مانشستر سيتي يقترب من حسم التأهل لدوري أبطال أوروبا    خلال 90 دقيقة.. بين الأهلي وتحقيق "الحلم الآسيوي" عقبة كاواساكي الياباني    الهلال السعودي يقيل جيسوس ويكلف محمد الشلهوب مدرباً للفريق    اللجنة السعودية المنظمة لكأس آسيا 2027 تجتمع بحضور سلمان بن إبراهيم    غارات اسرائيلية تستهدف بنى تحتية عسكرية في 4 محافظات سورية    احباط محاولة تهريب 2 كيلو حشيش وكمية من الشبو في عتق    رئاسة الحكومة من بحاح إلى بن مبارك    إذا الشرعية عاجزة فلتعلن فشلها وتسلم الجنوب كاملا للانتقالي    سنتكوم تنشر تسجيلات من على متن فينسون وترومان للتزود بالامدادات والاقلاع لقصف مناطق في اليمن    صحيفة: أزمة الخدمات تعجّل نهاية التعايش بين حكومة بن مبارك والانتقالي    الفريق السامعي يكشف حجم الاضرار التي تعرض لها ميناء رأس عيسى بعد تجدد القصف الامريكي ويدين استمرار الاستهداف    الفريق السامعي يكشف حجم الاضرار التي تعرض لها ميناء رأس عيسى بعد تجدد القصف الامريكي ويدين استمرار الاستهداف    مسلحون يحاصرون مستشفى بصنعاء والشرطة تنشر دورياتها في محيط المستشفى ومداخله    الطيران الأمريكي يجدد قصف ميناء نفطي غرب اليمن    وزير سابق: قرار إلغاء تدريس الانجليزية في صنعاء شطري ويعمق الانفصال بين طلبة الوطن الواحد    باحث يمني يحصل على برأه اختراع في الهند    هزتان ارضيتان تضربان محافظة ذمار    الكوليرا تدق ناقوس الخطر في عدن ومحافظات مجاورة    غزوة القردعي ل شبوة لأطماع توسعية    "الأول من مايو" العيد المأساة..!    وقفات احتجاجية في مارب وتعز وحضرموت تندد باستمرار العدوان الصهيوني على غزة    احتراق باص نقل جماعي بين حضرموت ومارب    البيع الآجل في بقالات عدن بالريال السعودي    حكومة تتسول الديزل... والبلد حبلى بالثروات!    الإصلاحيين أستغلوه: بائع الأسكريم آذى سكان قرية اللصب وتم منعه ولم يمتثل (خريطة)    من يصلح فساد الملح!    مدرسة بن سميط بشبام تستقبل دفعات 84 و85 لثانوية سيئون (صور)    البرلماني بشر: تسييس التعليم سبب في تدني مستواه والوزارة لا تملك الحق في وقف تعليم الانجليزية    السامعي يهني عمال اليمن بعيدهم السنوي ويشيد بثابتهم وتقديمهم نموذج فريد في التحدي    السياغي: ابني معتقل في قسم شرطة مذبح منذ 10 أيام بدون مسوغ قانوني    شركة النفط بصنعاء توضح بشأن نفاذ مخزون الوقود    التكتل الوطني يدعو المجتمع الدولي إلى موقف أكثر حزماً تجاه أعمال الإرهاب والقرصنة الحوثية    مليشيا الحوثي الإرهابية تمنع سفن وقود مرخصة من مغادرة ميناء رأس عيسى بالحديدة    "الحوثي يغتال الطفولة"..حملة الكترونية تفضح مراكز الموت وتدعو الآباء للحفاظ على أبنائهم    شاهد.. ردة فعل كريستيانو رونالدو عقب فشل النصر في التأهل لنهائي دوري أبطال آسيا    وفاة امرأة وجنينها بسبب انقطاع الكهرباء في عدن    سوريا ترد على ثمانية مطالب أميركية في رسالة أبريل    صدور ثلاثة كتب جديدة للكاتب اليمني حميد عقبي عن دار دان للنشر والتوزيع بالقاهرة    فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    جازم العريقي .. قدوة ومثال    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يفوز بالكلاسيكو الاسباني ويحافظ على صدارة الاكثر تتويجا    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حين عجزنا عن إدارة عملية التحضر، وغابت التشريعات والمواءمة، واختفت عدالة التوزيع والاهتمام بتنمية الريف..
فقراء الحضر.. البديل الأسوأ عن حياة الريف..!!
نشر في الجمهورية يوم 09 - 04 - 2013

لم أكن أتوقع أن تبلغ نسبة من يسكنون المدن في البلدان العربية أكثر من 56 % من إجمالي السكان، لكنها الحقيقة، ومن المتوقع أن تصل النسبة إلى 75 % بحلول عام 2050. مسببات عدة صنعت ذلك، أسهمت الظواهر الطبيعية كالجفاف والقحط بجزء منها، إلى جانب الأزمات السياسية المتوالية، وما تمخض عنها من معاناة اقتصادية لا حدود لها، جرفتنا صوب عملية تحضر سريعة وزيادة مستوى النزوح الريفي نحو الحضر..
ففي اليمن شهدت الأعوام القليلة الماضية نزوحاً هائلاً نحو المدن، أعداد لا تحصى من العائلات حملت أمتعتها لتحط رحالها في أي من المدن، التي ترى أنها الأنسب للاستقرار فيها، والبدء في تكوين حياة جديدة.. إنهم يحلمون بعيش أرغد ونعيم أوفر وحياة صحية واجتماعية أرقى. غير أن الأيام أثبتت خلاف ذلك، فربما لن يحصلوا من حلمهم على شيء، ولن يسلموا أيضاً من ويلات ومخاطر ومساوئ العيش في تلك المدن.
فقد كشفت تقارير كثيرة الحقائق الغامضة عن حياة الحضر، وكيف يمكن أن يكون الناس قد أخطأوا الحسبة أو بالغوا جداً في التقديرات، حين تركوا الحياة الآمنة المطمئنة ليقصدوا حياة التعب والكدر. فلأول مرة في تاريخ البشرية تبين أن أكثر من نصف سكان العالم يقطنون المدن.
من مسرح الواقع
لطالما امتزجت كثيراً مشاعر من الحزن والفرح واختلطت دموع الفرحة بالبكاء المرير، في مشاهد درامية عجيبة حين تستيقظ القرى تودع أفراد عائلة, عقدت أمرها وأقرت على هجر ريفها الغالي طلباً للمدنية، بعد أن أتت سنوات القحط والجفاف على أكلها وعشبها، واستسلمت للأمر بقراتها العجاف، فرأت في سفرها الفرج والمخرج، وإن كانت رحلة بلا دراسة جدوى أو مخطط مسبق أو استطلاع للرأي العائلي العام.
ولقد باتت المئات من النسوة في تلك الليلة يندبن حظهن العاثر، وربما يتمنين الموت ويسألن الله لأزواجهن “القرويين” الهلاك عاجلاً غير آجل، أو يجعل الله لهن بين ذلك سبيلا.
في المشهد التالي، تقترب العائلات من المدن بقدر ما سمحت لها جرأتها الريفية ثم تستقر، لا يهمها ما استقرت عليه، بقدر ما يهمها أنها داخل حدود المدينة، ليقال نعيش في مدينة كذا. ثم تبدأ الرحلة المضنية لولي الأمر بحثاً عن دخل يستر فيه نفسه وعياله، والعائلة صابرة محتسبة مهما بلغت بهم درجة التقشف وضنى عليهم صلف العيش وقسوته، يرجون فرجاً يأتيهم غدا، يمنون أنفسهم الثبات فلا طاقة لتحمل جور السخرية لو عادوا لقراهم، بعد أن ظن الجميع أن الله قد نجاهم منها.
وفي المشهد الثالث: طفح الكيل، نفد الصبر، اختل التوازن، لقد أدرك الرجل مدى سخافته حين سقط على حين غفلة من رشده في شرك حلاوة حديث نسوي عذب وأمنية زائفة، لقد عقد أمره على أن يتحمل الجميع تبعات ما حدث، وبعد أن أتت الأيام على لينه وعاطفته انطق ذات ليلة حكمه قاضياً بتقسيم مهام البقاء في المدنية على أفراد مملكته، كل فيما يخصه بلا مراعاة للاختلافات العمرية والجنسية والقدرات والمواهب والأساليب، على أن يتم التقيد به والعمل بموجبه من تاريخه، وأمام صرامة القانون وصلف العيش قضى الجميع ليلتهم يرسمون ملامح المرحلة القادمة، ثم انطلقوا صباحاً ينشدون فضاءات رحبة لتحقيق أمانيهم وطموحاتهم، غير مدركين أن الأقدار بذلك قد أخرجتهم خدجاً عن الرحم الحنون وكيان الأسرة الدافئ، ومحال ألف محال العودة بعد الميلاد مهما كانت الكينونة أو الكيفية التي تم بها. ليس عليهم الآن إلا مواجهة القادم والتكيف مع حلوه ومره.
المشهد الذي يليه، هو أصعب المشاهد وغالباً ما يكون خاتمة الفصول، لا نهتم لطول مدته أو قصرها، ترد في لحظاته ألوان من البؤس والمعاناة والحزن والمرارة، وربما تختلط بشيء من الفرح والمتعة الزائفة أيضاً، تقاسمها الجميع كما قسمتهم المهام لأول مرة.
وعلى أحد أرصفة المستشفى تجلس امرأة عجوز أنهكها التعب، ينام في حجرها طفلاً تدلت قدماه على الأرض، يومئ إليها رجل مسن من بعيد، “بقي القليل ويأتي دورنا”. لا أحد غيرهم في الصورة، لقد غاب الآخرون وربما فقدوا، وننتظر من الجهات المعنية التحقيق في الأمر والإفادة بما يتم التوصل إليه.
لماذا فقراء..؟!
لن نجد إجابة، فالفقر كلمة وجدت مع وجود الإنسان، واتخذت أبعاداً متعددة في الظهور كمشكلة مؤثرة على الحياة، قدم لها العلماء والباحثون آلاف التعريفات من منطلق اتجاهاتهم الفكرية وواقع حياتهم المعاشة، فبدت تلك التعريفات أشبه بتوصيف العميان للفيل كما يقال، ما أعطى للفقر صفة النسبية يقف الإجماع عليه عند حدود الحرمان من الضروريات عموماً، وليست المادية فقط. فهو تعبير عن مشكلة مركبة تتداخل بها عدة معايير ومؤشرات ترسم صورة لواقع اجتماعي واقتصادي وثقافي وحتى سياسي من نوع آخر، وتنطبق بشكل لا يصدق على واقع أشكال الحياة وسط الأحياء الفقيرة في المدن اليمنية. إنهم بحق “ فقراء الحضر”.
مؤشرات سكانية
مهما كانت الدوافع التي رمت بسكان الأرياف بشكل مخيف نحو المدن، سنتجاهلها ، ونبدأ صحبتهم من لحظة محط رحالهم، نجول بين تفاصيل وأرقام وإحصاءات رسمية ستفضي بنا في النهاية بلا شك إلى صورة واضحة المعالم لما آل إليه حال هؤلاء مهما طالت رحلة الزمن بهم.
لو أن آخر الإحصاءات الرسمية كشفت لك عن أن قرابة ثلثي سكان المدن اليمنية يقطنون في الأحياء الفقيرة فلا تستغرب، إنه حاصل ضرب حتمي للزيادة السكانية الهائلة وأسعار الأراضي والمضاربة العقارية, مضروباً في نقص الموارد الاقتصادية والدخل المتدني للفرد، وفي خانة النتيجة أزمة سكن حقيقية بكل ما تعنيه الكلمة.
فالزيادة التي أكدتها الأشغال العامة بلغت 3.7 في المائة سنوياً، وقدرت حجم عجز المساكن في اليمن بحوالي 215 ألف مسكن، ليصبح إجمالي الاحتياج السكني الفعلي عام 2010 م حوالي 788 ألف مسكن، ولنا أن نتوقع كم صار العدد الآن.
- يجب أن نعترف بحقيقة ما تعنيه هذه الأرقام، ثم نعترف بالتحضر العشوائي الممتد على مساحات هائلة من الحارات البشرية الفقيرة التي يواجه الناس فيها فقراً مدقعاً ومشكلات جمة تواجه صحة البشر وحياتهم. بدا من وسائل الإصحاح وحفظ النظافة الشخصية والإسكان، وما يرافقه من تحديات مختلفة متصلة بالمياه والبيئة و العنف والإصابة بالأمراض غير السارية وعوامل الاختطار، فضلاً عن المخاطر المرتبطة بفاشيات الأمراض.
حتى صارت واحدة من أهم القضايا العالمية بعد أن عجزت الحكومات الفقيرة عن الوقوف أمامها واستعصى علاجها.
معاناة وغياب عدالة
من المؤكد أن البيانات والإحصاءات التي تكشف المخاطر المتعلقة بالفقر والفقراء من سكان الحضر في اليمن نادراً ما تتجمع لتعطي متوسطاً حقيقياً يوضح الصورة، الأمر الذي تسبب في طمس الفوارق القائمة بين الأغنياء و الفقراء حتى حجبت حقيقة أوضاع هؤلاء الذين لا تقف مشكلاتهم عند مخاطر التعرض للعنف والإصابة بأمراض مزمنة وسارية ومعدية أو الوفاة الناجمة عن العنف والإصابات.
إن زيارة واحدة لأي من الأحياء الفقيرة في مدينتك أو المدينة الأقرب منك كفيلة بأن تروي ظمأك المعرفي عن هؤلاء، فضلاً عن زيارة أخرى لأي من الأحياء العشوائية للمهجرين أو منازل الصفيح أو حارات المهمشين. تطلع يميناً وشمالاً، راقب عن قرب تحركات هؤلاء ومستوى نظافة أزقتهم ومنازلهم، النظافة الشخصية لهم ولأبنائهم، نبض الحياة في شوارعهم، اقترب أكثر من حوانيتهم وخدماتهم، وقد يدفعك فضولك فتلتقي أحد أعيانهم فتسأله عن جودة الخدمات والتخطيط الحضري، ومدى حضور الجهات الرسمية في تلك الأحياء وبأي صورة.
أنا على يقين أنك لن تنام ليلتك تلك، تنتظر صباح الغد حيث ستقوم بزيارة أخرى مماثلة، لكن هذه المرة لأحد الأحياء الغنية في المدينة، وستتبع نفس الأسلوب والتنسيق، وبعد عودتك في المساء، ستحاول جاهداً تقريب الصورتين من بعضهما على حائطك المنزلي أو في سطح حاسوبك، ستصاب بالدهشة، قوة تنافر رهيبة تجعل من المستحيل تقارب الصورتين لأن كليهما يمشي في اتجاه مضاد إلى ما شاء الله.. ولتكتمل صورة المعاناة، اجهد نفسك قليلاً على باب أي من المستشفيات الحكومية أو المراكز الصحية أو حتى العيادات الصغيرة في الحارات، تسأل من مر بجانبك: أين تسكن؟ لن تكتب كثيراً، لأن الإجابة واحدة: في حي فقير!!!! وليت الأمر ينتهي عند هذا الحد.
حقائق صحية مخيفة
إذا كانت الحصائل الصحية التي أقرتها منظمة الصحة العالمية تتحدد نتيجة لعدد من العوامل البيئية والاجتماعية والمتعلقة بالبنية التحتية الأساسية المادية، والتي تشمل المياه وجودة الهواء وأوضاع العمل والمعيشة وإمكانية الوصول إلى الخدمات والموارد، فضلاً عن عدد من القضايا الأمنية المحتملة، فماذا نتوقع أن تكشف لنا هذه الحصائل من مآسٍ، وسط تلك الأحياء الفقيرة؟ فقد ذكرت تقارير الصحة العالمية أن التكدس وارتفاع الكثافة السكانية من عوامل الخطر المباشر لانتقال الأمراض السارية، وخاصة الأمراض التي يحملها الهواء مثل السل، وإن نحو 32 % من فقراء الحضر يعانون من أقل وسائل الصحة، في حين تعزى حوالي 3 % من جميع الوفيات إلى قلة المصادر المحسنة لمياه الشرب، كما أن الوثوق بإمدادات مياه الشرب المجلوبة بالمواسير يشجع على تخزين الماء في البيوت، وهذا يقترن بمخاطر التلوث وأمراض الإسهال، وتكاثر نواقل المرض الضنك والملاريا..
كما تؤكد تلك التقارير أن معظم الوفيات الناجمة عن حوادث السير تحدث في البلدان النامية، وأن تلوث هواء المدن يودي بحياة حوالي 1.2 مليون نسمة في أنحاء العالم، فصحتهم برمتها تتأثر بظاهرة التلوث وعدم الأمان في الشوارع إلا أن الفئات التي تتعرض لأعظم المخاطر تشمل في العادة الأطفال والمسنين وذوي الاحتياجات الخاصة والفقراء؛ لأنهم يميلون عادة إلى التعويل على المشي واللجوء إلى وسائل النقل العام. وأن 80 % من عبء الأمراض المزمنة تصحبه تداعيات هائلة من حيث إمكانية الوصول للرعاية طويلة الأمد وجودتها وتكلفتها.. وفي جانب الأم والطفل فإن التحضر السريع قد حال دون المساواة في التوصل إلى خدمات الرعاية الحاذقة فيما يخص عملية الولادة وخدمات الرعاية الطارئة، فالنساء في الأحياء الفقيرة لا يستطعن الحصول على أبسط خدمات الرعاية الصحية بيسر ويحرمن وأطفالهن من تلقي الرعاية المناسبة خلال فترتي الحمل والولادة، حتى أن معظم العمليات القيصرية تجري وسط الأغنياء والنساء الأكثر حظاً.
نصف الصورة
عذراً.. لقد وردت عن الجهات الرسمية معلومات عن بعض أفراد الأسرة الذين غابوا عن الصورة السابقة (على رصيف المستشفى)، حيث كشف برلمان الأطفال عن أكثر من 600 الف طفل يمني، يمتهنون أعمالاً شاقة وخطرة لا تتناسب مع أعمارهم.
إنه جزء من الأحجية، يدفعنا للتساؤل بروية: ما ذنب هؤلاء؟ لعله الفقر. فأكثر من 75 % من الأطفال العاملين يفعلون ذلك لتغطية مصروفات الأسرة، تليها مهمة تغطية نفقات الدراسة، لتوزع بقية النسب بين سوء المعاملة والخلافات الأسرية وتحقيق الذات والجهل بأهمية التعليم.
لقد دفعت الأحياء الحضرية الفقيرة بهؤلاء نحو المجهول، وجعلتهم عرضة للمخاطر والممارسات السلبية كالإدمان واستغلالهم في أعمال غير مشروعة أو جنسية مخلة بالآداب.. فالهجرة من الريف إلى المدينة من أهم أسباب ظهور أطفال الشوارع، إلى جانب الفقر والبطالة والحروب والعوامل الأسرية الأخرى، بحسب أستاذ الاجتماع السياسي بجامعة صنعاء الدكتور فؤاد الصلاحي في إحدى دراساته.
- والنتيجة إما أطفال يعيشون في الشارع باستمرار أو أطفال يعيشون على الشارع فيمارسون فيه مهناً هامشية رغم بقائهم على اتصال بأسرهم. أعمارهم بين 6 14 سنة، يغلب عليهم الطابع الذكوري بنسبة 70 %، يقف مستواهم التعليمي عند التعليم الأساسي. أغلبهم أشاروا إلى أن أسرهم تعتمد كثيراً على ما يكسبونه من الشارع سواء من التسول، أو من الأعمال الهامشية التي يقومون بها، فمعظمهم هاجرت أسرهم حديثاً من الريف. وليت الأمر يقف عند هذا الحد.
النصف الآخر
تتوالى الأيام وتكشف الكثير من الأمور بالغة السوء، لم نكن أبداً بمنأى عنها، فقد صنعناها بأيدينا على حين غفلة أو تغافل أو كان لنا باع في إيجادها للواقع، وأياً كان القدر الذي شاركنا به سيظل وزرها يلاحقنا كالأشباح حتى الموت.. فهل يمكن أن ننكر أن للتحضر العشوائي غير المسئول دوره في تنامي جرائم الإتجار بالبشر، تجارة الجنس، تجارة الأعضاء، اختطاف الأطفال وتهربهم، استغلالهم جنسياً داخلياً وخارجياً.
إن غالبية المتهمات في المحاكم - بحسب دراسات حقوقية- وكذا نزيلات السجون، ممن مارسن أعمال الدعارة ليس لديهن عمل، أو أن دخلهن لا يغطي النفقات العائلية والشخصية، والبعض لديهن أسر يقمن بإعالتهن وأخريات زوجات صورية كغطاء لامتهان الدعارة تحت رضا الزوج الذي لا يكفيه دخله لإعالة أسرته.
- هل أدركنا الآن ما الذي صنعناه بأسرنا؟ لقد تركناهم فرائس لذئاب بشرية نهشت أجسادهم وصنعت منهم دمى لبائعات الهوى، وبنات الدعارة في دور انتشرت تحت ظلال السرية أحياناً وظلال الرسمية أحياناً أخرى.
ربما كان الإكراه مبتدأها لكن سرعان ما يصطبغ الخبر بحلاوة اللذة وروح المغامرة وقوة الحرية المنطلقة نحو أفق المجهول، والنهاية رهائن على ذمة فساد أخلاقي، وسط تحذيرات تطلقها منظمات حقوقية من خطورة ذلك، في وقت لا يتوفر فيه لديها أو لدى الجهات الحكومية سوى اليسير من الأرقام، مقارنة بالواقع بسبب تكتم الكثير من الضحايا والأهالي خشية العار ومساس الشرف.
إنه الجزء الآخر المفقود في الصورة السابقة (على رصيف المستشفى). وبه بدأت الصورة تتضح، و انكشفت سؤة الجرم المتكون عن قبيح فعل قضى بهجران الريف الأمين.. وليت الأمر ينتهي عند هذا الحد.
محصلات نهائية
ما زالت التبعات تتوالى في عدة اتجاهات، حيث نعى الريف اليمني على لسان المركز الوطني للمعلومات، سواعد أبنائه الشابة القادرة على الإنتاج والعطاء فتعثرت المشاريع الريفية وتدهورت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية فيها، وغابت فرص العمل الحقيقية للمختصين من أبنائها، واندثرت الكثير من الأعمال الريفية المميزة، وزادت نسبة الأمية والجهل.
أما في المدينة فقد تسببنا بخلل دائم في عملية البناء والتنمية، زحام خانق، غلاء سكن، بناء عشوائي غير مخطط، مشاكل صحية، انتشار التسول، زيادة الباعة المتجولين، استغلال سيئ لأرصفة الشوارع والمتنزهات.
لم تعد المدن قادرة على تلبية الحاجات الأساسية للسكان، ونمو وتطور الخدمات لا يواكب ذلك، ولا يوافق معايير احتياجات السكان ولا يراعي النواحي البيئية، من حيث توزيع المرافق والخدمات ومواقع العمل والصناعة والإنتاج، حتى أن في العاصمة صنعاء مصانع عدة هي في غير مكانها الطبيعي حالياً، وإن كان موقعها من قبل طبيعيا.
لم يبق إذن لمواجهة قدرة المدن على موجات النزوح سوى اعتماد إجراءات كثيرة لتحسين التخطيط الحضري وهو ما يراه الكثير أشبه بالمستحيل في المرحلة الحالية.
فقد أكد مختصون بالشأن السكاني عجز البناء الهيكلي للمؤسسة الإدارية في اليمن عن إدارة عملية التحضر في ظل غياب التنظيمات والقوانين والتشريعات، أو عدم قابليتها للتطبيق.. إلى جانب غياب المواءمة وعدالة التوزيع بين الموارد والخدمات والاهتمام بالتنمية المستدامة للريف.
لعلنا الآن أدركنا كيف غاب الرشد عن كثير من العائلات حين باعوا ريفهم الغالي برخيص المدنية، وكيف وجدوها البديل الأسوأ والأقبح عن حياة الريف.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.