سيدة الغناء العربي أم كلثوم، التي رحلت عنا في مثل هذه الأيام قبل 38 عاماً، قضت عمرها منذ طفولتها الأولى، وحتى ما قبل رحيلها بسنتين، أي حتى العام ،1973 تغني لجمهور الأرياف المصرية في وجه بحري أولاً، ثم لجمهور القاهرة في العشرينات، ثم لسائر الجماهير العربية ما بين المحيط والخليج، التي وضعتها في منزلة لم يرتفع إليها مطرب عربي آخر في القرن العشرين غير محمد عبد الوهاب . تنقسم حياة أم كلثوم الغنائية إلى ثلاث مراحل: المرحلة الأولى التي امتدت من الطفولة الأولى حتى نزولها إلى القاهرة في العام ،1923 ويمكن القول إن هذه المرحلة كانت مرحلة التكوين والتأسيس الجاد لهذه الحنجرة الاستثنائية، بتدربها على أصعب أصول الغناء العربي، عنيت بها تواشيح الإنشاد الديني، التي اتقنتها وأصبحت نجمة من نجومها من قبل انتقالها إلى القاهرة، حيث تنبه لعبقريتها المبكرة النجمان الكبيران أبو العلا محمد وزكريا أحمد . أما المرحلة الثانية فكانت مرحلة النضج والانتشار الجماهيري الأوسع في مصر وسائر أرجاء الوطن العربي، مع فرسانها الثلاثة في التلحين، الذين كانوا وفق تعاونهم التاريخي مع أم كلثوم: محمد القصبجي أولاً، ثم زكريا أحمد، ثم رياض السنباطي . وكان صوت أم كلثوم في هذه المرحلة الثانية التي امتدت ثلاثين عاماً، من منتصف العشرينات حتى منتصف الخمسينات، في ذروة تألقه التاريخي حتى وصل إلى المرحلة الثالثة والأخيرة، حين بدأت أم كلثوم تتعاون مع المحلنين الشباب: كمال الطويل ومحمد الموجي وبليغ حمدي وسيد مكاوي، إلى جانب تعاونها المتأخر جداً مع الموسيقار محمد عبد الوهاب بين منتصف الستينات ومنتصف السبعينات، عندما كان صوتها قد دخل مرحلة الشيخوخة والتراجع الطبيعي بحكم الزمن . أعظم مراحل أم كلثوم التاريخية هي بلا جدال مرحلتها الثانية، لكن جمهور هذه الايام في مطلع القرن الحادي والعشرين، لا يعرف من أم كلثوم إلا متفرقات متقطعة من مرحلتها الثالثة، الأقل لمعاناً في تاريخها الفني الكبير والطويل . فمع اختفاء إذاعة أغاني العصر الذهبي من سائر وسائل الإعلام العربي، لم يبق لنا من أم كلثوم إلا بعض الأعمال التي تنتمي كلها إلى المرحلة الأخيرة والمسجلة على أشرطة فيديو، لأن التلفزيون المصري لم يلحق بأم كلثوم وفنها العظيم إلا فيما بين السنوات 1960 و،1973 حين كان صوتها، وقتها، في مرحلة الشيخوخة . حتى هذه الأعمال لا تذاع بشكل يليق بسيدة الغناء العربي، بل تكتفي الفضائيات بإذاعة مقاطع مبتسرة ومتقطعة، وسيئة التسجيل في الغالب . ومع أن الحان عبد الوهاب لأم كلثوم لم تلحق بصوتها للأسف الشديد إلا في المرحلة الأخيرة، فإننا نكتشف أن أم كلثوم مجهولة لدى جمهور هذه الأيام، ومغيبة عن مسامعه، حتى فيما انتجت في مرحلتها الأخيرة هذه، فقد خرجت علينا قبل أيام مذيعة تلفزيونية، تؤكد أن عبد الوهاب لم يلحن لأم كلثوم سوى ثلاثة ألحان، وذكرت ثلاثة عناوين أغاني كلثومية، لحن الثالثة منها بليغ حمدي . والغريب أن ضيف الحلقة كان مطرباً كبيراً محترماً، لكنه لم يصحح للمذيعة معلوماتها الفضائحية، فيخبرها أن عبد الوهاب قد لحن لأم كلثوم عشر أغنيات: وطنيتان، وثماني أغنيات عاطفية . المعنى المؤسف لهذا الكلام أن الجمهور الذي لديه فكرة في هذه الأيام عن غناء سيدة الغناء العربي في القرن العشرين، يملك في الأغلب فكرة مشوهة لا تتجاوز غالباً المرحلة الأخيرة من فن أم كلثوم: مرحلة الشيخوخة . مع ذلك، ولحسن الحظ فما زالت تسجيلات أم كلثوم التاريخية في مرحلتها الفنية الأعظم (المرحلة الثانية) ما زالت في ادراج إذاعة القاهرة، تنتظر مؤسسة إعلامية حضارية تخصص مبلغاً بسيطاً من الملايين التي تهدر يميناً ويسارا، لإعادة وضع تسجيلات أم كلثوم التاريخية، أي ما بين العشرينات والخمسينات، في متناول جماهير هذه الأيام، بأسعار معقولة، وبطباعة تليق بمستوى سيدة الغناء العربي في القرن العشرين، المغيبة عن اسماعنا تغيباً حقيقياً في هذه الأيام .