في يوم الأربعاء الأسود من عام ،1992 كما يطلق عليه في بريطانيا، استطاع أحد المضاربين على العملات تحطيم العملة البريطانية وجني ما يقارب من مليار دولار في يوم واحد وتسبب في خسارة البنك المركزي البريطاني لمليارات الدولارات في غضون ساعات أو أيام معدودة، وقد وصف هذا المضارب المجنون حين ذاك "بالرجل الذي حطم بنك إنجلترا"، وبعد عدة سنوات وبالتحديد في عام 1997 استطاع نفس المضارب من جني المليارات . وقد أدت هذه المضاربات إلى انهيار أسواق الأوراق المالية وقيم العملة لهذه الدول وإشاعة حالة من الذعر في آسيا وتحولت النمور الآسيوية إلى قطط أليفة لا حول لها ولا قوة . وكان يقود هذه المضاربات من جديد "الرجل الذي حطم بنك إنجلترا" أو جورج سورس الذي افتعل هذه الأزمة من جديد، مما حدا بمهاتير محمد "رئيس وزراء ماليزيا" السابق لوصف جورج سورس بالشخص الأحمق والدافع الباعث لكل هذه الأزمات والكوارث . وفي دراسة حديثة لكل من البروفيسور غاري غورتون وجليرمو اوردانزو من جامعة ييل في الولايات، تشير الدراسة إلى أن المضاربين وصناديق التحوط وجورج سورس يعتبرون أحد الأسباب الرئيسية للأزمة المالية العالمية التي أصابت العالم في 2008 والتي مازالت الدول تترنح من وطأتها . فمن هو جورج سورس وما هي صناديق التحوط؟ كان جورج سورس في الثالثة من عمره عندما احتلت ألمانيا النازية هنغاريا وقام النازيون بإبادة اليهود في هنغاريا، ولكن والده قام بسرعة بعمل هويات مزورة لأبنائه وأودعهم لدى أسر مسيحية للحفاظ عليهم حتى انجلى الغزو وتلك كانت أولى الكوارث التي مر بها "سورس" أو بالأحرى استهل بها حياته، وأسهمت في صقل شخصيته . وعندما بلغ "سورس" السابعة عشرة بدأ العمل كموظف في محل للصرافة وهي الفترة التي بدأ شغفه ينمو بالمتاجرة والمضاربة بالعملات ولكن بسبب الكساد في هنغاريا قرر "سورس" عام 1947 الهجرة إلى بريطانيا لدراسة الاقتصاد في كلية لندن للاقتصاد . تخرج "سورس" في الجامعة عام 1952 ليجد نفسه مضطراً للعمل في مجالات لا علاقة لها بالفلسفة، فقد عمل نادلاً في مطعم "غالينو" وبائعاً في محل لبيع التحف ما أصابه بالإحباط كون حياته رتيبة ومملة وبدون مغامرات، وفي إحدى ليالي الشتاء بدأ "سورس" يسأل نفسه: هل يعقل أن ينتهي المطاف بي كنادل وبائع للتحف؟ وجد نفسه يجيب عن السؤال بكلمة واحدة:لا، ليلتها قرر العودة إلى مهنته التي كان يزاولها في مراهقته وهي صرافة العملات والعمل في مجال المصارف، فكتب أكثر من 100 رسالة لمديري المصارف البريطانية يعرض عليهم خبراته ويبحث لديهم عن فرصة عمل، حتى وإن من دون مقابل، إلا أن صندوق بريده ظل لشهور طويلة خاويا من الرسائل فبدأ الملل يتسلل إلى قلبه، إلى أن جاء اليوم الذي فتح فيه صندوق بريده ليجد رسالتين من مصرفين، الأولى تضمنت مجموعة من النصائح العامة من مدير أحد المصارف الذي طلب منه مواصلة البحث لأن المصارف قد لا تكون المكان المناسب لشخص مثله يحلم بأن يكون عالما في الاقتصاد، أما الرسالة الثانية فتضمنت عرضا للعمل في أحد مصارف لندن، فحزم "سورس" أمتعته على الفور قاصداً لندن . وبعد أشهر من العمل المصرفي بدأ الملل يتسرب إلى نفس "سورس" من جديد، فقرر عام 1955 السفر إلى نيويورك عاصمة المال والأعمال، وهناك حيث تصنع الثروات والعمليات الكبرى، بدأ العمل كمحلل مالي لدى شركة "إف . أم . ماير" . وفي عام 1973 قام بإنشاء شركته الاستثمارية الخاصة والتي قامت بتأسيس صندوق تحوط هو "كوانتوم فند" بمشاركة صديقه "جيم روجرز"، وكان هدفه وقتها هو جني 500 الف دولار بعد خمس سنوات، ومن ثم يتقاعد ويتفرغ لحلمه بأن يصبح أستاذاً جامعياً وعالماً في الاقتصاد والسياسة كاستاذه "كارل بوبر" إلا أن ما حدث لم يكن في حسبانه فقد بدأ تدفق الأموال بشكل أسرع مما كان يتوقع سورس حتى بلغت ثروته 11 مليار دولار، فكان من الصعوبة ترك هذا المبلغ للتفرغ لتدريس الطلاب في الجامعة . وبالرغم من ذلك فإن حبه للكتابة لم يخبُ حيث واظب "سورس" على تأليف الكثير من الكتب في الاقتصاد والاجتماع ومن أشهر مؤلفاته كتابه "قراءة عقلية الأسواق" والذي نشر عام 1987 وهو كتاب يتحدث عن إحدى نظريات العالم "كارل بوبر" وهي نظرية الانعكاس Reflexivity ، والتي تقول إن النشاطات الفردية قد تتسبب أيضاً باضطراب في التوازنات الاقتصادية، ما قد يؤثر بدوره في نمو الأسواق الحرة، ما جعل "سورس" يصل إلى نتيجة مفادها أنه يمكن أن يجني الكثير من الأموال إذا نجح في إحداث الاضطرابات وصنع الكوارث في كل أرجاء العالم، وفهم آلية الكوارث وكيفية صنعها هو المفتاح للتأثير في النشاطات الفردية التي تؤثر في الأسواق . فقد استطاع تطبيق هذه النظرية حين وجد في عام 1992 بأن الثقة في العملة البريطانية بدأت تهبط وأن المشترين أصبحوا أكثر قناعة بأن العملة ضعيفة وأن البنك المركزي متردد بين رفع معدلات الفائدة إلى مستويات مماثلة لآلية الصرف الأوروبية أو تعويم عملته، وعلى الرغم من التطمينات التي أصدرها البنك المركزي البريطاني، قام سورس ببيع 10 مليارات جنيه استرليني الأمر الذي أجبر البنك المركزي على سحب عملته من آلية الصرف الأوروبية وعلى تخفيض قيمة الاسترليني واستطاع سورس جني ما يقارب من 1 .1 مليار دولارفي يوم واحد فقط من المتاجرة بعدم الثقة والهلع ولذا فقد سمي "بالرجل الذي حطم بنك إنجلترا" وفي عام 1997 كان سورس أحد الأسباب الرئيسية للأزمة الاقتصادية التي ضربت الأسواق الآسيوية . في الجزء الثاني سنتحدث عن ماهية التحوط وصناديق التحوط وماهي التعديلات التي تم اقتراحها من قبل المشرعين الأوروبيين لآلية عمل هذه الصناديق والتي جعلت سورس يقرر إرجاع أموال المستثمرين وتحويل صندوق التحوط الذي يديره إلى صندوق عائلي . * خبير حوكمة ومدير في "دي إل أيه بايبر"