لم تفوّت إسرائيل الفرصة إذ انتقدت المبادرة القطرية لإنشاء صندوق برأسمال مقداره مليار دولار لحماية الطابع العربي والإسلامي لمدينة القدسالمحتلة. ووصف الناطق باسم الخارجية الإسرائيلية، في تصريح يشكّل نموذجاً للسخافة تلك المبادرة بأنها محاولة قطرية أخرى «لنشر الجهل والكراهية!» لكن رد الفعل هذا دلّ إلى أن قمة الدوحة أصابت الهدف بمعاودتها طرح الملف الفلسطيني بصيغة جديدة تناقض سعي إسرائيل إلى جعل القضية منسية ومتجاوَزة في ضوء الأوضاع الصعبة والمعقدة التي يمر ّبها العالم العربي. غير أن القمع والاستفزاز، وليس الجهل والكراهية الحقيقيين فحسب، ظهرت غداة هذا الكلام الإسرائيلي، حين منعت قوات الاحتلال الفلسطينيين المسيحيين والمسلمين من دخول المدينة المقدسة لحضور قداس الجمعة العظيمة السابقة لأحد الفصح، أو لأداء صلاة الجمعة. ورغم أن هذا الإجراء المحتقر لأبسط الحريات -ممارسة الشعائر الدينية- الذي بات من تقاليد الاحتلال، إلا أنه بدا هذه المرة وكأنه يردّ على القمة العربية التي أثبت جميع قادتها أن القضية الفلسطينية ستبقى محور تفكيرهم طالما أن حلها العادل لم يتحقق بعد. صحيح أن القمم العربية لا تقلق العدو الإسرائيلي كثيراً أو حتى قليلاً، إلا أنه يطمح إلى قمة لا تُذكر فيها فلسطين، تماماً كما كانت الحملة الانتخابية الأخيرة في إسرائيل، إذ تجاهلت قضية شعب تحت الاحتلال لتركز على الاستيطان وتأكيد توسيعه كأسهل طريقة لسرقة الأرض من دون الاضطرار إلى الحرب. أخذت قمة الدوحة علماً بتحركين مهمين في المرحلة المقبلة. الأول يتمثّل بالوفد الوزاري العربي الذي سيتوجّه إلى واشنطن بشكل رئيسي لمناقشة مسار ما يسمّى «عملية السلام»، انطلاقاً أن الأمر الواقع الذي جعل المفاوضات معطّلة أو عقيمة لم يعد مقبولاً، ثم إنه يفضي إلى وقائع جديدة كارثية. ويهدف هذا التحرك إلى طرح خيار إعادة الملف الفلسطيني إلى مجلس الأمن، بعدما فشلت الولاياتالمتحدة والهيئة الرباعية في إخراجه من الجمود الذي فرضته إسرائيل. وليس مؤكداً أن هذه الخطوة يمكن أن تحدث التغيير المتوخّى، لكن العرب يريدون أن يبنوا على مفاعيل منح فلسطين صفة «الدولة» في الجمعية العامة للأمم المتحدة. وفي كل الأحوال سيجدون إدارة أميركية تعارض توجههم من جهة، وليست لديها خيارات أو مبادرات من جهة أخرى. فبعد زيارة باراك أوباما لإسرائيل، و «مصالحته» مع بنيامين نتنياهو، سيعوّل الآن على جولة ومساعٍ للوزير جون كيري ل «تحريك» المفاوضات. هذا كل ما عند أوباما، أي لا شيء، فهو منشغل بإيران وعلى نحو أقل بسوريا، بل منشغل أكثر بالابتعاد عن الشرق الأوسط نحو منطقة المحيط الهادئ، وكما فعلت الإدارة السابقة كذلك ستضغط إدارته للحؤول دون العودة إلى مجلس الأمن. وبالتالي، ليس لديه ما يعطيه إلى العرب، لكن لديه الصمت يهديه إلى إسرائيل لقاء انتهاكاتها وحتى قتلها ل «حل الدولتين». الواضح منذ آخر محاولة مبتسرة في محادثات كامب ديفيد عام 2000 أن المنهجية الأميركية نفسها في حاجة إلى تعديل جذري، إذ إنها حصلت على ما تبتغيه من الجانب العربي لتسهيل «عملية السلام» ولا تزال ملتزمة النهج الإسرائيلي المطالب بمزيد من التنازلات العربية. ورغم اقتناع أوباما وإدارته بضرورة وقف الاستيطان وبإلزام إسرائيل باحترام مرجعيات التفاوض (القرارات الدولية) التي تقرّ إنهاء الاحتلال داخل حدود 1967 فإنهما يعملان وفق المصلحة، وليس وفق القناعات. في المقابل لم يعد واضحاً ما هي وسائل الضغط العربية، ولا ما إذا كانت لدى الجامعة استراتيجية مدروسة ومحددة يمكن أن تؤدي فعلاً إلى دفع المفاوضات على أساس «مبادرة السلام العربية» بإشراف مجلس الأمن وبمعايير تتفق مع قراراته. لا شك أن هذه الخطوة تعيد خلط الأوراق أما جدواها فتحتاج إلى برهنة من خلال تصميم عربي صلب، وإلا فإن «الفيتو» والسلبية وعدم التعاون من جانب الولاياتالمتحدة كفيلة بتعطيلها. أما التحرك الآخر فيتعلّق بالمصالحة الفلسطينية، ولعل قمة الدوحة أصابت في وضع المصالحة على جدول أعمالها، أولاً باعتبارها واجبة لإعادة اللحمة بين أبناء الشعب، وثانياً لأن الانقسام أضعف القضية الفلسطينية نفسها ولم يستفد منه سوى العدو الإسرائيلي، وثالثاً لأن المصالحة توفّر زخماً مكمّلاً لأي جهد عربي أو فلسطيني. يضاف إلى ذلك أن الانقسام شكّل معطىً سلبياً سعت إسرائيل والولاياتالمتحدة إلى تكريسه واستخدامه في فرض تسوية مجحفة للقضية برمّتها، وقد نجحتا جزئياً حتى الآن، لذلك تعارضان أي مصالحة وتسعيان إلى إحباطها أو إخضاعها لشروطهما. لكن يُفترض أن تكون المصالحة استحقاقاً فلسطينياً-عربياً، بمعزل عما يريده الأميركي والإسرائيلي، وطالما أن هذا الاستحقاق أُشبع درساً ووُقّعت بشأنه اتفاقات وتفاهمات في القاهرة كما في الدوحة فإن التأخر في تنفيذها وتفعيلها بات مثيراً للشكوك. من هنا إن اقتراح أمير قطر عقد قمة مصغّرة في القاهرة للإشراف المباشر على تحقيق المصالحة يمكن أن يكون خطوة حاسمة طال انتظارها فلسطينياً وعربياً. غير أن المهمة لن تكون سهلة، فهذه القمة المصغّرة يجب أن تكون فرصة لمصارحة عميقة لمحاولة حسم الجدل حول خيارات «التفاوض» و «المقاومة» ومتطلباتهما؛ لأن استمرار التناقض هو ما تستثمر فيه إسرائيل وأميركا، فضلاً عن أنه يطرح تساؤلات عما يريده العرب في النهاية، خصوصاً أن القمم العربية دأبت على التزام «السلام» كخيار استراتيجي في مواجهة عدو لا يبادلهم الالتزام نفسه.