لم يكن الصوم - كشعيرة دينية، وفريضة إلهية - من الخصوصيات التي اختص الله سبحانه وتعالى، بها أمة محمد “صلى الله عليه وسلم”، فهو شعيرة ومنسك عرفته شرائع وأمم الرسل السابقين. وعن هذه الحقيقة يتحدث القرآن الكريم، وهو يشرع لفريضة الصوم على المسلمين, فيقول:{يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}. وعندما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمهاجرون من مكة إلى المدينة، وجدوا اليهود يصومون في ذكرى نجاة موسى عليه السلام من فرعون، فأحيوا هم أيضاً هذه الذكرى بالصيام، تعبيراً عن معنى وحدة الدين الإلهي واستمرارية الشرائع ما لم يقض فيها الله بالنسخ والاستبدال والتطوير.. وكذلك كان للنصارى صيامهم الذي ربطوه بحادثة الصلب. لكن السنة الثانية للهجرة - والشهر الثامن عشر من شهورها - على أرجح الآراء.. قد شهد تشريع فريضة الصوم الخاصة بأمة الرسالة الخاتمة، صوماً متميزاً في منسكه من حيث أوقات الإمساك عن شهوات الطعام والشراب والفروج، ومن حيث عدد الأيام، ومن حيث موقع هذه الأيام في شهور العام، ومن حيث التقويم القمري الذي كان تقويم العرب والإسلام. وإذا كانت مواقيت الشعائر والفرائض الدينية لا تخلو من حكمة يحققها التوقيت - حتى وإن خفيت علينا في بعض الأحايين - فإن البحث عن الحكمة التي جعلت شهر رمضان، دون غيره من شهور السنة القمرية، هو شهر الصيام للأمة الإسلامية.. إن البحث عن حكمة هذا التوقيت قد يفتح أمامنا سبلا لاكتشاف مزيد من العظمة والتعظيم لهذا الركن من أركان الإسلام.. بل إنه لفاتح أمام بصائرنا طرقا إلى المعاني الحقيقية الجديرة بالتجسيد والإحياء في هذا الشهر العظيم.. شهر رمضان. إن الصوم في الاصطلاح الشرعي للإسلام هو الامتناع عن شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر إلى غروب الشمس أيام شهر رمضان.. لكنه إذا وقف عند هذا “الطقس” فقد لا يكون لصاحبه منه سوى آثار “الجوع والعطش”- كما جاء في الحديث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم - ذلك أن الصوم هو في حقيقته “تعبيد” للإنسان، يديم “حضور العبودية”، بألوان من “الحرمان”، تجعله مدرسة عظمى لتربية الإرادة الإنسانية على “الحضور - الطائع” للخالق، سبحانه وتعالى وحده، ودونما رقيب أو شريك، الأمر الذي يخلص هذا العمل لله، دونما رياء.. ولذلك قد يحار ويستغرب الذين لا يعلمون رسالة الصوم في تربية الإرادة الإنسانية، كيف كان رمضان - شهر الحرمان والمعاناة والمكابدة – هو شهر أبرز الانتصارات الإسلامية على أشرس التحديات التي هددت “الدعوة” و “الأمة” و« الوطن».. منذ “بدر الكبرى” سنة 2 ه.. إلى “فتح مكة” سنة 8 ه.. إلى “حرب رمضان” سنة 1393 ه.. لكن.. لماذا في رمضان؟ لكن السؤال الباحث عن حكمة توقيت الصيام الإسلامي لا يزال قائماً.. لماذا كان هذا المنسك، الذي مثل ويمثل “مدرسة التربية الإسلامية للإرادة” في شهر رمضان دون غيره من الشهور؟.. إن القرآن الكريم يحدثنا عن أن هناك أربعة أشهر حرم - وهي “رجب” و “ذو القعدة” و “ذو الحجة” و« المحرم»، ولها عند الله فضل واختصاص، حتى لقد جعلها مكرسة للسلام وتنمية العمران، وحرم فيها القتال{ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين}. لكن الله سبحانه وتعالى قد جعل الصيام - هذا الركن العظيم من أركان الإسلام - في رمضان، ولم يجعله في واحد من هذه الأشهر الحرم.. فلماذا؟!.. وإذا كانت الهجرة النبوية قد مثلت بالنسبة للإسلام الدعوة.. والدولة: “الحدث - المنقذ” من إحاطة الشرك واقتلاع الفكر للإيمان.. فلم لم يكن شهر الهجرة - ربيع الأول - هو شهر الصوم، كما كان حال الصيام في شريعة بني إسرائيل، في ذكرى نجاة موسى ومن معه من فرعون وملئه؟!.. ولماذا كان الاختيار الإلهي لشهر رمضان بالتحديد، ودون غيره من الشهور؟!.. إن القرآن الكريم لا يترك الإجابة عن السؤال الباحث عن “حكمة” هذا التوقيت للاجتهاد والاستنتاج.. فآياته البينات قد تحدثت عن “لحظة الميلاد” للأمة الإسلامية الخاتمة، تلك التي تجسدت في لحظة “الظهور للدين” الذي ميز هذه الأمة، وجعل من دينها الطور الخاتم لرسالات الدين الإلهي الواحد، والشريعة العالمية التي استكملت وأكملت للإنسان مكارم الأخلاق.. ولقد كانت بداية هذه “اللحظة” هي نزول “الروح الأمين” على “الصادق الأمين” بأولى آيات القرآن الكريم، لحظة “مطلع الفجر” في ليلة من الليالي الوتر في العشر الأواخر من شهر رمضان “في غار حراء”. في هذه “اللحظة”، التي أضاءت فيها الأرض بنداء السماء{ اقرأ باسم ربك الذي خلق}، بدأ نزول القرآن في ليلة القدر.. وهي “لحظة” “مطلع الفجر” - الذي هو مولد النهار - وفيها نزل الكتاب - الذي ولدت منه الأمة - عندما خرجت عقيدتها وشريعتها وحضارتها.. ووحدتها في “الأمة” و “الدار” من بين دفتي هذا الكتاب الكريم.. ولقد كان ذلك “الميلاد” في شهر رمضان.. فكان صومه - دون غيره من الشهور - الاحتفال الإسلامي بميلاد هذه الأمة، في مطلع الفجر من ليلة القدر في رمضان في السنة التي سبقت الهجرة النبوية بثلاثة عشر عاماً.