المجلس الانتقالي وتكرار الفرص الضائعة    الكهرباء أول اختبار لرئيس الوزراء الجديد وصيف عدن يصب الزيت على النار    سحب سوداء تغطي سماء صنعاء وغارات تستهدف محطات الكهرباء    وزارة الكهرباء تُدين استهداف العدوان الصهيوني لمحطتي كهرباء ذهبان وحزيز    ارتفاع حصيلة العدوان الاسرائيلي على غزة إلى 52,615 شهيدا و 118,752 مصابا    البدر: استضافة الكويت لاجتماعات اللجان الخليجية وعمومية الآسيوي حدث رياضي مميز    الوزير الزعوري: الحرب تسببت في انهيار العملة وتدهور الخدمات.. والحل يبدأ بفك الارتباط الاقتصادي بين صنعاء وعدن    النفط يرتفع أكثر من 1 بالمائة رغم المخاوف بشأن فائض المعروض    الصحة: استشهاد وإصابة 38 مواطنًا جراء العدوان على الأمانة ومحافظتي صنعاء وعمران    رئيس مؤسسة الإسمنت يتفقد جرحى جريمة استهداف مصنع باجل بالحديدة    توسّع في تعليق الرحلات الجوية إلى مدينة "يافا" بعد قصف مطار "بن غوريون"    إنتر ميلان يحشد جماهيره ونجومه السابقين بمواجهة برشلونة    العليمي يشيد بجهود واشنطن في حظر الأسلحة الإيرانية ويتطلع الى مضاعفة الدعم الاقتصادي    إسرائيل تشن غارات على مطار صنعاء وتعلن "تعطيله بالكامل"    سلسلة غارات على صنعاء وعمران    اسعار الذهب في صنعاء وعدن الثلاثاء 6 مايو/آيار2025    صحيفة إسرائيلية: "أنصار الله" استخدمت صاروخ متطور لاستهداف مطار بن غوريون يتفادى الرادار ويتجاوز سرعة الصوت    اسعار المشتقات النفطية في اليمن الثلاثاء – 06 مايو/آيار 2025    حكومة مودرن    توقعات باستمرار الهطول المطري على اغلب المحافظات وتحذيرات من البرد والرياح الهابطة والصواعق    ريال مدريد يقدم عرضا رمزيا لضم نجم ليفربول    معالجات الخلل!!    أكاديميي جامعات جنوب يطالبون التحالف بالضغط لصرف رواتبهم وتحسين معيشتهم    تحديد موعد نهاية مدرب الريال    أكسيوس: ترامب غير مهتم بغزة خلال زيارته الخليجية    ماسك يعد المكفوفين باستعادة بصرهم خلال عام واحد!    ودافة يا بن بريك    انقطاع الكهرباء يتسبب بوفاة زوجين في عدن    لوحة بيتا اليمن للفنان الأمريكي براين كارلسون… محاولة زرع وخزة ضمير في صدر العالم    لوحة بيتا اليمن للفنان الأمريكي براين كارلسون… محاولة زرع وخزة ضمير في صدر العالم    برشلونة يواجه إنتر وسان جيرمان مع أرسنال والهدف نهائي أبطال أوروبا    قرار رقم 1 للعولقي بإيقاف فروع مصلحة الأراضي (وثيقة)    بعد فشل إطلاقه.. صاروخ حوثي يسقط بالقرب من مناطق سكنية في إب    "مسام" ينتزع أكثر من 1800 لغم حوثي خلال أسبوع    شركة النفط توضح حول تفعيل خطة الطوارئ وطريقة توزيع البنزين    برعاية من الشيخ راجح باكريت .. مهرجان حات السنوي للمحالبة ينطلق في نسخته السادسة    رسالة من الظلام إلى رئيس الوزراء الجديد    الثقافة توقع اتفاقية تنفيذ مشروع ترميم مباني أثرية ومعالم تاريخية بصنعاء    من أسبرطة إلى صنعاء: درس لم نتعلمه بعد    وزير الصحة يدشن حملات الرش والتوعية لمكافحة حمى الضنك في عدن    الخليفي والمنتصر يباركان للفريق الكروي الأول تحقيق كأس 4 مايو    وزارة الشباب والرياضة تكرم موظفي الديوان العام ومكتب عدن بمناسبة عيد العمال    مليون لكل لاعب.. مكافأة "خيالية" للأهلي السعودي بعد الفوز بأبطال آسيا    بيع شهادات في جامعة عدن: الفاسد يُكافأ بمنصب رفيع (وثيقة)    يادوب مرت علي 24 ساعة"... لكن بلا كهرباء!    قدسية نصوص الشريعة    صرخةُ البراءة.. المسار والمسير    متى نعثر على وطن لا نحلم بمغادرته؟    الاجتماع ال 19 للجمعية العامة يستعرض انجازات العام 2024م ومسيرة العطاء والتطور النوعي للشركة: «يمن موبايل» تحافظ على مركزها المالي وتوزع أعلى الارباح على المساهمين بنسبة 40 بالمائة    أول النصر صرخة    أمريكا بين صناعة الأساطير في هوليود وواقع الهشاشة    المصلحة الحقيقية    مرض الفشل الكلوي (3)    إلى متى سيظل العبر طريق الموت ؟!!    قيادي حوثي يفتتح صيدلية خاصة داخل حرم مستشفى العدين بإب    أطباء تعز يسرقون "كُعال" مرضاهم (وثيقة)    مقاومة الحوثي انتصار للحق و الحرية    مقاومة الحوثي انتصار للحق و الحرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هائل سلام:
هل يكون الربيع العربي ربيعاً دستورياً دائماً.. وكيف؟!
نشر في الجمهورية يوم 30 - 11 - 2012

القانون هندسة المجتمع، ولا سيادة للقانون” في أي مكان” بدون سلطة تحميه، ولا سلطة تحمي القانون إلا إذا تأسست على نحو تعاقدي.. القانون ليس نصوصاً فحسب؛ بل وممارسة أساساً.. في دراسة الدساتير تنتهي مناهج القانون الدستوري المقارن عادة إلى نتائج مضللة؛ فقد تنتهي د-راسة مقارنة للدستورين الفرنسي واليمني”مثلاً” إلى تقرير أفضلية هذا الأخير على مستوى النصوص. . ولكن في حين أن هذا الأخير يشير إلى واقع مأمول التحقق هنا، يشير الأول إلى واقع متحقق “بالفعل” هناك، ومن هنا لا منطقية المقارنة وفق هكذا مناهج.
ولأن القانون”في مبناه ومعناه” ليس نصوصاً فحسب بل وتطبيق كذلك، فإن النصوص دون ممارسة وتطبيق ليست سوى حروف ميتة. فعلى سبيل المثال، يقرر الدستور الحالي، في المادة (40) منه ما يقرأ على نحو: (يحظر تسخير القوات المسلحة والأمن والشرطة وأية قوات أخرى لصالح حزب أو فرد أو جماعة، ويجب صيانتها عن كل صور التفرقة الحزبية والعنصرية والطائفية والمناطقية والقبلية، وذلك ضماناً لحيادها وقيامها بمهامها الوطنية على الوجه الأمثل، ويحظر الانتماء والنشاط الحزبي فيها وفقاً للقانون). نص عظيم، ولاشك، ولكن كنص فحسب، أما على مستوى الممارسة فلا معنى له ولا قيمة.
الممارسة إذاً هي ما يعطي النصوص قيمتها؛ إذ هي تبعث فيها الحياة، وتطلقها “حية فاعلة” وحاكمة للسلوك في واقع أي مجتمع.
ولهذا، ولكي نفهم دور القانون في أي بلد، نحتاج إلى علم اجتماع القانون أكثر من احتياجنا إلى القانون الدستوري المقارن، أو لنقل التكامل بينهما على نحو ما.
وفي الممارسة.. كثيراً ما أهدى الطغاة شعوبهم دساتير فصلوها على مقاساتهم، ولم يلتزموا بها مع ذلك أو لذلك؟ أصلاً، مثلما هو الحال بالنسبة إلى النص الدستوري هذا.
وقد جاءت ثورات الربيع العربي لتبشر بعهد جديد للشعوب العربية، ولكن، ما لم يتحول هذا الربيع فعلاً إلى ربيع دستوري دائم، فلن يكون هذ الربيع إلا (كطيف سحابة لم تمطر)، فكيف السبيل إذاً إلى ربيع دستوري دائم؟!
يفترض أن يكون هذا هو سؤال الثورات ذاتها، وليس هنا سوى محاولة لإنارة بعض المسائل المهمة، أو التي تبدو لي كذلك في ذات الاتجاه.
(خطأ عربي شائع)..أو الدستور.. كعقد اجتماعي:
هناك خطأ شائع، ومميت سياسياً، في اليمن والدول العربية عموماً، يتمثل هذا الخطأ بالقول وفي التصور بأن الدستور عقد اجتماعي ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم.. ولبيان فداحة هذا الخطأ يمكن إيراد الآتي:
تقوم فكرة (العقد الاجتماعي)، وفقاً لمفترضات نظرية العقد الاجتماعي، كما صاغها فلاسفة العقد الاجتماعي، وعلى رأسهم جان جاك روسو، على أساس من الجمع والتوفيق بين أمرين أو مطلبين متعارضين: الحرية المطلقة للإنسان الفرد والطبيعة الاجتماعية له.
فبما أن الإنسان/ الفرد يولد حراً حرية مطلقة، وفق فلسفة القانون الطبيعي، من جهة، وبما أنه كائن اجتماعي، لا يستطيع أن يحيا إلا في وسط اجتماعي من جهة أخرى، كان لابد من القول بتعاقد اجتماعي، بين الأفراد المكونين لاجتماع بشري معين، بغية تحديد أسس الاجتماع البشري هذا (بناء الدولة)، يقوم بموجبه كل فرد بالتنازل عن جزء من حريته المطلقة، لصالح كيان يعلو الجميع، هو الدولة، يحتكر وحده أدوات العنف المادي، وتكون وظيفته، أي الكيان/الدولة، ضمان عدم تعارض الحريات، وكفالة ممارستها في آن وهو ما يقتضي - بحسب النظرية - تحديد أسس بناء الدولة، ومنها تعيين طريقة اختيار الحاكم، ومدة ولايته، وصلاحياته، وطرق مساءلته وعزله...إلخ، وهذا هو لب فكرة دولة المواطنة، أو دولة المصلحة العامة..
وبموجبه فإن الحاكم هو نتاج لهذا العقد الاجتماعي وليس طرفاً فيه؛ إذ ما من وجود ل (الحاكم)، سابق على العقد الاجتماعي؛ إذ إن العقد هو من يمنح الحاكم صفة الحاكم، ويمنحه شرعيه الحكم.
والقول بأن العقد الاجتماعي عقد ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، يجعل الحاكم طرفاً في العقد والشعب طرفاً آخر؛ بمعنى أنه يجعل للحاكم مركزاً قانونياً، تعاقدياً، مكافئاً لمركز الشعب (لكل منهما حقوق والتزامات متقابلة)، وهذا ما لا يتأتى التسليم به، عقلاً ومنطقاً، وواقعاً.
فهذا القول وكأنه يريد أن يقول: إن الله خلق بعض الناس حكاماً، والبعض الآخر محكومين، وترك لهم أمر تنظيم العلاقة بينهما تعاقدياً.
وهذا يتنافى كلياً مع كون أن الإنسان يولد حراً، حرية مطلقة، الذي هو أساس فكرة العقد الاجتماعي، التي لا تعترف بوجود الحاكم، إلا إذا جاء نتيجة لهذا العقد وبالكيفية والشروط المنصوص عليهما فيه.
ويترتب على اعتبار أن الدستور عقد اجتماعي بين المكونات الاجتماعية لاجتماع بشري معين، نتائج مهمة، منها: أن الحاكم، يأتي الى الحكم وفق العقد، ويمارس السلطة، ليس كامتياز شخصي له، ولأسرته، وعشيرته، بل بوصفه نائباً أو ممثلاً عن الجماعة (المجتمع، الشعب) ولمصلحتهما. وأن للجماعة، لهذا الاعتبار، الحق في مراقبة الحاكم ومساءلته وعزله. وأن الدستور (العقد الاجتماعي هنا) أسمى من الحاكم، لكونه هو من يأتي بهذا الحاكم ويخلع عليه هذه الصفة، ويمنحه شرعية الحكم...إلخ.
وإذا كان هناك من طابع تعاقدي بين الشعب والحاكم يمكن القول به، وفق مفترضات نظرية العقد الاجتماعي، كما أفهمها، فهو أشبه بعقد الوكالة، وهو عقد لا يتمثل بالدستور نفسه (العقد الاجتماعي) بل هو عقد ناشئ على هامشه، يتمثل بالتفويض الشعبي الممنوح للحاكم بناءً على برنامجه المقدم إلى انتخابات تنافسية. وهو عقد يتيح للموكل أو المفوض (الشعب) الاحتفاظ بحقه في المراقبة والمساءلة والعزل، سواءً انحرف الحاكم أو لم ينحرف، وسواءً رضي الوكيل (الحاكم) أو لم يرض؛ إذ ليس لهذا الأخير، طبقاً للطبيعة الخاصة لعقد الوكالة وأحكامه، سوى المطالبة بأجر ما قام به من أعمال الوكالة حتى تاريخ العزل.
وتكمن خطورة القول والتصور بأن الدستور عقد اجتماعي ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، في إيجاد تطبيقات مشوهة، تنسف فكرة العقد الاجتماعي من الأساس؛ إذ يتم إيجاد حاكم أولاً ثم يسن الدستور. وذلك كما هو حاصل حالياً في مصر؛ إذ تم انتخاب مجلس نواب وانتخاب رئيس قبل سن الدستور، وعلى نحو يفهم منه وكأنه لابد من وجود حاكم (فرداً أو حزباً) أولاً، كي يتم وضع الدستور كعقد بين هذا الحاكم والشعب. وهو الأمر الذي يمكن هذا الحاكم، المنظور إليه، كطرف في التعاقد، من استخدام إمكانيات السلطة لتمرير الدستور الذي يخدمه، ويحقق مصالحه في السلطة.
وهذا هو الأمر الذي أراده رعاة المبادرة الخليجية لليمن، التي جاءت لتحول دون توصل الشعب اليمني لتأسيس دولته على أساس تعاقدي، وفق مفترضات نظرية العقد الاجتماعي سالفة البيان.
ولتقريب الفكرة إلى الذهن أكثر، يمكن تشبيه الدولة بالشركة؛ فالجمعية العمومية للشركاء، تمثل مجموع الشعب، والنظام الأساسي يمثل الدستور، ومجلس الإدارة يمثل الحكومة. ولأنه لا يمكن تصور وجود مجلس الإدارة هذا، إلا بوصفه ناتجاً عن عقد الشركة (النظام الأساسي)، وليس كطرف فيه، فلا يمكن تصور وجود الحاكم إلا بوصفه نتاجاً للدستور، وليس طرفاً فيه كذلك.
وهذا، هو ما يعطي، أساساً، كل من الدولة والشركة، بوصف كل منهما شخصية اعتبارية وجوداً مستقلاً يعلو بهما عن الشخصيات الطبيعية، المكونة لهما.
وينأى بهما عن تقلبات المصالح، الأهواء، والأمزجة، مع مراعاة الفروق الدقيقة، بينهما، بطبيعة الحال.
والفكرة الأساسية هنا، هي التركيز على ضرورة إنشاء الدولة، وتحديد شكلها، ونوع النظام السياسي، بما يكفل حل إشكالية السلطة السياسية، على أساس تعاقدي، برضا واختيار، دون إكراه أو تحايل أو تدليس أو تضليل، بين مختلف مكونات الاجتماع البشري اليمني.
(الديموقراطية فكرة).. تحديد مدة ولاية الحكم كوسيلة لتحريره من عقد الحاكم:
بقطع النظر عن الفكرة القائلة – بحق - بأن الديموقراطية هي منظومة قيم نشأت في سياق التطور التاريخي الفريد للمجتمعات الغربية.. لتمثل، لاحقاً نمط حياة أكثر منها نظرية قابلة للاستنبات والاستزراع في بيئات اجتماعية مختلفة، وهو ما يفسر الصعوبة الكبيرة في استجلابها وتطبيقها في هكذا مجتمعات.
وبقطع النظر كذلك، عن المضمون الثقافي للديموقراطية، وبخاصة لجهة القيم الثقافية، والحريات الفردية، تحديداً، التي تثير الكثير من التحفظات والاختلافات.. بقطع النظر عن كل ذلك، إلا أن ما يجب ملاحظته هو أن نجاح الديموقراطية كنظام حكم يكمن تحديداً في تحديد مدة ولاية الحاكم بفترتين فقط، لا يستطيع بعدها حتى المشرع الدستوري نفسه (مجموع الشعب) تمديدها لفترة أخرى مطلقاً أياً كانت الأسباب ومهما كانت قدرات الحاكم وكايرزميته.
فهنا، وهنا فقط، تكمن – بحق - القدرة المدهشة للديموقراطية كنظام حكم. وهذا –بالفعل – ما يعد أهم إنجاز حققه البشر على صعيد أنظمة الحكم عبر التاريخ على الإطلاق. والباقي تفاصيل...فهذا أساساً هو ما يجعل التداول السلمي للسلطة ممكناً. ولتبيان أهمية هذا التحديد، وبدون الدخول في تفاصيل القيم الاخلاقية، والثقافية، للديموقراطية، في المجتمعات المختلفة، يكفي أن نتساءل: لو أن المسلمين الأوائل كانوا في اجتماع السقيفة، المنعقد عقب وفاة الرسول(صلى الله عليه وسلم) قد اهتدوا الى الاتفاق على أمرين أساسيين: تحديد طريقة لاختيار الخليفة أو الحاكم، من جهة، وتحديد مدة ولايته، من جهة أخرى.. أفلم يكن التاريخ العربي الإسلامي قد اتخذ مساراً آخر مختلفاً جذرياً عن المسار الذي اتخذه فعلاً؟
إن عدم تحديد مدة الحكم أو ولاية الحاكم، على نحو قطعي، يجعل الحاكم لا يهتم بأن يحكم بل بأن يبقى في الحكم، ما يفقده كل حس في عمله؛ فانشغاله بإطالة بقائه في الحكم يجعله في الواقع لا يحكم بل يتحكم؛ إذ يدمن معارضة المعارضة، معتبراً أن أي معارضة لسياساته هي معارضة لوجوده ذاته في الحكم، مما يدفعه إلى التماس الحماية من خلال الاحتماء الدمجي، باختزال كل الوطن في شخصه هو، وينشغل كلياً في حبك المؤامرات المضادة، للمؤامرات التي يتوهم أنها تحاك ضده على الدوام، باعتبار أن كل معارضة له هي كما يتراءى له، معارضة للوطن نفسه.
ولأنه يصعد إلى سدة الحكم، بطريقة غير ديموقراطية، وإن اكتست لبوس الديموقراطية، ولمدة غير محددة سلفاً (على نحو قطعي)، فذلك يجعله عرضة ل(قلق المصير)، الذي يستغرقه بالكامل، ويدفعه إلى استنفاد جل جهده وطاقته في تكريس وتأبيد، وتوريث الحكم، ويصرفه عن واجباته الأساسية كحاكم.
وعلى العكس، فإن تحديد المدة، يحرر الحاكم من عقده الشخصية في الحكم، ويحرر السلطة نفسها من عقد الحاكم هذه؛ إذ إن ذلك يجعله يمارس السلطة لا كامتياز شخصي له ولأسرته، من بعده، بل بوصفه أميناً عليها، يمارسها نيابة عن الجماعة ولمصلحتها خلال أمد زمني محدد، لا بملك إمكانية تغييره أو تعديله.
وتأثير ذلك على فكرة الخلود، وفكرة الإنجاز حاسماً؛ إذ بدلاً من سعي الحاكم وحرصه على أن يتخلد في الحكم شخصياً أثناء حياته ومن خلال الجينات الوراثية بعد مماته... سيحرص على بذل أقصى طاقته لتحقيق إنجازات تخلده في ذاكرة شعبه وتاريخه،
فالمتوجب إذاً إرساء وتكريس هذه القاعدة على نحو لا يمكن النكوص عنه، وليحكم بعد ذلك من حكم، هذا سيوفر علينا الكثير من الجهود والأوقات التي نستنزفها في صراعات لا جدوى منها، ولا طائل.
التخلف أزمة معايير.. والقانون كوسيلة للتقدم
بما أن القانون هو هندسة المجتمع، فإن إحدى أهم وظائفه تتأتى من كونه وسيلة للتقدم. فالتخلف - وهو نقيض التقدم - ليس سوى أزمة حادة في المعايير. ومعيرة الحياة هي من وظائف القانون. ومن هنا فالقانون وسيلة تقدم. فلا يمكن لأي مجتمع أن يتقدم بغير القانون الذي يمعير حياته ويفتح أمامه مسارات التقدم والرقي.
وللتدليل على ذلك يكفي هنا أن نشير إلى أن تدني المعايير المنصوص عليها في الدستور الحالي كمثال متمثلة بشروط الترشح للرئاسة، ولعضوية مجلس النواب كمثال أيضاً هو واحد من أهم الأسباب المكرسة لحالة التخلف في المجتمع؛ فالنص على أن من شروط العضوية في مجلس النواب أن يجيد العضو القراءة والكتابة قاد إلى السكوت، فيما يتعلق بالمرشح للرئاسة؛ إذ لم يشترط حصوله على أي مؤهل، ما يتيح لأي أمي إمكانية الترشح لهذا المنصب، عملياً.. وليس في هذا سوى تكريس للتخلف.
وعلى العكس فإن اشتراط أن يكون المرشح للرئاسة حائزاً لمؤهل دراسي معين “كشهادة جامعية أولى في أقل تقدير ومثله أو أقل حتى بالنسبة للمرشح لعضوية مجلس النواب”، من شأنه أن يرتقي بالحياة، ويفتح الباب واسعاً للتقدم، ليس فقط من خلال حث الناس المتطلعين للترشح لهكذا مواقع على التعليم، ورفع وتأكيد قيمة التعليم في المجتمع فحسب. بل وأساساً من خلال تحسين مخرجات عمل هؤلاء على مستوى أداء الرئاسة وأداء مجلس النواب على السواء.
كما أن الاضطرار إلى تحديد معايير أقل بالنسبة للعضوية في مجلس النواب مراعاة لواقع اجتماعي معين على سبيل المثال، لا يمنع من مراعاة ضرورات التقدم، من خلال رفع معايير العضوية في مجلس آخر، يمكن إنشاؤه لهذه الغاية، كغرفة تشريعية ثانية، مجلس أعيان أو وجهاء، أو ما شابه من التسميات، الذي يتعين إنشاؤه من كفاءات رفيعة كتعويض عن تدني المعايير ‘الاضطرارية' المحددة كشروط للعضوية في مجلس النواب؛ لضمان الارتقاء بجودة الأداء التشريعي، من جهة، وضمان تمثيل متوازن للمحافظات أو الأقاليم، من جهة أخرى، مع بيان العلاقات التي يتوجب أن تقوم بين غرفتي التشريع، وصلاحيات كل منهما، بطبيعة الحال.. وبهذا المعنى يفترض أن نفهم الدستور؛ بوصفه أسمى القوانين.
وغني عن البيان أن مجمل المسائل المتوجب معالجتها وتضمينها في أي دستور مثل تحديد شكل الدولة (مركبة أو بسيطة، مركزية او اتحادية، فيدرالية...)، ونوع النظام السياسي (برلماني أو رئاسي...) وغير ذلك من الأمور المتعلقة بأسس الدولة وحقوق وواجبات المواطنة عموماً.. هي مسائل اتفاقية ‘وتوافقية' يتوجب حسمها بين مختلف القوى والمكونات السياسية
والمجتمعية المختلفة، ولا جدوى من الاستطراد في تفصيلها على أساس تفضيلات شخصية.
ولكن ذلك لا يمنع من الإشارة إلى بعض النقاط التي تثير مشكلات عدة، ويتوجب معالجتها من خلال أي عملية إصلاح دستوري.
تحديد مدة ولاية الرئيس:
لكل الاعتبارات، السالف بيانها، يتعين وعلى نحو قطعي، يتعذر النكوص عنه، تحديد مدة ولاية الرئيس بأربع أو خمس أو حتى ست سنوات، حسبما يتوافق عليه بين مختلف المكونات، مع تقرير إمكانية ترشح من يفوز بمنصب الرئيس لولاية ثانية وأخيرة بذات المدة، وعلى أن يتضمن أي إصلاح دستوري نصاً بعدم جواز الترشح لأي مدة أخرى، مهما كانت الظروف، وبعدم جواز تعديل النص الدستوري، هذا، تحت أية ذريعة، ومهما كانت الأسباب والمبررات، أي بحيث لا يتم إدراج هذا النص ضمن مواد الدستور الجائز تعديلها من قبل مجلس النواب (كما هو الحال في الدستور الحالي)، ولا ضمن المواد التي لا يجوز تعديلها إلا بالاستفتاء، كذلك.
استقلال القضاء:
واحدة من أكبر معوقات سيادة القانون ترجع الى عدم استقلال القضاء استقلالاً تاماً؛ ذلك أنه لا قيمة لمبدأ فصل السلطات مع بقاء القضاء مرتبطاً بالسلطة التنفيذية على أي نحو وإلى أي مدى.. فلا دولة مدنية (دولة مواطنة) دون استقلال القضاء.
القضاء المستقل هو بالنسبة لهذه الدولة بمثابة العمود بالنسبة للخيمة، ولا يتصور إمكانية قيام هكذا دولة دون استقلال القضاء، وضمان فصل السلطات على نحو تام. فلا سيادة للقانون دون قضاء مستقل بقضاة لا سلطان عليهم لغير القانون.
الحياد الوظيفي:
لأن النظام السياسي يقوم على التعددية الحزبية، وصار من المتعذر النكوص عن هذا المبدأ. فإن تكريس هذا المبدأ ‘الهام' دون وضع ضوابط دستورية تكفل حياد الوظيفة العامة بما هي خدمة مدنية إدارية، والنأي بها عن تقلبات السياسة يجعل جهاز الخدمة المدنية عرضة للأهواء والصراعات الحزبية، الأمر الذي يقوض الطابع المؤسسي للدولة، ويقود إلى اضطراب الإدارة العامة، وينعكس سلباً على مجمل خطط وبرامج التنمية، بسبب تعاقب الأحزاب على السلطة حسبما يفترض.
ففوز حزب ما يؤدي إلى تغيير كافة المواقع الوظيفية في الجهاز الإداري للدولة على أساس الولاء السياسي، الحزبي، وهو الأمر الذي يؤدي إلى مشكلات جمة، في حال فوز حزب آخر في دورة انتخابية تالية، فرضاً؛ ذلك أن كافة من تم تعيينهم على أساس حزبي من قبل الحزب السلف، لن يتعاونوا مع الحزب الخلف، وسيعمدون إلى إفشاله، مما سيضطر هذا الأخير إلى إعادة التعيين على أساس حزبي... وهكذا.
وذلك يخلخل الطابع المؤسسي للجهاز الإداري للدولة، مع ما يعنيه ذلك من إهدار معايير الكفاءة والنزاهة لمصلحة معيار الولاء الحزبي، وهو ما ينعكس سلباً على كفاءة الأداء الإداري، وإعاقة خطط التنمية عموماً.
ومع أن البلد لم يسبق أن شهد تجربة التداول السلمي للسلطة إلا أنه يمكن ملاحظة تلك المشكلات، وغيرها، في تجارب الائتلافات الحزبية السابقة، وفي تجربة حكومة الوفاق الحالية.
ولتجنب كل ذلك لابد من وضع ضوابط دستورية تضمن استقرار الجهاز الإداري للدول، بحيث تبقى الوظائف حتى درجة وكيل وزارة ‘مثلاً' خاضعة لمعايير الخدمة المدنية الثابتة، المتعلقة بالكفاءة والجدارة والاستحقاق ‘بحياد تام' عن السياسة والأحزاب. وقصر حق الحزب الفائز بالانتخابات ‘الذي يشكل الحكومة' على الوظائف السياسية، الإشرافية، العليا فقط.(من مستوى نائب وزير، ووزير...).
الحصانات.. موانع المساءلة والعقاب:
لأن السلطة تقابلها المسئولية، ولا يوصف من يتولاها إلا بكونه (مسئولاً)، أي باعتباره مساءلاً وعرضة للمحاسبة.
ولأن المسئولين يمارسون السلطة، نيابة عن الشعب (مالكها ومصدرها) ولمصلحته، وليس لمصلحتهم هم. ومن أجل إرساء أسس الحكم الرشيد، لابد إذاً من تفعيل مبدأ المسئولية، وذلك بإلغاء (الحصانات) المقررة للرئيس وكبار المسئولين، في الدستور الحالي، ومن ثم، في قانون محاكمة شاغلي وظائف السلطة العليا. مع ملاحظة أن النص في المادة (128) من هذا الدستور، الجاري على نحو: (يكون اتهام رئيس الجمهورية بالخيانة العظمى أو بخرق الدستور أو بأي عمل يمس استقلال وسيادة البلاد بناء على طلب من نصف أعضاء مجلس النواب، ولا يصدر قرار الاتهام إلا بأغلبية ثلثي أعضائه ويبين القانون إجراءات محاكمته....)، يحصن من يشغل منصب الرئيس ويجعل من إمكانية مساءلته ومحاكمته أمراً متعذراً.
وهو الأمر الذي ينسحب، بدرجة أو بأخرى، على شاغلي الوظائف الأدنى، كنتيجة مباشرة لارتباطهم بمن يشغل منصب الرئيس. والأخطر أن هذه الحصانة لا تقتصر على ذلك، أو ليتها تقتصر على ذلك فحسب، بل تمتد لتؤثر، وتخلخل أسس النظام السياسي برمته، ذلك أن تعقيد أمر اتهام الرئيس، بما ذكر من اتهامات، بحصره على مجلس النواب، وبالنسب الكبيرة تلك، يدفع الى الحرص والاستماتة في الحصول على أغلبية ساحقة، وكاسحة، في مجلس النواب، في كل دورة انتخابية، للحيلولة دون إمكانية اتهام الرئيس من قبل أي كتلة، أو كتل برلمانية، لحزب أو أحزاب المعارضة.
وهو ما يقود ويدفع إلى استخدام وتوظيف كل إمكانات الدولة المختلفة في المنافسات الانتخابية، وإلى تزوير الانتخابات والتلاعب بنتائجها، لضمان فوز حزب الرئيس بالأغلبية المطلوبة، وما شهدناه في السابق، من حرص واستماتة، من أجل حصول حزب الرئيس على الأغلبية الكاسحة، في كل دورة، يرجع إلى هذا السبب بالذات، وليس إلى ضرورة نجاح حزب الرئيس في تنفيذ برنامجه الانتخابي، حسبما يتخيل البعض. وهذا ما يوجب ترك أمر اتهام الرئيس، بأي تهم كانت، لسلطة الادعاء العام، وبالشروط وبالإجراءات المناسبة.
هذه بعض أهم النقاط التي يتعين أخذها بعين الاعتبار عند الإعداد لأي دستور، أو القيام بأي إصلاح دستوري، مما أمكن التطرق إليه هنا على سبيل التمثيل فحسب، وهي لا تغني، بطبيعة الحال، عن التطرق لنقاط أخرى عديدة، لا تقل أهمية، مما لا يسمح الحيز المتاح للتطرق إليه تفصيلاً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.