رغم مرور أكثر من سنتين على الربيع العربي ورغم التغييرات التي شهدتها الساحة العربية في السنوات الأخيرة إلا أن الملاحظ للشأن الإعلامي العربي يدرك أن العادات البالية ما زالت سائدة في الكثير من المؤسسات الإعلامية وأن الخطاب الإعلامي ما زال وفيا لماضيه؛ الأمر الذي جعل مبدأ السلطة الرابعة أو الإعلام الفاعل في المجتمع منعدما تماما في معظم المجتمعات العربية. ويعتبر الإعلام المنبر الرئيسي للديمقراطية وللسوق الحرة للأفكار وللرأي والرأي الآخر. فهو مؤسسة تسهر على تنوير الرأي العام الذي يعتبر السلطة الحقيقية في المجتمع. والإعلام الفعال الذي يفرز الديمقراطية ويؤثر فيها ويتأثر بها هو ذلك الإعلام الذي يستند إلى مجتمع مدني فعال وإلى قوى مضادة داخل المجتمع تعمل على إفراز ثقافة ديمقراطية وحراك سياسي يقوم على المراقبة وكشف الحقائق والوقوف أمام الفساد والتجاوزات واستغلال النفوذ والسلطة. فإذا تبنى الإعلام ثقافة التبرير والتمجيد والإشادة والمدح والتسبيح فهذا يعني أن الأمة قد دخلت في مرحلة النفاق الجماعي والتضليل الاجتماعي حيث يصبح الخطاب الإعلامي من دون معنى ولا جدوى ولا طعم ولا ذوق لأنه منفصل تماما عن الواقع، حيث التناقض الصارخ بين الحياة اليومية والخطاب الإعلامي. وهذا يعني شلل أو عقم قطاع استراتيجي في المجتمع وهو قطاع الإعلام. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق، لماذا هذا الشلل وهذا العقم في معظم الدول العربية؟ وما هي أسباب عدم فعالية ومصداقية الإعلام العربي؟ لماذا ثقافة التنظير للسلطة وثقافة التملق وثقافة التبرير و "كل شيء على أحسن ما يرام" بدلا من الاستقصاء والنقد والكشف عن الحقائق والمساهمة في إرساء ثقافة الرأي والرأي الآخر والسوق الحرة للأفكار. العلاقة بين الإعلام والمجتمع علاقة جدلية وعلاقة تأثير وتأثر. فالإعلام القوي بحاجة إلى مجتمع مدني قوي وإلى الفصل بين السلطات وإلى قضاء مستقل وحياة ديمقراطية شفافة وواضحة المعالم. من جهة أخرى يجب على المنظومة الإعلامية في المجتمع أن تناضل من أجل كسب المزيد من الحرية والاستقلالية والحرفية والمهنية وبذلك المصداقية واحترام الجميع. الإشكال المطروح هو أن الجميع يلوم وينتقد الإعلام وكأن القطاعات الأخرى في المجتمع العربي بألف خير وعلى أحسن ما يرام. الحقيقة هي العكس تماما حيث إن معظم القطاعات في المجتمع تعاني من مشكلات وتناقضات عدة. فالإعلام ما هو إلا نظام فرعي من النظام الكلي وبذلك فهو جزء لا يتجزأ من هذا النظام. فالدول العربية بحاجة إلى إصلاح النظام وإلى تحرير الفرد في المجتمع وإلى توفير مستلزمات وشروط السوق الحرة للأفكار والمجتمع المدني والمؤسسات المستقلة الديمقراطية التي تؤمن بالحرية وبالشفافية وبالنقد والنقد الذاتي. أسباب عقم الإعلام العربي متعددة ومختلفة فمنها ما يتعلق بالمحيط الذي يعمل فيه، ومنها ما يتعلق بالحرفية والمهنية ومنها ما يتعلق بالمصداقية ومنها كذلك ما يتعلق بالعلاقة مع السلطة والعلاقة مع مصادر الأخبار والمعلن، ومنها ما يتعلق بالعوامل الخارجية كالتبعية للآخر والقيم الدخيلة...الخ. الإعلام العربي مسؤول عن تشكيل الرأي العام وتنشيط السوق الحرة للأفكار وتزويد المجتمع المدني بالأخبار والمعلومات والتقارير والتحليلات وغير ذلك. والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا المقام هو لماذا يوجد الإعلام العربي في الحالة التي هو عليها اليوم؟ هل المؤسسة الإعلامية هي أداة سلطة أم أداة المجتمع بأسره وبمختلف الشرائح الاجتماعية التي تشكله؟ هل عملية التواصل بين السلطة والجماهير عملية عمودية أم أفقية؟هل الممّول هو المحدد الرئيسي لمخرجات وسائل الإعلام؟ هل أدت أو ستؤدي العولمة إلى دمقرطة الإعلام في الوطن العربي؟ هل ستؤدي الثورة التكنولوجية والمعلوماتية إلى التأثير في علاقة السلطة بوسائل الإعلام وفي طرق العمل الإعلامي وآلياته ومنهجيته في الوطن العربي؟ هل تتوفر مستلزمات الصحافة الحرة في الوطن العربي؟ وهل هذه الصحافة قادرة على أن تصبح واحدة من السلطات الفاعلة في المجتمع؟ هل بإمكاننا الكلام عن سلطة الإعلام أم الإعلام عندنا في الوطن العربي هو إعلام السلطة؟الملاحظ والمطّلع على مخرجات الإعلام العربي يدرك المشاكل والتناقضات الكبيرة والمتعددة التي يعاني منها هذا الإعلام، فالمؤسسة الإعلامية العربية ما زالت في الكثير من الدول العربية لم ترق إلى المؤسسة الإعلامية بالمعنى الكامل للكلمة سواء من حيث الإدارة أو التسيير أو التنظيم أو الهيكلة أو الوسائل أو الكادر البشري أو المهنية أو الحرفية. ففي الكثير من الحالات نلاحظ المساومات والتجاوزات والمتاجرة بالمهنة على حساب مبادئ المهنة وشرفها وأخلاقها، وغالبا ما تُستعمل المؤسسة الإعلامية لأغراض ومصالح ضيقة جدا تكون في صالح فئة معينة أو حزب معين أو تيار معين على حساب الغالبية العظمى من أفراد المجتمع. في هذه الظروف تنعدم الاستراتيجية وتكون السياسة الإعلامية غير واضحة المعالم، هلامية تركز على التعبئة السياسية والتنظير للسلطة والمدح والتسبيح وكذلك الترفيه والتسطيح وإفراغ القضايا من محتواها الحقيقي. تعاني الصحافة العربية من جملة من المعوقات والمشاكل المهنية والتنظيمية والنقابية جعلتها تفشل في تحقيق الكثير من مهامها الاستراتيجية في المجتمع. وبما أن الصحافة العربية في أي مجتمع عربي لا تستطيع أن تكون فوق النظام والأطر التي يسير وفقها المجتمع ككل بحيثياته وعناصره ونظمه فإنها باعتبارها جزءا فرعيا من النظام الذي تعمل فيه وتتعاطى معه تتأثر بالمناخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي السائد. فالسلطة في العالم العربي ما زالت تنظر للصحافة كأداة لتثبيت شرعيتها ووسيلة لتعبئة الجماهير وتجنيدها. وحتى دور الصحفي في المجتمع يُنظر له على أنه مكمل لدور السلطة وأجهزتها المختلفة فهو مطالب بالتغطية والمدح والتسبيح لكنه إذا استقصى وبحث وانتقد فيصبح من المغضوب عليهم. فمعظم قوانين النشر والمطبوعات في العالم العربي جاءت مجحفة ومقصرة في حق المؤسسة الإعلامية وفي حق الصحفي الأمر الذي أفرز عند هذا الأخير ثقافة الرقابة والرقابة الذاتية ومن ثمة قتل ثقافة صحافة الاستقصاء والبحث عن الحقيقة وقتل روح المسؤولية والالتزام والنزاهة والموضوعية عند الصحفي. التحدي الأكبر الذي يواجه الدول العربية في مجال الإعلام هو تحريره وتحرير الطاقات والمهارات والإبداعات. التحدي يتمثل في الاستثمار الأمثل في القدرات والطاقات والإمكانات المادية والبشرية لإرساء قواعد ومستلزمات صناعة إعلامية متطورة رشيدة وفعالة وقوية تستطيع أن تشكل الرأي العام والسوق الحرة للأفكار والمجتمع المدني الذي يؤسس للديمقراطية والشفافية والحوار الصريح والبناء من أجل مصلحة الجميع. كل هذه الأمور تتطلب الدراسة والبحث وإقامة علاقة متينة وتفاعل وتبادل وحوار صريح بين السلطة والمؤسسة الإعلامية والقائم بالاتصال ومصادر الأخبار والجمهور من أجل إرساء قواعد الثقة والمصداقية والفعالية في الأداء وبهذا تتوفر المستلزمات والشروط لوضع استراتيجية إعلامية وسياسات إعلامية تنهض بالعباد والبلاد إلى مصاف الدول المتقدمة والفاعلة في العالم. وفي الأخير يجب طرح السؤال التالي: ماذا نريد من الإعلام في الوطن العربي؟ المحافظة على الوضع الراهن وبذلك التبرير والتنظير أم تغيير الوضع وبذلك الاستقصاء والنقد والكشف عن الأخطاء والتجاوزات. سؤال يجب الإجابة عليه بصراحة وشجاعة إذا أردنا للإعلام العربي مكانة ودور في الديمقراطية والتنمية المستدامة، وإذا أردنا أن يكون هذا الإعلام فاعلا وعنصرا للتغيير والتطوير والتنمية المستدامة.