تدمير المؤسسة العسكرية الجنوبية مفتاح عودة صنعاء لحكم الجنوب    فشل المنظومات الاعتراضية الأمريكية والإسرائيلية وهروب ثلاثة ملايين صهيوني إلى الملاجئ    ورطة إسرائيل.. "أرو" و"ثاد" فشلا في اعتراض صاروخ الحوثيين    يادوب مرت علي 24 ساعة"... لكن بلا كهرباء!    وزير الصحة ومنظمات دولية يتفقدون مستشفى إسناد للطب النفسي    فيما مصير علي عشال ما يزال مجهولا .. مجهولون يختطفون عمه من وسط عدن    قدسية نصوص الشريعة    في خطابه بالذكرى السنوية للصرخة وحول آخر التطورات.. قائد الثورة : البريطاني ورط نفسه ولينتظر العواقب    صرخةُ البراءة.. المسار والمسير    تطور القدرات العسكرية والتصنيع الحربي    الاجتماع ال 19 للجمعية العامة يستعرض انجازات العام 2024م ومسيرة العطاء والتطور النوعي للشركة: «يمن موبايل» تحافظ على مركزها المالي وتوزع أعلى الارباح على المساهمين بنسبة 40 بالمائة    متى نعثر على وطن لا نحلم بمغادرته؟    في ذكرى الصرخة في وجه المستكبرين: "الشعار سلاح وموقف"    ملفات على طاولة بن بريك.. "الاقتصاد والخدمات واستعادة الدولة" هل يخترق جدار الأزمات؟    العدوان الأمريكي البريطاني في أسبوع    أمريكا بين صناعة الأساطير في هوليود وواقع الهشاشة    من أسبرطة إلى صنعاء: درس لم نتعلمه بعد    المصلحة الحقيقية    أول النصر صرخة    مرض الفشل الكلوي (3)    الآنسي يُعزي العميد فرحان باستشهاد نجله ويُشيد ببطولات الجيش    دوي انفجارات في صنعاء بالتزامن مع تحليق للطيران    شركات طيران أوروبية تعلق رحلاتها إلى "إسرائيل"    التحذير من شراء الأراضي الواقعة ضمن حمى المواقع الأثرية    وسط إغلاق شامل للمحطات.. الحوثيون يفرضون تقنينًا جديدًا للوقود    صنعاء .. طوابير سيارات واسطوانات أما محطات الوقود وشركتا النفط والغاز توضحان    العشاري: احراق محتويات مكتب المعهد العالي للتوجيه والارشاد بصنعاء توجه إلغائي عنصري    إلى متى سيظل العبر طريق الموت ؟!!    نصيحة لبن بريك سالم: لا تقترب من ملف الكهرباء ولا نصوص الدستور    تحالف (أوبك+) يوافق على زيادة الإنتاج في يونيو القادم    ارتفاع حصيلة ضحايا العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 52535 شهيدا و118491 مصابا    قيادي حوثي يفتتح صيدلية خاصة داخل حرم مستشفى العدين بإب    وزير الدفاع الإسرائيلي: من يضربنا سنضربه سبعة أضعاف    ريال مدريد يتغلب على سيلتا فيغو في الدوري الاسباني    «كاك بنك» يدشن خدمة التحصيل والسداد الإلكتروني للإيرادات الضريبية عبر تطبيق "كاك بنكي"    أعضاء من مجلس الشورى يتفقدون أنشطة الدورات الصيفية في مديرية معين    وفاة طفلتين غرقا بعد أن جرفتهما سيول الأمطار في صنعاء    الدكتور أحمد المغربي .. من غزة إلى بلجيكا.. طبيب تشكّل وعيه في الانتفاضة، يروي قصة الحرب والمنفى    وجّه ضربة إنتقامية: بن مبارك وضع الرئاسي أمام "أزمة دستورية"    أطباء تعز يسرقون "كُعال" مرضاهم (وثيقة)    92 ألف طالب وطالبة يتقدمون لاختبارات الثانوية العامة في المحافظات المحررة    بن بريك والملفات العاجلة    هدف قاتل من لايبزيغ يؤجل احتفالات البايرن بلقب "البوندسليغا"    يفتقد لكل المرافق الخدمية ..السعودية تتعمد اذلال اليمنيين في الوديعة    لاعب في الدوري الإنجليزي يوقف المباراة بسبب إصابة الحكم    السعودية تستضيف كأس آسيا تحت 17 عاماً للنسخ الثلاث المقبلة 2026، 2027 و2028.    الأهلي السعودي يتوج بطلاً لكأس النخبة الآسيوية الأولى    أين أنت يا أردوغان..؟؟    مع المعبقي وبن بريك.. عظم الله اجرك يا وطن    المعهد الثقافي الفرنسي في القاهرة حاضنة للإبداع    - حكومة صنعاء تحذير من شراء الأراضي بمناطق معينة وإجراءات صارمة بحق المخالفين! اقرا ماهي المناطق ؟    "ألغام غرفة الأخبار".. كتاب إعلامي "مثير" للصحفي آلجي حسين    مقاومة الحوثي انتصار للحق و الحرية    مقاومة الحوثي انتصار للحق و الحرية    القاعدة الأساسية للأكل الصحي    مانشستر سيتي يقترب من حسم التأهل لدوري أبطال أوروبا    الكوليرا تدق ناقوس الخطر في عدن ومحافظات مجاورة    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السفير مصطفى النعمان في محاضرة له بمسقط : المنتصرون في حرب 94 تعاملوا مع الجنوبِ ك "غنيمة"
نشر في الجنوب ميديا يوم 24 - 02 - 2012


الجمعة, 08 شباط/فبراير 2013 09:27
مسقط - لندن " عدن برس " -
القى السفير اليمني لدى أسبانيا الاستاذ مصطفى النعمان قبل بضعة ايام محتضرة حول الشأن اليمني امام نخبة من السيايين والمهتمين بالوضع اليمني في العاصمة العمانية مسقط ، ولأهمية المحاضرة التي حصل " عدن برس " على نسخة منها ننشر نصها:
في البدءِ، أتوجَّهُ بالشكرِ للأخِ الكريمِ الشيخِ سيف المسكريِّ لدعوتي للقاءِ نُخبةٍ من المُجتمعِ الثقافيِّ العُمانيِّ، والحديثِ معكم وإليكم عن الأوضاعِ في يمنِكم الجارِ الحبيبِ.
في حديثي معكم، لنْ أتطرَّق إلى ما يجمعُنا مِن تاريخٍ مُشتركٍ وامتدادٍ جغرافيٍّ في البرِّ والبحرِ، فذاكَ في نظري، تأكيدٌ للمؤكَّدِ، ولا جديدًا يُضافُ إلى معلوماتِكم.
كما أنَّني لن آخذَ وقتًا طويلاً للحديث عن الظروفِ التي أدَّت إلى خروجِ المواطنين – الشبابِ منهم على وجهِ الخصوص – فهي لا تختلفُ عن الظروف التي أقضَّتْ مضاجع حكَّامٍ في أقطارٍ أخرى، ولا شكَّ أنَّ كوابيسًا تراودُ غيرَهم.
كانت الأوضاعُ الاقتصاديَّةُ المترديَّةُ العاملَ المُحفِّزَ لخروجِ المواطنين للاحتجاجِ على معاناتهم وإظهارِ سُخطِهم مِن تضاؤلِ آمالهِم في الحصولِ على حاضرٍ يرضَوْنَ عنه، ومستقبلٍ لا ضوءَ في نهايةِ نفقهِ شديدِ الظلمةِ، إلاَّ أنَّ واقعَ الأمرِ يشيرُ إلى أنَّ تردِّي الأوضاعِ الاقتصاديَّةِ لم يكنْ نتاجَ قلَّةِ المواردِ، بل نتيجةً حتميَّةً لسوء الإدارة،ِ وتغوُّلِ الفسادِ، وانعدامِ الرؤيةِ المستقبليَّةِ والدخولِ في مشاريعَ لا طائلَ مِن ورائها.
اليمنُ، ليس بلدًا فقيرًا، فبِهِ من المواردِ ما يكفيه بوفرةٍ، وعندَه من المزايا الطبييعيَّة ما تؤهِّلُه لالستفادةِ من السياحةِ الإقليميَّة والدَّوْلِيَّة، وعندَه شواطئٌ طولها 2200 كم تختزنُ ثروةً سمكيَّةَ هائلةً، تبدأ شمالاً من الحدودِ البحريَّة للمملكةِ العربيَّة السعوديَّة، وتنتهي في الجنوبِ الشرقيِّ بملامسة شواطئِ السلطنةِ. كذلك فيه نفطٌ وغازٌ، ومعَ أنَّهما ليسا بحجمِ ما تمتلكُه دولٌ أخرى، إلاَّ أنَّه لو قدِّرَ لهما إدارةٌ نزيهةٌ، لكان لهما دورٌ رائدٌ في إدارةِ شأنِ البلادِ وتنميتِها.
كيفَ لاقتصاديٍّ أو أيِّ مُلمٍّ بالأرقامِ أنْ يُقنِعَنا بقُبولِ تصريحاتِ مسؤولين عن فقرِ هذا البلد أو ذاك، وفي الوقتِ ذاته، ينهبونَ ملياراتِ الدولارات! (نعم مليارات)، ويعمِّرون مُدنًا سكَّانيَّة خارجَ أقطارِهم ويشترون العقاراتِ، ويؤسِّسونَ الشركاتِ في شتَّى أصقاعِ الأرضِ!
(كنتُ في دُبي قبلَ أسابيعَ، والتقيتُ مُصادفة العديدَ من المسؤولين اليمنيِّين، وعلمتُ منهم أنَّهم انتقلوا بعائلاتِهم إلى تلك البلدِ الجميلةِ وباهظةِ الكلفَةِ، واشتَرَوا المساكنَ، واقتنوا السيِّاراتِ الفارهةَ. لم أتفاجأ بِما سمعتُ، لكنْ شعرتُ بضغطٍ مُرتفعٍ، بينما كانوا جميعًا يتحدَّثون عن الفسادِ، وكيف أنَّ اليمنَ فيها إمكاناتٌ كبيرةٌ! أمرٌ مَدعاةُ للشفقةِ والسخريةِ في آنٍ.)
جملةٌ اعتراضيَّةٌ كي أؤكِّدَ أنَّ اليمنَ ليس فقيًرا كما يزعمُ ناهبوه. وليسَ بلدًا بلا مواردَ، كما قالت حكوماتُه المتعاقبةُ وما تزالُ.
بلدي، كما يَرِدُ في ميزانيَّةِ الدولةِ، يشتري سلاحًا لا حاجةً للبلادِ بهِ سوى الاحترابِ الداخليِّ والحصولِ على عمولاتِه. اليمنُ لم يَخُضْ حربًا – وهذ نعمةٌ محمودةٌ – ضدَّ أيِّ بلدٍ شقيقٍ أو صديقٍ، لكنَّه استنزفَ ثرواتِه في حروبٍ داخليَّةٍ لم تتوقَّفْ منذ العام 1962.
خاضَ اليمنُ شمالاً حربًا أهليَّةً استمرتْ ثماني سنوات (62-70)، انتهتْ بمصالحةٍ تاريخيَّةٍ، بدأتْ بعدها محاولةُ بناءِ هياكلَ دولةٍ ومؤسَّساتِ، لكنْ شحِّةُ المواردِ آنذاك، لم تدعْ فرصةً للحكَّامِ للانتهاءِ من مشاريعِهم!
ثمَّ خاضَ حربين بين شمالِه وجنوبِه، وحروبًا ستَّةً في صعدةَ ناهيكم عن الحروب شبهَ اليوميَّةٍ بين القبائلِ، التي انتقل شررُها ورمادُها إلى العاصمةِ صنعاءَ التي تحوَّلت إلى ساحةٍ للثاراتِ.
بعدَ هذه المقدِّمة، آتي على سردٍ تاريخيٍّ موجزٍ، سيقودنا إلى ولايةِ حُكمِ الرئيسِ السابقِ علي عبدِ الله صالح.
في 13 يونيو 1974، قادَ العقيدُ إبراهيمُ الحمديُّ وضبَّاطٌ في الجيش بالتعاون مع مشايخَ القبائلِ الشماليَّةِ انقلابًا أبيضَ. بعدها، كما هو الحالُ في كلِّ الانقلاباتِ العسكريَّة، أقصى الحمديٌّ كلَّ رفاقِه وانفردَ بالحكم.
كانت ولايةُ الحمدي الأزهى من حيث استتبابِ الأمن، والبدءِ بالاستفادة من أموالِ المغتربين اليمنيِّين في دولِ الخليج والجزيرةِ العربيَّة، شَهِدَ اليمنيُّون فيها مرحلةً من النموِّ الاقتصاديِّ وبناءَ محطَّاتِ الكهرباءِ وشقِّ الطرقاتِ على امتداد اليمنِ، ونشاطًا ملحوظًا للحركاتِ التعاونيَّة في كلِّ أنحاء اليمنِ الشمالي.
في أكتوبر 1977، عشيَّةَ مغادرتِه إلى عدنٍ للبدء في اتخاذ خطوات عملية نحو إعلانِ الوحدةِ اليمنيَّةِ بالتفاهم مع الرئيس الجنوبيِّ الراحلِ، سالمٍ ربيعِ علي، اغتالَ الرئيسُ اللاحقُ، أحمدُ حسينَ الغشميُّ الرئيسَ الحمديَّ في منزلِه مع شقيقِه المقدَّمِ عبدِ الله الحمديِّ.
لم يستمرْ حكمُ الغشميِّ أكثرَ من تسعةِ أشهرٍ (يونيو 1978) إذ تمَّ اغتيالُه بحقيبةٍ مفخَّخةٍ، أرسلَها الرئيسُ الجنوبيُّ سالمٌ ربيعٌ عليُّ انتقامًا لاغتيالِ الرئيسِ الحمديِّ. (في العامِ نفسِه، أُعدمَ الرئيسُ سالمٌ ربيعٌ بحجَّةِ اغتيالِ الغشمي.)
هنا تبدأ ولايةُ حُكمِ الرئبسِ صالحٍ التي استمرَّتْ 33 عامًا (17 يوليو 1978 حتى 21 فبراير 2012).
في 17 يوليو 1978، صعدَ الرئيسُ علي عبد الله صالح، مستهلاً حكمَهَ بالتعاون مع كلِّ الفئاتِ التي أقصاها الحمديُّ، ومستعينًا بالعديدِ من الشخصيَّات السياسيَّةِ اليمنيَّة التي كانت على خلافٍ مع الحمديِّ.
بعدَ أن استتبَّ الأمرُ لصالح، نَهَجَ سياسةَ الإمامِ الراحلِ يحيى حميدِ الدين الذي بدأ حكمَهُ مستعينًا بأبناءِ الأسرِ الهاشميِّةِ الكبرى، لكنَّه ما لبثَ أن تخلَّصَ منهم تِباعًا، واستبدلَهُم بأبنائِه الذين كان يُطلقُ عليهم "سيوفُ الإسلام"، وعلى رأسهم نجلُه الأكيرُ أحمدُ الذي خلفَ والدَه بعدَ اغتيالِه في فبراير 1948 في مؤامرةٍ تزعَّمها عددٌ من أبناءِ الأسرِ الهاشميَّة كانت ترى أنها الأحقُ بالحكمِ في إطار التراتبية الهاشمية، ومعهم عددٌ قليلٌ من مشايخ المناطقِ الشافعيَّة التي كانت ترزح وتئن من ظلم الأئمة والقبائل الزيدية الوافدة الى ما أعتبروه أرض خراجٍ. كان على رأسهم الشيخُ عبدُالوهَّاب نعمانٌ الذي أعدمَه الإمامُ أحمد لثبوتِ ضلوعِه في التخطيطِ لاغتيال والدِه الإمام يحيى.
في العام الثاني لتوليِّه الحكمَ، اندلعتْ حربٌ (الثانيةُ، كانت الأولى عام 1972) ضدَّ قوَّات ما كان يُعرف حينذاك ب "جمهوريَّة اليمن الديموقراطيَّة"، انتهتْ بهزيمةِ قوَّاتِ الجمهوريَّةِ العربيَّةِ اليمنيَّة، كما كانت تُعرفُ.
بعد التوصُّل إلى هدنةٍ بين قوَّات الشطرين، بدأ صالحٌ بالتواصلِ المباشرِ بالرئيسِ الجنوبيِّ السابقِ علي ناصرِ محمَّدٍ، وتوصَّلا إلى العديدِ منَ الاتِّفاقاتِ التي كانت الأساسَ التي قامتْ عليه الوحدةُ في 22 مايو 1990.
بعد الحربِ اليمنيَّةِاليمنيَّة، ركَّز صالحُ جُلَّ اهتمامِه على القوَّات المسلَّحةِ، واستعانَ بخبراءَ عراقيِّين لهيكلةِ القوَّات المسلَّحةِ بأفْرُعِها، وما فَتِئَت أن أصبحَت تحتَ سيطرةِ أسرتِه وأبناءِ قريته الصغيرةِ سنحانَ. ولضروراتِ الأمرِ ومقتضياته، كان يستعينُ بأبناءِ المناطقِ المُحيطةِ بمنطقتهِ، عملاً بالحديثِ الشريفِ: "الأَقْرَبُونَ أَوْلَى بِالمَعْروفِ."
في سبيلِ ذلك، عَمَدَ صالحٌ إلى تدميرِ الهيكليَّة المعروفةِ في الجيوشِ، فوزَّع قيادةَ الفِرَقِ العسكريَّةِ المُختلِفةِ على "الأَوْلى بالمعروفِ"، وتمَّ تسريحُ كلِّ القياداتِ المُحترفةِ واستبعادُها واستبدالُها بأصحابِ الولاءاتِ.
(بلغ الأمرُ أن حصلَ أبناؤه وأبناءُ أخوتِه على رُتَبٍ عسكريَّةٍ عُليا في مُددٍ قياسيَّة وبدونِ تأهيلٍ حقيقيٍّ. أحدُهم كان يديرُ شركةً سياحيَّةً وخدماتٍ نفطيَّةً، تمَّ استدعاؤه ليخلفَ والدَه المتوفِّيَّ في قيادةِ أهمِّ أفرعِ الأمنِ الداخليِّ. وأخرُ، تولَّى مسؤوليَّةَ المخابراتِ بعدَ دورةِ تدريبيَّةٍ قصيرةٍ في أحدى المعاهدِ العسكريَّة البريطانيَّةِ، وثالثٌ تولَّى قيادةَ وحداتٍ مقاتلةٍ بعد أسابيعَ من عودتِه مِن كلِّيَّةٍ عسكريَّةٍ بريطانيَّةٍ، مكثَ فيها تسعةَ أشهرٍ.)
عَمَدِ الرئيسُ صالحٌ إلى إظهارِ الحُكمِ بمظهرٍ مدنيٍّ، إذْ تولَّى المسؤوليَّةَ الحكوميَّةَ عددٌ من كبارِ ساسةِ اليمن، أمثالُ الراحلِ الأستاذِ عبدِ العزبز عبدِ الغني، والدكتورِ عبدِ الكريم الإرياني اللذين تبادلا موقعَ رئاسةِ الحكومةِ في المدَّةِ من 1978 الى 1990. لكن واقعُ الحالِ، كانَ جليًّا، فمجرياتُ الحُكم وكلُّ تفاصيلِه، كانت تمرُّ عبرَ مكتبِ رئاسةِ الجمهوريَّة وجهازِ الأمنِ السياسي (المخابراتِ)، وسرعانَ ما صارتْ أسرةُ صالحٍ وأبناءُ قريتِه المتحكِّمين في كلِّ ما يجري، بدءًا من التعييناتِ التي كان أساسَها الولاءُ أوَّلاً والولاءُ أخيرًا، وانتهاءً بتوزيع المشاريعِ والمؤسَّساتِ العامَّةِ.
هكذا، تمكَّنت دوائرُ صالحٍ العائليَّةِ والعشائريَّةِ من السيطرةِ على كلِّ الحركةِ الاقتصاديَّةِ ومصادرِ الثروةِ، وإنشابِ مخالبِهم في كلِّ تفاصيلِ النشاطِ الحكوميِّ الأساسيِّ.
عامَ 1983، تمَّ إنتاجُ أوَّلِ برميلِ نفطٍ يمنيٍّ في مأربَ، المدينةِ التاريخيَّةِ العظيمةِ وتصوَّر اليمنيُّون أنَّ الخيرَ قد وجدَ الطريقَ إلى بلادِهم أخيرًا.
لكنْ سُرعانَ ما تبخَّرتِ الأحلامُ، بتكالُبِ كبارِ المتنفِّذين (ومنهم مَن التحقَ بركبِ "الربيعِ اليمنيِّ")، وأصبحوا شركاءَ حقيقيِّين في كلِّ ما يردُ إلى الخزينةِ العامَّة.
أحدثَ الموردُ النفطيُّ – على قلَّتهِ – مُناخًا نفسيًّا مُنعِشًا في اليمنِ، لاعتقادِ بعضِ المواطنين أنَّ الخيرَ سيعمُ، وأنَّ اليمنَ ستشهدُ حركةً اقتصاديَّة حقيقيَّة، والبدءَ بإنشاءِ مؤسَّساتِ دولةٍ راسخةٍ...
رويدًا رويدًا، تبخَّرتِ الأحلامُ من نفوس العامَّة، لكن ليس من نفوس الخاصَّة وخزائنِهم، وهم الذين اتقنوا فنونَ الحصولِ على كلِّ الامتيازاتِ والتبرُّء من كلٍّ المآسي.
في 1990، تحققَّت الوحدةُ اليمنيَّةُ، وتصوَّر اليمنيُّون أنَّه عامُ الانطلاقِ نحو بناءٍ حقيقيٍّ بعد أن اعتقدوا واهمين أنَّ حروبَهم الداخليَّةَ قد طُوِيَتْ صفحاتُها، وأنَّهم سَيَحْيَوْنَ حياةً مُستقرَّةً آمنةً في ظلِّ سيادةِ القانونِ واحترامِ الحقوقِ والمساواةِ في الواجباتِ والحقوقِ، وفي طفرةٍ اقتصاديَّةٍ تعتمدُ على موارد ِالبلادِ وسواعدِ أبنائِها.
في 22 مايو، أصبحَ اليمن موحَّدًا، وعاشَ العامَّةُ والخاصَّةُ فرحةً عارِمَةً غامِرَةً، ولكلٍّ أسبابُه. العامَّةُ، رَأَوْا في الوحدةِ خلاصًا مِن قسوةِ نظامين، اختلفتْ مُنطلقاتُهما الفكريَّةُ، وإعادةَ وئامٍ وتواصلٍ بين شعبٍ ذو أصولٍ واحدةٍ وامتداداتٍ جغرافيَّةٍ لا يَنكُرها إلاَّ مُكابرٌ.
تمنَّى كلُّ اليمنيِّين البسطاءُ أن تكونَ الوحدةُ مرحلةَ انطلاقٍ نحوَ يمنٍ مزدهرٍ ومستقرٍّ آمنٍ وموحَّدٍ. وكان للخاصَّة أحلامُهم أيضًا، إذ أدركوا أنَّ مساحةَ النفوذ ستتزايد، وأنَّ مغانِمَهم ستتضاعفُ.
أثبتت التجربةُ، للأسفِ الشديدِ، خطأ القادمين بأحلامِهم وطموحاتِهم من عدنٍ في قراءةَ المشهدين، السياسيَّ والاجتماعيَّ.
كان هؤلاء يتعاملون ببرأةٍ، بل وسذاجةٍ معَ أوضاعِ الشمالِ. فتصوَّروا أنَّهم قادرونَ على إعادةِ صياغةِ مفهوم الوطنِ والمواطنةِ، ولكن سُرعانَ ما تبخَّرتِ الآمالُ، وأدركَ الوافدون الجُدُدُ إلى صنعاءَ أنَّ حكَّامَها عَصِيُّون على التغييرِ، وأنَّهم متعطِّشون للمزيدِ من النفوذِ والسطوةِ والسيطرةِ.
أظهر حكَّامُ صنعاءَ دون مواربةٍ أنَّ الجنوبَ غنيمتُهم، وأنَّه فَرْعٌ عادَ إلى أصلٍ، وأنَّهم يستطيعونَ إعادةَ صياغتِه وتشكيلِه لينسجمَ مع ما هو سائدٌ في الشمال! (من مظاهرِهِ، انتشارُ القاتِ الذي كان ممنوعًا في الجنوب إلاَّ في العُطلِ الرسميَّة فصارَ ظاهرةً يوميَّةً، عمَّ بلاؤها كلِّ ركنٍ حتَّى وصلَ إلى حضرموتَ.)
زادَ الطينَ بَلَّةً غزوُ الكويتِ، وما تلاه من تداعياتٍ على الوضعِ الاقتصاديِّ بعودة أكثرَ مِن ثلاثةِ ملايينَ مهاجرٍ يمنيٍّ كانوا يعملون في دولِ الجوارِ، عقابًا على موقفِ الرئيسِ صالحٍ من غزوِ الكويت، ورفضِه حتَّى إدانةَ تلكَ الفعلةِ الشنيعةِ!
إبَّانَ مرحلةِ (1990–1993)، طفا على السطحِ الخلافُ بين الرئيسِ علي عبد الله صالحٍ، ونائبِه حيئنذاك، الاستاذ علي سالمِ البيض. وتفجَّر بصورةٍ علنيَّةٍ بعد انتخابات أبريل 1993، لينتقلَ بعدها البيضُ إلى عدنٍ، معتكفًا فيها حتَّى توقيعَ اتِّفاقيَّةِ "العهدُ والاتِّفاقُ" في عمان.
تأمل اليمنيون البسطاء أن يكون التوقيع ، والبدءِ بتطبيقِ بنودِه، كفيلاً بتهدئة الأوضاعِ لكنْ الشكوكُ كانت قد بلغتْ حدًّا لم يعدْ معه أيُّ اتِّفاق قادرًا على معالجتِها.
في تلك الأثناءِ، باتَ واضحًا أنَّ القوى المتنفِّذةَ في صنعاءَ قد حسمتْ أمرَها بضرورِة الحسمِ العسكريِّ، وساعدها في التحطيط لها كثيرٌ من العسكريِّين الجنوبيِّين الذين لجأوا إلى صنعاءَ بعدَ أحداثِ 13 يناير 1986 الداميةِ في عدنٍ وكانوا على درايةٍ تامَّةٍ بتفاصيلَ الجيشِ في الجنوبِ وعتادِه ومواقعَ الضعفِ والقوَّةِ فيه، ولم يتمْ تحديثُه منذُ أن توقَّف الاتِّحادُ السوفيتي عن تمويلِ الدولِ التي كانت تدورُ في فلَكه.
انتهتِ الحربُ كما هي العادةُ بمُنتصرٍ ومهزومٍ.
لم يلتفتْ المنتصرون إلى أهمِّيَّة البدءِ بعمليَّة مُصالحةٍ فوريَّة، بلْ على العكسِ، تمَّ التعاملُ مع الجنوبِ ك "غنيمة" اقتسمَها المُنتصرون، وشاركَتْهم القوى الجنوبيَّةُ التي ساهمتْ في اقتحامِ عدنٍ وحضرموتَ وأبينَ ولحجَ وغيرها من مدنِ الجنوبِ، انتقامًا لِما حدثَ لها في يناير 1986.
بالتوازي مع ذلك، بدأتْ عمليةُ تصفيةٍ لكلِّ القياداتِ العسكريَّةِ الجنوبيَّةِ، ومعها "الكوادر" الجنوبيَّةِ التي كانت محسوبةً على الحزبِ الاشتراكيِّ الذي حكم الجنوبَ منذ الاستقلالِ عام 1967، وتمَّ الاستلاءُ على مساكنَ القياداتِ الجنوبيَّة والأراضي المملوكةِ للدولةِ.
تزايدتْ مشاعرُ الضيقِ لدى الجنوبيِّين، وارتفعتْ حدَّةُ النفورِ من طريقةِ التعاملِ معهم، ومِن عمليَّات تهميشٍ متعمَّدٍ وصلتْ إلى القياداتِ التي شاركت في اقتحامِ الجنوب. لكنْ بعضُ هؤلاء، كان قانعًا بما تغْدِقُه عليهم صنعاءُ من الأموالِ والعقاراتِ والمصالحَ ولم يرفعْ الشركاءُ الجنوبيُّون الجدد أصواتَهم احتجاجًا على ما أصابَ إخوانَهم، بل كان بعضُهم رأسَ حربةٍ لحكَّامِ صنعاءَ لتسخيرِ الجنوبِ، وإسكاتِ كلِّ الأصواتِ الناقمةِ.
في الأعوامَ الثلاثةِ التي تلتْ حربَ صيفِ 94، استمرَّ التحالفُ القويُّ بين الرئيسِ صالح و "حزبِ التجمُّعِ اليمني للإصلاح"، (خليطٌ من قبائلِ شمالِ الشمالِ بقيادةِ الشيخِ الراحلِ عبدِ اللهِ بنِ حسينِ الأحمر وجماعةِ الإخوانِ المسلمين والقوى السلفيَّةِ بقيادةِ عبدِ المجيدِ الزنداني.)
عامَ 1997، اختلفَ الحليفانِ (صالحٌ وحزبُ التجمُّعِ اليمني للإصلاح) واتَّسعتْ الهوَّةُ بينهما، ولم يَعُدْ هناك ما يجمعُهما سوى العلاقةِ الشخصيَّة بين صالحٍ والأحمر.
خلال هذه الاثناء بدأتْ النقمةُ في الجنوبِ، تتفاقمُ بصورةٍ مُتسارعةٍ. وحذَّرتُ كما حذَّرَ غيري صنعاءَ مِن مَغبَّةِ تجاهلِ ما يعتملُ في الجنوبِ. لكنْ المنتصرُ المَزْهُوُّ بنشوةِ غرورهِ، أعشتْ بصَرَهُ السلطةُ وبريقُها، وأعمتْ بصيرَتَهُ قريحةُ المنافقين، فلم يَعُدْ يسمعُ أو يرى إلاَّ ما يروق لخاطره!
تزايدَ حجمُ الفسادِ بصورةٍ لم يعدْ ينفعُ معها الترقيعُ ولا محاولاتُ تزييفِ الأرقامِ وتنامى الشعورُ على امتدادِ اليمن شمالاً وجنوبًا بأنَّ البلادَ مُقبلةٌ على كارثةٍ يُدْرِكُها الكلُّ ما عدا صالحٌ وأسرتُه والمنتفعون.
خلالَ هذه المراحلِ من حكمِ صالحٍ، لم يَعُدْ بمقدورِ أيِّ مُستثمرٍ خارجيٍّ أو محليٍّ أن يعملَ إلاِّ بحمايةٍ ماليَّةٍ من أسرةٍ صالحٍ أو المُقرِّبين منهم. وصارَ ملفُّ الاستثمارِ ملفًّا عائليًّا بامتيازٍ، فأختلط الخاصُّ بالعام، وصارتْ البلادُ تُدار بعقليَّةِ الشركةِ التجاريَّةِ محدودةِ المُلكيَّةِ.
هذه صورةٌ مُبسَّطةٌ للأوضاعِ التي مرَّت بها اليمنُ في عهدِ صالحٍ، وكانت البذرةُ التي أثمرتِ النقمةَ في فئاتٍ كثيرةٍ كانتْ يومًا حليفةً ومواليةً. لكنْ الجشعُ لا بدَّ من أن يؤدِّيَ إلى التهلُكَةِ من جرَّاءِ تُخمةٍ ناجمةٍ عن فسادٍ ضرَبَ أطنابَهُ في كلِّ مؤسَّساتِ الدولةِ بلا استثناءٍ. (حينما تولَّى صالحٌ حكمَ البلادِ عام 1978، كانَ إنتاج الكهرباء 700 ميجاوات. ولمَّا انتهتْ ولايتُه، عاش اليمنيُّونَ أغلبِ أوقاتِهم في ظلامٍ دامسٍ، فقد تدنِّى مستوى اننتاجِ الطاقةِ الكهربائيَّة إلى أقلِّ من 500 ميجاوات. هل يعقل أنَّ بلدًا تعدادُ سكَّانهِ 23 مليونًا، يستهلكُ هذا الكمَّ المتدنِّي من الطاقة الكهربائيَّة! مردُّ ذلك، صراعٌ بين الفاسدينَ المُتنفِّذين، أصابَ الاستثمارَ في مقتلٍ، إذ تنافسَ هؤلاء في محاربةِ أيِّ مشروعٍ استثماريٍّ ما لم يكن لهم حصَّة مجَّانيَّة فيه.)
تمكَّن صالحٌ دهائه من امتصاصِ النقمةِ في الشمال، إذِ استطاعَ أنْ يُخضعَ أغلبَ القياداتِ إمَّا "بسيفِ المُعزِّ أو ذهبِهِ."
لم يكنْ ذلكَ مُمكنًا في الجنوبِ، لأسبابٍ أختزلُها بما يلي:
1- اعتادَ الجنوبيُّون الحكمَ المدنيَّ، إنْ في ظلِّ الاستعمارِ البريطانيِّ، أو بقبضةِ الحزب الاشتراكيِّ القويَّةِ.
2- لَمْ يَعْتَدْ الجنوبيُّون التعاملَ إلاَّ عبرَ الدولةِ، ومن خلالِها في معالجةِ كلِّ قضاياهم.
3- لمْ يعرفْ الجنوبُ قضيَّةَ الاستيلاءِ على الأراضي العامَّة أو الخاصَّة. كان الجنوبيُّ قانعًا تحت حكم الأمر الواقع بما لديهِ وكانت الدولة هي الملك الوحيد تحت شعار (المساواة في الظلمِ عدلٌ).
4- لَمْ يستَفِدْ الجنوبُ من ثروتِه، إلاَّ بمظاهرَ ما مسَّتْ حياةَ المواطنين، ولا عملَتْ على إيجادِ قيمةٍ مُضافةٍ لحياتِهم إلاَّ المظاهرَ الزائفةَ.
5- تمَّ تعمُّدُ عدمِ انتشالِ ميناءِ عدنٍ من كبوتِهِ الطويلةِ. على العكسِ، تمَّت عرقلةُ تمكينِ شركاتٍ أجنبيَّة من إدارتِه.
6- لم تَسْعَ صنعاءُ إلى استعادةِ الوئامِ الاجتماعيِّ، وإشراكِ القوى الجنوبيَّةِ في ممارسةِ الحُكمِ الفعليِّ، إلاَّ في مجالِ الفسادِ الماليِّ والسياسيِّ.
7- لم يكنْ لصنعاءِ مشروعٌ لاستعادةِ استيعابِ القادةِ والأفرادِ الذين سُرِّحوا سنةَ 1994 إلى مواقعِهم، ولا سَعَتْ إلى تعويضِهم، بلْ أمعَنَتْ في إذلالِهم والاستخفاِفِ بقضاياهم.
هذه العواملُ، ساهمتْ في شِدَّةِ نبرةِ النفورِ مِن كلِّ ما هو شماليٌّ إطلاقًا، بينما لِبِثَ حاكمُ "المركزِ المَقدِّسِ" في صنعاءَ سادرًا في توهُّمهِ، مُستخفًّا بالأمرِ، ومُعتبرَهُ سحابةَ صيفٍ سُرعانَ ما تنقشعُ... بينما كانت حِممُ النار تتشكل تحتَ الرمادِ، ولمْ يَعُدْ مُجدٍ معها الترقيعُ أو المماطلةُ.
لقد عَمًدَ علي عبدُ الله صالحٌ على "فكفكةِ" مفاصلِ الدولةِ ومؤسَّساتِها، وتحويلِ الجيشِ إلى مؤسَّسةٍ قبليَّةٍ عائليَّةٍ بامتيازٍ، واختارَ أضعفَ العناصرِ لقيادة الدولةِ، بينما كانَ وأسرتُه فقطْ المُشرفينَ على إدارتِها في واقعِ الأمرِ.
في مطلعِ 2010، بدأتْ القوى الشماليَّةُ الشابَّةُ استنهاضَ همَّتِها وإعلانَ سُخطها على ما يجري في دوائرِ الحكمِ في صنعاءَ من فسادٍ ونهبٍ وتحويلٍ البلادِ إلى حُكمٍ فرديٍّ ابتعدَ عن الوطنِ وهمومِه، وارتفَعت حِدَّة الانتقاداتِ وامتلأتِ الساحاتُ بالمعارضين لحُكمِ صالحٍ، والمنادين برحيلِه ورحيلِ أسرتِه.
وقعتْ أحداثٌ داميةٌ، راحَ ضحيَّتها العشراتُ مِن الشبابِ اليمنيِّ، نساءً وأطفالاً وشبابًا. وبلغَ العنفُ ذروتَه بما عُرِف ب "حَدَثِ مسجدِ دارِ الرئاسةِ" الذي أدَّى إلى إصابة صالحٍ وكبارٍ معاونيه بإصاباتٍ لم يُشفَ أغلبُهُم منها.
أصبحتْ الحياةُ اليوميَّة في المدنِ الرئيسةِ في شمالِ اليمنِ صعبةً للغايةِ، وصارَ انتقالُ الناسِ شِبْهَ مُستحيلٍ.
انتهتْ الأزمةُ بتوقيعِ الرئيس السابقِ علي عبدِ الله صالحٍ على المبادرةِ الخليجيَّةِ لحلِّ النزاعِ في نوفمبر 2011، وفي 21 فبراير 2012، تمَّ اختيارُ الرئيسِ الحاليِّ عبدِ ربِّهِ منصورِ هادي ليحلَّ محلَّه في استفتاءٍ شعبيٍّ متَّفقٍ عليه بين القوى السياسيَّةِ الفاعلةِ كافَّة.
لم يُسهمْ في تخفيفِ حِدَّةِ الاحتقانِ في الجنوبِ، وصولُ الرئيس هادي إلى سدَةِ الرئاسةِ، واختيارُ محمَّد سالم باسندوة رئيسًا للوزراء، وكلاهما جنوبيَّا، لأن الأثنين محسوبان ضمنا من أعوان صالح طيلة اغلب سنوات حكمه وممن ساهموا فعليا في حرب صيف 94 الظالمة.
رغم كل المصاعب فقد شهد العامُ المُنصرمُ:
1- فتحِ المعابرِ بينَ المناطقِ المختلفةِ داخلَ العاصمةِ صنعاءَ التي كانت ممزَّقةَ الأوصالِ بين حلفاء الأمسِ – أعداء اليوم.
2- البدءِ بإبعادِ أقاربِ صالحٍ من المواقعِ العسكريَّة والأمنيَّةِ والمؤسساتِ العامَّةِ.
3- بدءِ أعمالِ اللجنة الفنيِّةِ المُكلَّفةِ بإعدادِ مؤتمرِ "الحوارُ الوطنيُّ" الذي سيناقشُ القضايا الوطنيَّةَ كافَّةً. (أعودُ بتفصيلٍ سريعٍ لأهمِّ المواضيع التي سيتناولها المؤتمرُ عندَ انعقادِه.)
4- بدءِ التحرُّكِ لإعادةِ الخدماتِ الأساسيَّةِ للمدنِ، كالكهرباءِ. (كانت تنقطعُ لأيَّامٍ خلال عاميِّ 2010 – 2011)، وتوفيرِ المحروقاتِ وغيرِها.
مؤتمر الحوار الوطني:
دفعت الاحداث الدامية دول مجلس التعاون الى بذل مساعٍ للتوصل الى اتفاق لوقف النزيف وايجاد مخارج لإنهاءَ دورة العنف.. وبعد جهود مضنية تم التوصل الى اتفاق لنقل السلطة والشروع في تنفيذ جدول زمني للشروع في بناء منظومة حكم جديدة في اليمن...
أقرَّتِ المبادرةُ الخليجيَّة وآليَّتُها التنفيذيًّةُ انعقادَ مؤتمرٍ وطنيٍّ للحوارِ بين أطيافِ المجتمعِ اليمنيِّ، لكنها أغفلت بسبب عدم الرغبة في استفزار حكام صنعاء حينها، التطرق الى عمق القضية الجنوبية التي تشكل الان عمق الأزمة اليمنية وتركت المسألة الى مؤتمر الحوار الوطني.
تشكَّلتْ لجنَةٌ تحضيريَّةٌ للمؤتمر. ومعَ تأخُّرها في الانتهاءِ من أعمالهِا، فقد تمكَّنتْ مِن إنجازِ المهامِ المناطةِ بها.
بدأ "الحراكُ الجنوبيُّ" برفعِ سقفِ المُطالبةِ بالحقوقِ القانونيَّة والوظيفيَّةِ لليمنِ الجنوبيِّ، وتزعَّمه عددٌ من كبارِ القادةِ العسكريِّينَ الجنوبيِّين. لكنْ صنعاءُ المزهوَّةُ بغرورِ القوَّةِ، تعاملتْ باستخفافٍ مع القضيَّة، ومارستْ أسلوبَها العتيقَ في شراءِ الذممِ ومحاولاتِ كسبِ ولاءات بعضهم لكنها فشلتْ، وتصاعدتْ النقمةُ، وزادَ ارتفاعُ سقفِ المطالباتِ إلى حدِّ الدعوة للانفصالِ، أو ما أَطلق عليه بعضٌ "الاستقلال".
معَ رحيلِ صالحٍ الجزئيِّ عن الحكمِ، لم تبادرْ القيادةُ الجديدةُ في صنعاءَ ولم تتحرَّك بالسرعة المطلوبة للتخفيفِ من حِدَّة الاحتقانِ، وهذا خطأ، وربَّما خطيئة يصعبُ تفسيرُها. (منذ مدَّة، أصدر الرئيس هادي قراراتٍ بتشكيلِ لجنةٍ لمعالجةِ أوضاعِ المُسرَّحين عسكريِّين ومدنيِّين، وأخرى لمعالجةِ قضيَّةِ الأراضي المملوكةِ للدولةِ التي استولى عليها عددٌ من المتنفِّذين الشماليِّين، وآخرون من الجنوبيِّين الموالينَ للسلطةِ. وفي تقديري، هذه القراراتُ معَ وجُوبِها إلاَّ أنَّها تأخَّرتْ كثيرًا، ولا أعلمُ المدى الذي يمكنُ أن تسهمَ فيه لتهدئةِ النفوس!)
كما أسلفتُ، فقد أصبحتْ القضيَّةُ الجنوبيَّةُ العقدةَ الحقيقيةَ أمامَ نجاحِ مؤتمرِ الحوارِ الوطني. فبدونِ التوصُّلِ إلى معالجةٍ لها، فالحديثُ عن دستورٍ جديدٍ أو ماهية شكل نظامِ الحكم الجديد ربَّما لن يُجدي.
لستُ متفائلاً كثيرًا لبقاءِ اليمنِ موحَّدًا في دولةٍ مركزيَّةٍ يحكُمها "مركزٌ مقدَّسٌ". فاتِّفاقيَّة "العهدُ والاتِّفاق" التي نصَّتْ على بناءِ دولةٍ فيدراليَّةٍ بنظام حكمٍ برلمانيٍّ، ما لبث أن أطلقَ عليها الرئيسُ صالحُ نفسَهُ، ومعه كلُّ حلفائِه "وثيقةُ العُهرِ والخيانةِ"، رغم أنَّه مهَرَها بتوقيعهِ في عمان في العام 1994م. وكانت الحربُ المشؤومةُ في أبريل 1994، والتي أوصلتِ الأمورَ إلى ما هي عليه اليومَ.
ها نحنُ نتابعُ ما يدورُ في الجنوبِ من تنامٍ شديدٍ للمطالبةِ باستقلالٍ/انفصالٍ/فكِّ الارتباط، أو على أقلِّ تقديرٍ، بفيدراليَّة من شَطرين! لكن المُؤكَّدِ أنَّ الشرخَ النفسيَّ بين أبناءِ اليمنِ قد بلغ حدًّا أرى صعوبِة في تجاوزَهُ. فلربَّما كان خيار الدولة الاتحادية الفيدراليَّةُ هو الأمثل والأقلَّ ضررًا شريطة ان يتم بالتراضي لا بالفرض والقوة.
ليسَ أصعبَ على المُتحدِّثِ من أنَ يتركَ في ذُهنِ المُستمعِ سؤالاً هوَ نفسُه لا يجدُ إجابَةً وافيةً له. فهل الفدراليَّةُ حلٌّ لواقعِ يتنازَعُهُ اتِّجاهان مُتضَّانِ؟ لا أدري.
أتناول في عُجالة قضيَّة صعدةٍ، فقد طالَ الحديثُ.
حكمت الأسرُ الهاشميَّةُ الزيديَّةُ اليمنَ الشماليِّ ما يقاربُ ألف عامٍ، إلى أن قامت ثورة أو حركة 26 سبتمبر 1962، لتبرزَ على السطح عداواتٌ كامنةٌ في النفوس ضدَّ الهاشميِّين عمومًا، وهم الذين توارثوا ثقافةَ أنْ لا حكمَ إلاَّ لهاشميٍّ زيديٍّ على امتداد قرون طويلة.
إبَّان الردْحِ الطويلِ من القرونِ، تمَّمتْ عمليَّةُ إقصاءٍ الهاشميِّين إلاَّ قلَّةً، وإنْ غيرُ مُعلن، فصارَ هؤلاء يشعرون بقلقٍ شديدٍ.
في منتصف السبعينيَّاتِ، بدأت المملكةُ العربيَّة السعوديَّةُ بتمويلٍ، ما عُرفَ ب "المعاهدُ العلميَّةُ"، وأغدقت بالإنفاقِ على تمويلِها، وصارتْ تمثِّلُ نظامًا تعليميًّا متوازيًا مع النظام التعليميِّ الرسميِّ من جرَّاءِ تمتُّعِها باستقلاليَّة ماليَّةٍ وإداريَّة كاملةٍ. وصار الإشرافُ عليها يمثِّل موردًا بشريًّا للسلفيِّين والوهَّابيين، كما أضحتْ موردًا ماليًّا ضخمًا.
انتشرتْ مراكز "المعاهدُ العلميَّةُ" في معظمِ أنحاءِ اليمنِ، وبدأت عمليَّة فرضٍ للمذهبِ السنيِّ والفكرِ الوهَّابيِّ في المناطقِ المعروفةِ تاريخيًّا بزيديَّتها. كانَ الأمرُ مسكوتًا عنه من أبناءِ المذْهبِ الزيديِّ، بل وتمَّ الاستعانةُ بهؤلاءِ في المعاركَ السياسيَّة بين صالحٍ وحزب التجمُّع اليمني للإصلاح بعدَ انتهاءِ "شهرِ العسلِ" بينهما.
عَمَدَ صالحٌ إلى تمويلِ ممثِّليهم في صعدة التي كانت المركزَ الحقيقيَّ لهم، ورويدًا رويدًا، بدأ أبناء المذهبِ الزيديِّ يضجُّون من انتشارِ معاهدٍ تنشرُ الفكرِ الوهَّابيَّ والسلفيَّ، وسطوتِها ومضايقةِ الزيودِ فيها.
بدأتْ المسألةُ بمعاركَ صغيرةٍ سرعانَ ما تحوَّلت إلى حروبٍ ستَّة، دمَّرت المدينةَ، وقتلت المئاتِ، وربَّما الالآفَ، وشرَّدت الكثيرين من صعدة. ومعَ الدعمِ الماليِّ الكبيرِ، والحشدِ العسكريِّ الضخمِ إلاَّ أنَّ حركةَ الحوثيِّين استطاعت أنْ تُلحقِ الهزيمةَ بالجيشِ النظاميِّ، وأن تفرضَ سيطرتها الكاملةَ على صعدةَ والمناطقِ المجاورةِ. (لابد من الإشارةِ هنا الى أن الاحتراب الداخلي في اليمن هو مورد هام للحصول على المال والسلاح وليس مهما الخلفية الفكرية ولا الجانب الذي يقفون الى صفه فهي في مؤخرة اهتمامات رجال القبائل. أثناء الحرب بين الجمهوريين والملكيين 62 – 70 كانت القبائل تعمل تحت شعار "اللهم انصر الجمهورية الى النص.. وانصر الملكية الى النص.. وهو شعار لا يزال ديدنها وتمارسه في كل الصراعات الداخلية).
لمْ يكتفِ الحوثيُّونَ باستعادةِ سيطرتِهم على صعدةَ، فبدأوا بمحاولةِ التوسُّعِ في المناطقِ الشافعيَّة كتعزِ وحضرموتَ والحديدةِ والجوفِ ومأربِ، وأثبتوا أنَّهم يمتلكونَ آليَّةً تنظيميَّةً منضبطةً ومؤدلجةً.
صارتْ الحركةُ الحوثيَّةُ مركزَ ثقلٍ في الشمالِ الزيديِّ، وتنامى نفوذُها بانهيارِ سلطةِ الدولةِ على تلك المناطقِ، وبلغ الأمرُ أنَّهم نصبَّوا محافظًا لصعدةَ، واعتمدوا رؤساءَ المصالحِ الحكوميَّةِ. تمَّ كلُّ ذلك بعلم صنعاءِ، "المركز المقدَّس"، وبتمويل الخزينة العَّامة. (هم الآنَ يطالبونَ بتثبيتِ المُحافظ الذي اختاروه بمرسومٍ رئاسيٍّ، وسيكونُ لهم ذلكَ.)
لقد منحتْ اللجنةُ التحضيريَّةُ لمؤتمرِ "الحوار الوطني" 37 مقعدًا لممثِّلي الحركة الحوثيَّة من أصل 565 كامل أعضاء المؤتمر. لكنَّهم يطالبون بمضاعفةِ العدد حَّتى يتمكَّنوا من إدخالِ انصارهم الجُددِ من أبناءِ المناطقِ الشافعيَّة.
مرَّة أخرىْ، أراني متشائمًا من نتائجَ مؤتمرِ "الحوار الوطني"، وأخشى أنْ يكونَ "القشَّةَ" التي قد تقصمُ ظهرَ اليمنِ، وتجعلُه عُرضَةً لرياحٍ عاتيةٍ تمزِّقُهُ شَرَّ مُمَزَّقٍ. ويُحزنني أنْ أصبحَ غايةَ الأمانيِّ اليومَ لقاءُ يمنيٍّ شماليٍّ بآخرَ جنوبيٍّ ليتذاكرا ويتناجيا كعهدِهما قبلَ 22 مايو 1990.
أذكرُ أنَّني في يونيو 1994، زرتُ الرئيسَ اليمنيَّ السابقَ علي ناصر محمِّد في مقرِّ إقامتِه في دمشقَ، وناشدتُه اللهَ أن يسعى جاهٍدًا لفكِّ الحصارِ عن مدينةِ عدنٍ، وأن يعملَ لرفعِ الظلمِ عن أهلهِا الذين حاصرَهم العطشُ في صيفٍ قائظٍ. وقلت له إنَّ كلَّ ما أتمنَّاهُ، أنْ يتمكَّن اليمنيُّ جنوبيًّا كانَ أم شماليًّا من التنقُّلِ بحرِّيَّةٍ بينَ أنحاءِ اليمنَ الواحدَ! حتَّى هذه الرغبةُ بعدَ عقدينِ مِن عمرِ يَمننا المديدِ صارت محفوفة بالمخاط الان وليستْ مؤكَّدةً في المستقبل!
على جدرانِ مسؤولينِ كبارٍ في اليمن، نجدُ هذه الآيةَ الكريمةَ: {لقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ}، مُحاطةً بإطارٍ جميلٍ، يتباهي به هؤلاء أمام زائريهم. العجيبُ أنَّهم يتجنَّبون حتَّى تذكُّرِ الآياتِ التي تليها: {فأعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ. وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِين. فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ. لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ.}
حتَّى هؤلاءِ "المؤمنينَ" يبدو كأنَّ "اشتَبَهتْ عليهمُ البَقَرُ". فلا أدري إنْ كانَ في اليمنِ بقيَّةٌ من حِكمةِ تنقِذهُ مِن شرِّ أبنائهٌ!
بعدَ هذا السردِّ لا بُدَّ مِن سؤالٍ: وماذا بعدُ؟
اليمنُ، يسيرُ بسرعةٍ فائقةٍ نحوَ هاويةٍ بِلا قَرارٍ.
هذا ليسَ تشاؤمًا! لكنَّه انعكاسٌ لما يعتملُ على أرضِ الواقعِ.
يتصوَّرُ بعضٌ أنَّ انعقادَ مؤتمرِ "الحوارِ الوطنيِّ"، سيشكِّلُ المخرجَ الآمنَ لكنْ التاريخُ والأحداثُ أثبتْوا على مرِّ العصورِ أنَّ المخرجَ الآمنَ لا يكونُ بالتمنِّي والرغباتِ.
ولا أرى في يمنيَ الحاليِّ، معَ المرارةِ والأسى، ما يزيلُ شكٍّي ويأسي.
فهلْ باتَ اليمنيُّ يطلبُ منَ اللهٍ ضارِعًا: اللهمَّ نَجِّني مِن شرِّ أنْفُسِنا وإخوَتِنا وأصدِقائِنا، أمَّا أعدائي، فأنا كفيلٌ بهم.
ومعَ ظلامِ الواقعٍ، والخوفَ من الآتي، أقولُ: هَبْ جَنَّةَ الخُلدِ اليَمَنْ، لا شيءَ يَعْدُلُ الوَطَن.
والسلامُ عليكمْ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.