونه يبيع ويشتري بالسلاح. تواصلت الإجراءات مع انتظار نتيجة الفحص من قبل الأدلة الجنائية، والقلق ينتظر الجميع هل ستكون إيجابية أو سلبية ولأهمية القضية تم الإسراع في طلب النتيجة للعملية التي لا تستغرق أكثر من يوم واحد، وحمل التقرير الفني الكتابي والمصور المرفوع من الأدلة نتيجة إيجابيه 100 % الظرف الفارغ هو لطلقة نارية أطلقت من السلاح نفسه المعروض للفحص. المحققون وقتها وقبل علمهم بالنتيجة بساعات لمحو للمتهم انهم قد ضبطوا المسدس ويتم فحصه الآن, فتغيرت ملامح المتهم وارتبك واصر على الأنكار بشكل عجيب, وعند أخباره بالنتيجة الإيجابية حاول الإنكار رغم أنه انصدم من إنكاره الذي لم يعد له داعٍ فقد ظهرت الحقيقة وما كان منه إلا أن اعترف بما حدث ووقع في ذلك اليوم. ذلك اليوم المقصود به يوم الحادث والجريمة التي راح ضحيتها شخص اتضح إنه عابر سبيل أصابته طلقة نارية أثناء ترجّله من الشارع حينها وحسب اعترافات المتهم الذي قال إنه كان وقتها يفحص المستخدم وينظفه لأنه اشتراه حديثاً فأخذ يجرّب الضغط على الزناد وكانه يطلق النار رغم أنه أخرج “خزنة” المسدس منه وظن أنه فارغ ليتفاجأ بصوت “القارح” وطلقة من المسدس تنطلق باتجاه المكان الذي بعد دقائق شاهد تجمهر الناس حوله وفيه, وذهب بعدها ووجد أن هناك شخصاً قد قُتل، ولاحظ أن بعض المتواجدين يحركون الجثة بهدف إسعافه، وآخرون يقولون لا داعي، الرجل مات انتظروا الشرطة حتى تأتي, ويواصل المتهم اعترافه أنه عقب وصول الشرطة ورجال الأمن صادفوا تجمهر الناس وأنه استغلها فرصة للإفلات من الأمن والهروب إلى محله، وإخفاء المسدس ومن ثم بيعه ثاني يوم. المتهم أكد أنه أطلق النار خطأً ولم يكن قاصداً ولا يعرف الشخص القتيل حتى يقتله، حاول التبرير دون فائدة فنواياه بعد الجريمة سيئة جداً, كان الأجدر به تسليم نفسه مباشرة وشرح التفاصيل وقتها والاعتراف بما حدث, أما الآن وبعد كل جهود الأمن والعقبات التي واجهوها فيظل الأمر وفي كلا الحالتين من اختصاص القضاء وحده الذي تم إحالته إليه ممثلاً بالنيابة طبقاً للقانون. فيا ترى هل سنقلع جميعاً عن هذه الظاهرة والعادة السيئة في التجمهر حول مسرح الجريمة والعبث بمحتوياته وعرقله جهود رجال الأمن والشرطة كما حدث في القضية السابقة؟.. أتمنى أن يُقلع الجميع عن ذلك.