لم يعد ممكناً بعد أكثر من ثلاثة عقود في العمل الفني، أن يغيب اسم التشكيلية الدكتورة نجاة حسن مكي، عن حديث يحكي سيرة المشهد التشكيلي الإماراتي، فهي لا تكاد تكون عاشت بعيدة عن اللوحة إلا في سنوات عمرها الأولى، أي تلك السنوات التي تهجأت فيها الحياة . ولدت نجاة مكي في عامين، الأول يفرضه الزمن، والآخر تفرضه الأوراق الثبوتية، فهي وفق الأوراق الرسمية، ولدت في الخامس من أغسطس/ آب عام ،1953 أما في الحقيقة فهي مولودة بعد ذلك بعامين . عاشت مكي طفولتها في دبي في منطقة البحارنة "السوق الكبير"، وهي البنت الأصغر بين ثلاث فتيات يرعاهن أب يعمل في العطارة والأعشاب، فكانت طفولتها خصبة بتنوعات مشهدية عديدة أنتجت منها هذه الفنانة الخبيرة في اللون والعارفة لفكرة التكوين، وحساسية الضوء . الطفلة نجاة مكي ذات السنوات القليلة من عمرها، تركض في زقاق "السوق الكبير" الذي يتفرع بمحال الخضار والأسماك والملابس . تمر مسرعة من بين الباعة وتعبر زقاق سوق الذهب لتصل إلى المحل الذي تبتغيه، إنه بائع الحلوى . تعود محملة بحبات حلوى تشبه مذاق طفولتها، لتدخل محل العطارة حيث يجلس والدها خلف أكوام الأعشاب والنباتات العطرية، وأكياس البخور والزعفران، هناك تختبر اللون بحساسية الرائحة، فيأخذها مسحوقٌ أصفر ممزوج بالبرتقالي، ويغريها الأحمر الداكن في قلادة الفلفل الحار، وتقترب لتتلمس الأبيض في أزهار الأقحوان . تجول في المحل برغبة الطفل للدهشة الأولى، فيما والدها يحضر خلطة من الأعشاب لآلام الصدر والقصبات، يمتزج فيها البابونج في العسل، وتضاف إليها حبات قليلة من اليانسون . بعد يوم من الفرح تعود الطفلة إلى البيت، حيث الوالدة المشغولة بشؤون البيت، والأخوات اللواتي يكبرنها سناً، تشاهدهن منهمكات في التطريز على القماش، الإبر بأيدهن، وفي سلة جانبهن، تتكوم الخيوط بألوانها، الأحمر والأخضر، والأزرق والأصفر . ترقب بشغف طفولتها كيف يصير اللون في الخيط زخرفةً على وجه القماش، وكيف تتبدى مهارة أختيها في صنع هندسةٍ تزين أثوابهن . هكذا يمكن أن يتخيل المرء طفولة مكي، وهي تصفها بعجالة تلتهم سنين عمرها، طفولة مملوءة باللون، فما محال السوق في طفولتها سوى "باليتة" اللون يظهر فيها أصفر الذهب وأحمر التفاح، وما الأعشاب في محل والدها إلا تدريب لعينها على درجات البني والأخضر الداكن، ولمعة الأصفر، وحرارة الأحمر . بدأت مكي الرسم مبكراً، وظلت ترسم خلال سنين دراستها حتى وجدت معلمة التربية الفنية التي ما زالت تذكرها بعد أكثر من أربعة عقود، المعلمة رفيقة، التي شجعتها وأخذت بيدها نحو اكتمال الحلم . كانت اللوحة الأولى التي عُلقت لمكي على جدار، وظهرت مؤطرة، هي لوحة بائع الأقمشة "الليلام" - وفق اللهجة المحلية - استخدمت فيها ألوان الزيت على القماش، وقدمت فيها شخصية بائع الأقمشة الجوال الذي يحمل "بكجة" - صرة اللباس الكبيرة - يحملها على ظهره ليفتحها أمام نساء الحي إذ يخترن قماش لباسهن . أنهت مكي دراستها الثانوية لتستقبل خبراً غيّر مسار حياتها، فقد قدمت لها الدولة منحة دراسة الفنون الجميلة في القاهرة، ولم يكن الأمر سهلاً، إذ كيف لفتاة من بيئة محافظة أن تغادر أهلها لتدرس تخصصاً لم تعرفه بيئتها، ولم تجد فيه غير شيء لا يعدو عن كونه هواية لتمضية الوقت . لكن الأقدار شاءت والتحقت مكي بجامعة القاهرة عام 1976 برفقة عدد من فتيات الإمارات، هناك اكتشفت عالماً مغايراً من الفن، لم يعد الرسم لديها هواية، صار يقترب من الاحتراف، فدرست التصوير والتشريح والطبيعة الصامتة، وتخصصت في النحت . عادت مكي من القاهرة بعد سنوات خمس - 1981 - غنية بالتعرف إلى تكنيكات صناعة العمل الفني، والتجارب الفنية، فبدأت في طرح أعمالها في الساحة الفنية الإماراتية، حيث قدمت بعض الأعمال النحتية، إلا أن عمل النحت كما هو حاله اليوم لا ينافس اللوحة في حضوره لاعتبارات عدة، فاتجهت بعد سنوات إلى القماش والأكريليك، ودخلت مساحة الرمزية التعبيرية، لكنها أبقت على علاقتها مع العمل الفني . مرت اللوحة لدى مكي بمراحل، وعاشت في كل فترة تجربة كانت تخرج فيها بمعرض شخصي، فكانت مرحلة البداية عبر معرض أقيم في صالة نادي الوصل في دبي، اشتغلت فيه على موضوعة البحر والصحراء بصيغة تلامس التجريد، ثم دخلت مساحة توظّف فيها العناصر التراثية والمعمار التقليدي ونقوش الأقمشة، واستخدمت خامات عديدة خلال مراحل شغلها للوحة، فاستخدمت الحناء والزعفران، وغيرهما من الخامات الطبيعية في إنتاج العمل الفني . دخلت مكي في مساحة أخرى في سيرة عملها، فاشتغلت في مرحلة من أعمالها، على الشعر الجاهلي، ووظفت قصائد لامرئ القيس وعنترة وغيرهما في إنتاج أعمال فنية تحمل مضامين تراثية وقيماً أخلاقية تعكس حقيقة الحالة العربية القديمة المتجددة . خلال تلك المراحل واصلت مكي مشوارها في النحت عبر أعمال يظهر فيها اشتغالها على الموضوع الإنساني، فشاركت إلى جانب 50 فناناً من أنحاء العالم كافة، في ملتقى النحت الثاني في الصين، وقدمت عملاً يعكس علاقة الرجل بالمرأة في المجتمع الإماراتي . مؤخراً وبعد مرور العمل الفني لديها بمراحل عديدة، أطلت مكي بأعمال اشتغلت فيها على وقع اللون على المتلقي، ووظفت رمزيات تختزل حضور المرأة في أعمالها، وهو ما لا تتوقف مكي عن الاشتغال عليه . حصلت مكي على دبلوم عام في الفنون عام 1994 في تخصص النحت البارز، وشهادة الماجستير في عام 1997 بدراسة الحضارة المصرية القديمة من جامعة حلوان، لتكمل مشوارها الأكاديمي بالحصول على دكتوراه في المسكوكات 2001 من القاهرة . وعملت مشرفة على الوسائل التقنية في وزارة التربية والتعليم، وفازت بعدد من الجوائز في بينالي الشارقة وبينالي مجلس التعاون وبينالي المحبة في سوريا، وشاركت في معارض فنية عديدة عربية وعالمية .