الطيران الأمريكي يجدد قصف ميناء نفطي غرب اليمن    مسلحون يحاصرون مستشفى بصنعاء والشرطة تنشر دورياتها في محيط المستشفى ومداخله    سريع يعلن استهداف يافا بفلسطين المحتلة    وزير سابق: قرار إلغاء تدريس الانجليزية في صنعاء شطري ويعمق الانفصال بين طلبة الوطن الواحد    قائد الاحتلال اليمني في سيئون.. قواتنا حررت حضرموت من الإرهاب    تراجع في كميات الهطول المطري والارصاد يحذر من الصواعق الرعدية وتدني الرؤية الافقية    باحث يمني يحصل على برأه اختراع في الهند    هزتان ارضيتان تضربان محافظة ذمار    الكوليرا تدق ناقوس الخطر في عدن ومحافظات مجاورة    "الأول من مايو" العيد المأساة..!    غزوة القردعي ل شبوة لأطماع توسعية    الجنوب هو الخاسر منذ تشكيل مجلس القيادة الرئاسي    وقفات احتجاجية في مارب وتعز وحضرموت تندد باستمرار العدوان الصهيوني على غزة    احتراق باص نقل جماعي بين حضرموت ومارب    حكومة تتسول الديزل... والبلد حبلى بالثروات!    البيع الآجل في بقالات عدن بالريال السعودي    عنجهية العليمي آن لها ان توقف    الإصلاحيين أستغلوه: بائع الأسكريم آذى سكان قرية اللصب وتم منعه ولم يمتثل (خريطة)    من يصلح فساد الملح!    مدرسة بن سميط بشبام تستقبل دفعات 84 و85 لثانوية سيئون (صور)    البرلماني بشر: تسييس التعليم سبب في تدني مستواه والوزارة لا تملك الحق في وقف تعليم الانجليزية    شركة النفط بصنعاء توضح بشأن نفاذ مخزون الوقود    السياغي: ابني معتقل في قسم شرطة مذبح منذ 10 أيام بدون مسوغ قانوني    السامعي يهني عمال اليمن بعيدهم السنوي ويشيد بثابتهم وتقديمهم نموذج فريد في التحدي    التكتل الوطني يدعو المجتمع الدولي إلى موقف أكثر حزماً تجاه أعمال الإرهاب والقرصنة الحوثية    مليشيا الحوثي الإرهابية تمنع سفن وقود مرخصة من مغادرة ميناء رأس عيسى بالحديدة    "الحوثي يغتال الطفولة"..حملة الكترونية تفضح مراكز الموت وتدعو الآباء للحفاظ على أبنائهم    شاهد.. ردة فعل كريستيانو رونالدو عقب فشل النصر في التأهل لنهائي دوري أبطال آسيا    نتائج المقاتلين العرب في بطولة "ون" في شهر نيسان/أبريل    النصر يودع آسيا عبر بوابة كاواساكي الياباني    اختتام البطولة النسائية المفتوحة للآيكيدو بالسعودية    وفاة امرأة وجنينها بسبب انقطاع الكهرباء في عدن    هل سيقدم ابناء تهامة كباش فداء..؟    سوريا ترد على ثمانية مطالب أميركية في رسالة أبريل    صدور ثلاثة كتب جديدة للكاتب اليمني حميد عقبي عن دار دان للنشر والتوزيع بالقاهرة    فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    جازم العريقي .. قدوة ومثال    غريم الشعب اليمني    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تجربة "اوجستو بوال" في المشهد المسرحي المصري
نشر في الجنوب ميديا يوم 12 - 11 - 2012

في عام 1996 شرفت بترجمة كتاب من تأليف المنظر المسرحي البرازيلي "أوجستو بوال"كأحد إصدارات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، كان الكتاب ينظر لإحدى تقنيات منهج مسرح المقهورين وهو "قوس قزح الرغبة". وقد كان هو نفسه عنوان الكتاب الذي تم تغييره إلى "منهج اوجستو بوال المسرحي"نظراً للربط الشائع بين كلمة الرغبة (وتعني هنا ما يريده المرء) وبين معان حسيّة لم يكن لي يد في تغيير العنوان ولم ألتفت كثيراً لأنني كنت في سعادة عارمة بخروج هذا العمل الفذ إلى النور لا سيما أنه سيواكب الزيارة الأولى لبوال لمصر من أجل تكريمه في المهرجان، فقط حاولت أن أتناسى أن تغيير العنوان ينطوي على خطأ جسيم، فإلى جانب أنه يعني رقابة مباشرة على العمل، فإنه أيضاً تحول إلى خطأ علمي حيث إنه أوحى للقارئ أنه بصدد منهج بوال أو على الأصح منهج مسرح المقهورين، بينما لم يكن الكتاب يحتوي سوى على تقنية واحدة من تقنيات هذا المنهج .
لمن لم يتعاملوا مع منهج مسرح المقهورين من قبل يجب أن نوضح أن المنهج يحتوي على خمس تقنيات أساسية نمت كلها أساساً من الألعاب الشعبية وفكرة الفرجة التفاعلية ثم تفرعت إلى مسرح كلامي أسس لمسرح المنتدى وإلى مسرح الصورة الذي أسس لقوس قزح الرغبة . واكتملت كل من التقنيات كتطوير لسابقاتها فهناك مسرح الجريدة والمسرح الخفي ومسرح المنتدى وقوس قزح الرغبة والمسرح التشريعي، وكلها تتبع فلسفة وإطاراً واحداً وفقاً لمنهج مسرح المقهورين . وببساطة شديدة يمكننا أن نصف كل من تلك التقنيات كالتالي:
مسرح الجريدة "شرح تمثيلي«: من أبسط وأوائل الأشكال المسرحية التفاعلية وتقوم على طرق عدة مثل قراءة أخبار من الجريدة بصوت عال في الأماكن العامة أو حتى كفاصل في إحدى الفعاليات المسرحية، على أن تكون تلك القراءة تبرز فجاجة تلك الأخبار أو عدم صحتها وذلك بناء على الأداء، ويمكن أن تكون الأخبار صحيحة وفي هذه الحالة يجب قراءتها كشهادة مثل الأخبار التي تفيد بعدد الشهداء في مكان ما، ويمكن في حالات أخرى تقديم أخبار مؤلفة أو أخبار نصفها من الجريدة بالفعل، بينما الجزء الآخر في الجريدة غير حقيقي، وبالتالي يتم إحلاله ببقية مؤلفة خصيصاً لتفيد بما حدث في الواقع إلى آخره .
المسرح الخفي (شرح تمثيلي بإعطاء نموذج) هو نوع شائع جداً ولو لم يتخذ شكلاً منهجياً . ويقوم ببساطة على تقديم موقف صراعي فيه نزاع واضح بين فردين في مكان عام دون إعلام الناس أنه مشهد تمثيلي، وعادة ما يتدخل الناس لحل النزاع فيكونون بذلك قد انخرطوا في العملية المسرحية وأصبحوا على أعتاب مسرح المنتدى، وبالرغم من أن الممثلين لا يعلنون الحقيقة إلا بعد انتهاء المشهد إلا أن ذلك الإعلان يؤسس لعلاقة جديدة مع الناس/ المتفرجين ويمنع الإحساس بالخديعة .
مسرح المنتدى (قراءة التوصيف المنهجي كما ساقه بوال): مسرح يتحول فيه المتفرج إلى ممثل أو إلى فاعل يعيد صياغة المشهد المسرحي من خلال تفكيره الإيجابي الخلاق فيعمل كمؤلف أو دراماتورج فوري . ويجسد ذلك التفكير فورياً أيضاً كما لو كان ممثلاً مدرباً على الارتجال . إنه أيضاً المسرح الذي يشارك فيه الممثل على المنبر زميله المتفرج في اختبار المقترح المطروح، وما إذا كان فعلاً يقود إلى الحل، فلا يمكن أن تحدث انفراجة في المشكلة إلا إذا كان الحل مقنعاً ولا يتجه إلى الحلول الخرافية ولا إلى الفساد أو العنف، إنه مسرح التمرد على القهر بشكل فعال وليس بالتنظير والكلام، ومسرح التمرد بالفعل الدرامي، فعندما يتمكن المتفرج من المشاركة الفعالة أمام جمهور المواطنين يصبح له صوت مسموع ويعرف أن التغيير ممكن، وكما يقول بوال "عندما يستطيع المتفرج التغيير داخل العرض لن يعود أبداً إلى الواقع ويتنازل عن قدرته على التغيير". إنه مسرح التدريب على الثورة وليس الثورة نفسها .
قوس قزح الرغبة (تطوير شرح المنتدى): تقنية مستمدة من مسرح الصورة بالأساس، وتقوم على صياغة القهر الداخلي الذي يقع داخل نفسية الفرد مثل أن يكون عنصرياً تجاه نفسه أو أن يكون خائفاً بسبب خبرة نفسية سيئة تؤدي إلى فقدانها الإرادة، ومن ثم تقع ضحية للقهر، ويمكن استخدامها في مسرح السيكودراما لكن يمكن كذلك تطوير البحث بهذه التقنية وصولاً إلى ترجمتها في مشهد مسرحي يجسد العناصر النفسية والمخاوف الداخلية على هيئة شخوص درامية .
المسرح التشريعي (تطوير للمنتدى مع نماذج تاريخية): هو امتداد لمسرح المنتدى، فعندما يكشف المتفرج أنه لا حل للصراع إلا بما يتعارض مع القانون وكأن هناك ثغرات في القانون تدعم حدوثه ولو بشكل غير مباشر، يجب تغيير القانون، وهنا تتم الاستعانة بمحام أو ناشط حقوقي لصياغة المقترح وبعد تجميع توقيعات المواطنين من هذا الحي يتم رفع المطالبة والمقترح إلى البرلمان لمناقشته، وقد نجح المسرح التشريعي بالفعل في إدخال قوانين جديدة كان من شأنها تغيير أوضاع مجتمعية كثيرة .
لقد غيرت ترجمة كتاب "اوجستو بوال"من نظرتي للمسرح، وقد كنت وقتها ممثلة في مركز الهناجر للفنون ومعيدة بأكاديمية الفنون وأديبة ومترجمة وراقصة من مؤسسي فرقة الرقص المسرحي الحديث في دار الأوبرا المصرية . أدركت معنى جديداً للمسرح خارج أسوار المبنى المسرحي وخارج سيطرة المؤسسة المسرحية والثقافية التقليدية، وقد وجد هذا المعنى أصداء قوية لديّ بسبب الخلفية اليسارية التي تربيت عليها والتي تجذرت في عملي كفنانة، في ما بعد بسبب المسرح الجامعي، وحلم التغيير من خلال المسرح مع زملاء مثل خالد الصاوي وخالد صالح ونادر صلاح الدين وغيرهم، وأيضاً بسبب تيار المسرح المستقل الذي نشأ بالتوازي مع ومن خلال مسرح الهناجر، وهو التيار الذي كنت من مؤسسيه ومن أوائل المخرجات اللاتي أسهمن فيه بفرق مستقلة من تأسيسهن .
وبالرغم من هذا الإدراك الجديد أو لنقل الإدراك الجديد الذي أيقظ حساً قديماً ومتجذراً، إلا أنه لم ينتج عنه أية مترتبات عملية في ما يخص العملية المسرحية التي كنا نمارسها في النصف الأخير من التسعينات . كنا منغمسين في محاولة إنتاج جماليات مسرحية جديدة تخص جيلنا، والتأكيد على قيم التغيير من خلال النصوص المسرحية المؤلفة التي تفتح مساحة معرفية جديدة في مواجهة المسرح السائد سواء كان التجاري أو الحكومي . كنا نكافح لإرساء تيار المسرح المستقل وبناء قاعدة جماهيرية هنا وهناك .
وأعتقد أننا قد نجحنا في هذا وذاك على مدار السنوات من 1996 وحتى 2003 لكنني كنت قد بدأت أتأكد أنه لا محالة من اللجوء إلى مسرح المقهورين إذا ما أردنا الاقتراب أكثر من الجمهور والوصول إلى علاقة اشتباك حقيقي مع الشارع المصري يمكن للمسرح فيها أن يكون أداة فنية واجتماعية للتغيير . وفي هذا العام تحديداً حصلت على منحة من اليونسكو لشباب الفنانين للتدرب على يد بوال في ريو دي جانيرو في المركز الذي أسسه بنفسه وأداره حتى وفاته . في ريو دي جانيرو فهمت منهج بوال أكثر وعرفت أن المنهج المسرحي لا يمكن تعلمه من خلال الكتب، فالمسرح فن ممارسة ولا يجوز تعلمه واتقانه إلا بالخبرة العملية الذهنية والجسدية . يجوز بالطبع الاستناد إلى الكتب والاعتماد عليها لتوسيع المعارف والمعلومات، إلا أن الخبرة الأساسية لا تأتي إلا بالممارسة، وذلك تحديداً لمن يريد أن يصنع مسرحاً لا أن ينظر له فحسب .
أعتبر البرازيل دولة إفريقية على الأقل إذا ما نظرنا إلى أصول الأغلبية العظمى من سكانها آخذين في الاعتبار أن البرتغاليين قد أبادوا معظم السكان الأصليين وهم يستعمرون البرازيل محدثين أكبر إبادة جماعية لسكان أصليين من جراء الاستعمار، وهكذا تم استيراد الأفارقة ليحلوا محل من تمت إبادتهم . وفي البرازيل يمكنك أن تشعر أنك في قارتك وسط أناس تعرف ملامحهم وتعودت على ثقافتهم ليس هذا فحسب، بل إن البرازيل قد شهدت تاريخاً معاصراً قريباً للغاية من التاريخ في منطقتنا العربية من حيث الحكم الديكتاتوري وثورات الشعوب وما تلاها أو سوف يتلوها من مراحل غليان وبحث متأجج عن الطريق .
كان "بوال"يسارياً ثورياً منذ البداية، وكان فناناً مسرحياً يقدم مسرحاً كلاسيكياً إلى جانب عمله كناشط سياسي، لم يكن يحلم فحسب بالتغيير، بل كان يسعى بالفعل لتحقيقه، لكن بعد أن تم اعتقاله وتعذيبه تعذيباً مبرحاً - ويفوق العقل- على يد السلطة الديكتاتورية أدرك بوال أنه لا بد أن يمزج دوره كناشط سياسي مع دوره كفنان مسرحي ولكي يحقق ذلك عليه أن يبتكر منهجاً مسرحياً جديداً خاصاً به، وبعد أن تم الحكم عليه بالإعدام ثم تم تخفيف الحكم إلى النفي إلى فرنسا، بدأ بوال العمل على تكوين منهجه الجديد من خلال مختبره والبحث المسرحي اليومي ما نتج عنه انتشار المنهج وتطبيقه في فرنسا وأوروبا قبل انتقاله إلى البرازيل مع عودة بوال إلى هناك بعد انهيار الحكم الشمولي وإعلان الجمهورية الجديدة التي كان هو من أوائل من ناضلوا من أجلها .
ومع رجوعه تكونت مجموعات كبيرة من النشطاء تدربت معه، وقامت بتدريب آخرين حتى انتشر هذا النوع من المسرح في جميع أنحاء البرازيل، وبينما تم انتخاب بوال كعضو في أول برلمان في الجمهورية الجديدة أصبح أيضاً يلعب دوراً تشريعياً وسياسياً يدعم الفنون ويتيح لمسرح المنتدى التطور إلى المسرح التشريعي، فيتحول الفن إلى جسر يعكس صوت المواطنين وقناة تمكنهم من اقتراح تشريعات مجتمعهم .
وبالرغم من أن منهج "بوال"هو منهج مسرحي في المقام الأول على الأقل من حيث تكوين العرض المسرحي وآليات الفرجة وتدريب الممثلين وتطوير العمل ككل، إلا أنه المنهج المسرحي الوحيد الذي ينفتح على غير الممثلين (ويذكرنا ذلك بكتابه الأشهر "ألعاب للممثلين ولغير الممثلين«) ويتمكن من خلاله المعلمون والاختصاصيون الاجتماعيون والممرضون والنشطاء السياسيون والمثقفون والسجانون والمسجونون وغيرهم كثيرون، من إيجاد منبر أو منتدى عام وأهلي يخاطبون من خلاله الجمهور أو أهالي المنطقة أو من حولهم، بل ويتمكنون أيضاً من جذب هؤلاء المتفرجين فوقه ليشاركونهم التجربة ويبحثون سوياً عن حل للقهر .
هكذا أصبح المسرح هو أي مكان تتوفر فيه شروط الفرجة سواء كان خشبة مسرحية أو ساحة رياضية أو مركز شباب أو ميداناً عاماً أو فناء سجن أو صالة كافتيريا في مستشفى أو كنيسة أو مصنعاً أو ناد اجتماعي لشركة، وكذلك أصبح المتفرج فاعلاً ومشاركاً في العملية المسرحية، بل أصبحت العملية المسرحية عملية اجتماعية وسياسية وتنويرية يتحول فيها الفعل المسرحي إلى فعل رمزي من أجل التغيير أو إلى فعل يحث على التغيير حتى بعد الخروج من اللعبة المسرحية، أو على أقل تقدير هو تدريب على التفكير الإيجابي والنقدي حيال القهر، وعلى تمكين الذات من الإمساك بمقاليد الأمور في مواجهة الخوف أو العنف أو الحلول الخرافية .
في البرازيل وجدت نفسي أحياناً يجب أن تذهب إلى أبعد مكان في العالم حتى تعثر على نفسك، وكان مرشدي في تلك الرحلة الفنية والإنسانية هو بوال نفسه . الدرس الأول: يمكنك أن تصنع ما يحلو لك، يمكنك أن تحقق أصعب الأحلام، فقط لو آمنت أن مصيرك بيدك أنت، ولو استطعت أن ترى الفرصة في كل خطوة، وأن تكف عن شعورك أنك مقهور أو مفعول به، وعلى أي الأحوال لا تكف عن الحلم .
وبما أن التغيير كان هو دوماً الحلم الأمثل، فقد عدت من البرازيل وأنا أكثر قناعة وإصراراً أنني قادرة على تحقيقه، قمت بتمويل وإنتاج الورشة الأولى لمسرح المنتدى في مصر في يناير 2004 والتي قام فيها بالتدريب واحد من أهم المدربين المساعدين لبوال البرازيلي جيو بريتو، وقد كانت ورشة تدريبية ناجحة للغاية إلا أن المتدربين لم يواصلوا العمل بالمنهج، وهو الرهان الأساسي عندما تقيم ورشة لنشر هذا المنهج، ومن ثم فقد أجهضت التجربة قبل أن تكتمل . تلتها تجارب أخرى قمت فيها بالتدريس بنفسي، فعلى مدار أربع سنوات قدمت ورشاً مختلفة في السودان ومالطا وألمانيا بمعدل ورشة كل عام، لكنني لم أكن أطمح إلى تحويل المتدربين إلى مدربين في المستقبل واكتفيت بالعروض التي وصلنا إليها في النهاية، حتى عام 2008 وهو العام الذي قررت فيه التعاون مع مؤسسة أهلية في الاسكندرية "انعكاس"لتدريب مجموعة تنتج عروضاً ويكونون مؤهلين للتدريب في ما بعد، وبالفعل عملت مع مجموعة رائعة مكونة من 16 ممثلاً وأنتجنا 3 عروض تعرضت لقهر المرأة والتمييز والتحرش، وكانت العروض مذهلة وأثبتت بالفعل إمكانية التواصل الحي مع الجمهور وصعوده للمنبر المسرحي للعثور على حل أو فرصة للحل خارج منظومة القهر والصراع الأساسيين، شعرنا جميعاً أن الوعي الجمعي ينمو بقوة خارج مؤسسة السلطة وأن التغيير قادم لا محالة .
وللمرة الأخيرة راهنت على أن الفريق سوف يواصل العمل وسوف يكون مجموعات صغيرة وسوف ينطلق كل فرد ليكون قائداً في منطقته ويشكل عروضاً تحت إشرافه، وللمرة الأخيرة خسرت الرهان، وأمضيت عامين في إخراج وإنتاج أعمال مسرحية تحث على التمرد، لكنها لا تخرج خارج العلبة المسرحية . حتى يوم 25 يناير ،2011 ففي ذلك اليوم والأيام التي تلته كنت أخرج من منزلي بصعوبة تحديداً لأنني أسكن فيما يعادل ميدان التحرير لكن في الاسكندرية، وكان الشارع مدججاً بالأمن المركزي الذي كان مقر قيادته في مدخل بنايتي وكان جميع الممثلين في الفرقة يخرجون من البروفة إلى المظاهرة، كنا جميعاً معرضين للموت أو الاعتقال أو كنا معرضين لتحقيق الحلم، وفي خضم ذلك كله توقفت البروفات وتم إلغاء العرض، وأصبحت الساحة الحقيقية الوحيدة للعمل هي الشارع .
مع مرور الأيام بل الشهور ازداد يقيني أنه لا رجوع في الثورة وأنني وزملائي على وشك أن نحصد ثمار عشرين عاماً من العمل المسرحي والعمل العام، لكن الفرحة لم تطرق بابي برغم ذلك بسبب إدراكي المتنامي أن المسرح لم يعد له وجود وأن معظم الأصدقاء الثوريين يرون أن التفكير في الفن الآن هو محض رفاهية في مواجهة التيارات المتشددة التي بالتأكيد ترى أن الفن حرام من الأساس .
لكنني لم استسلم لليأس وسرعان ما تذكرت نصائح "بوال"الذي وافته المنية منذ عامين وظل يراسلني حتى آخر لحظة من دون أن يعلمني بمرضه فقط كي يشجعني على الاستمرار وعلى تحقيق حلم مسرح المقهورين المصري، وعندها أدركت قيمة مقولته التي أسهمت في تطوير المنهج: إن ذروة الأزمة هي أفضل لحظة للحل . وهكذا تأكدت أن هذه هي أفضل لحظة تاريخية لتقديم مسرح المنتدى في مصر، وأنه برغم كل العقبات فهذه هي اللحظة المثلى، وهو كذلك التوقيت المثالي الذي يحتاج فيه المواطن المصري هذه المقاربة .
من هذا المنطلق بدأت رحلتنا مع المشروع المصري لمسرح المقهورين والذي يضم حتى الآن قرابة 350 ناشطاً، ومن المتوقع أن يصل العدد مع نهاية عام 2012 إلى ألفي فرد . والمشروع في عامه الأول يطمح إلى تكوين فريق من المدربين يمكنهم من تقديم عروض لمسرح المنتدى في الاسكندرية بمعدل شهري ثابت لا يقل عن ثلاثة عروض شهرياً في ثلاثة أماكن متفرقة من الاسكندرية وضواحيها، إلى جانب العرض في بداية كل شهر بأحد الميادين العامة في القاهرة، وكذلك بالتخطيط لإقامة ورشة كل شهر في محافظة مختلفة من خلال طاقم المدربين الأساسيين لتدريب فريق محلي بالمحافظة يمكنه تقديم عروض منتظمة لمسرح المنتدى ويمكنه كذلك تدريب مجموعات صغيرة في المراكز الأساسية بكل محافظة، ووفقاً لهذه الخطة يمكن بث أنشطة المشروع المصري لمسرح المقهورين في جميع أنحاء القطر المصري بالتوازي وبالتزامن مع بعضها بعضاً ومن دون فقدان التركيز على المدن المحورية كالقاهرة والاسكندرية ومدن القناة .
إنني واثقة أن المتفرج المصري بل العربي لم يعد في الحالة التي يمكنه بها التعامل مع المسرح كأداة للترفيه أو التسلية، ولا أيضاً كأداة احتفالية، إن الحالة الوحيدة التي يجوز بها للمسرح الآن أن يكسب أرضاً جديدة هي أن يشتبك مع الوعي الثوري ومع مسارات التغيير، فالأحرى بنا أن نكف عن اعتبار المواطن متفرجاً يتلقى وحسب، لأن دورنا الآن أن ندمجه في العملية المسرحية كمشارك فعال، ودورنا هو أن ندمج المسرح في التغيير وأن نسهم في تثوير المؤسسة المسرحية . دورنا أن نبتكر للمسرح دوراً وآلية تساعدان على البقاء على قيد الحياة كجسر معرفي أساسي وكمنبر للعمل العام ولإعادة الصوت لأصحابه، أولئك الصامتين الذين تجلجل أصواتهم منذ قرابة العام أو يزيد . أصواتهم وأصواتنا أصداء لبعضها بعضاً . . تماماً كما المسرح في معناه البدائي والجوهري .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.