ما إن تضع قدميك على أرض مطار سنغافورة؛ حتى تصلك قناعة وانطباع فوري بأن ثمة تجانساً في التعامل والعواطف والسلوك وعشق الوطن بين السنغافوريين بمختلف أعراقهم وأجناسهم.، ويغمرك إحساس بأنك تنتقل إلى مجتمع مختلف. ومن أبرز الممارسات التي أعجبتني، وتعزز روح المواطنة الحقة بين المواطنين السنغافوريين،وكذلك تسهم في ترسيخ مبادئ العدالة الاجتماعية، هي السياسة الإسكانية والسكانية في تلك الجزيرة الرائعة. ففي عام 1960م، أنشأت حكومة سنغافورة هيئة الإسكان والتنمية، لتوفير مساكن شعبية منخفضة التكلفة للسكان المقيمين في مساكن وضع اليد الفقيرة بوسط المدينة. وقد أقيمت هذه المساكن الجديدة في مدن سكنية تميزت بمبانيها المرتفعة وصممت وفق مفهوم المجاورات أي مثل المدن الجديدة التي أقيمت في بعض الدول الأوروبية في الخمسينيات من القرن العشرين. ويقيم في كل مجاورة سكنية من 1000 – 5000 عائلة. وتضم كل مدينة سكنية المدارس والأسواق والمتاجر وملاعب الأطفال. وتستغرق الرحلة بين هذه المدن السكنية ومناطق العمل الرئيسة في وسط المدينة حوالي 30 دقيقة. استمرت سنغافورة في بناء مساكن شعبية بتكلفة تقل عن سعر السوق للمساكن الخاصة. وتتميز المدن الجديدة التي أنشئت بعد ذلك بإمكانات أفضل، فقد بنيت الشقق على مستوى أرقى، ومواد بناء أفضل. وكان من ضمن السياسات المعتمدة في المشاريع الإسكانية الشعبية في سنغافورة هي نظام التوزيع النسبي بين الأعراق المتعددة المكونة للشعب السنغافوري. فعند زيارتك لواحدة من هذه العمارات السكنية الشاهقة، ستجد في كل دور من الأدوار المتعددة في تلك العمارة السكنية، ساكن من العرقية الصينية، أو الهندية، أو المالاوية، أو العربية، أو نحو ذلك. وبذلك يتم التعامل بين السكان بعضهم بعضا وفق القوانين الصارمة التي تفرضها الدولة لتعزيز المواطنة الحقة بين الأعراق المختلفة. لا أزعم أنني رأيت في الشوارع الرئيسة في العاصمة السنغافورية الأعراق المختلفة يشكلون علاقات خاصة بينهم، ولكن الذي أستطيع أن أؤكده أن القوانين الوطنية صارمة في تعزيز روح المواطنة وليست فيها مجاملة لعرق أو دين أو مذهب على حساب المكون الآخر في الجزيرة الرائعة. ومعلوم أن سنغافورة لم تنل استقلالها إلا قبل أربعين سنة فقط وبالتحديد عام 1965م، وقد أسهم في بناء الدولة الحديثة أبناء الشعب السنغافوري بكامله الذي ينحدر من أصول متعددة حيث يتكون من ثلاثة أعراق رئيسة الصينيون والملاويون ثم الفئة الثالثة الهنود، ويأتي العرب القادمون من حضرموت بصفة خاصة في درجة متأخرة في الترتيب. وقد أسهم هذا التنوع الإثني في تكوين ثقافة الشعب السنغافوري ليكون فريدا في المنطقة، فالتعليم بكامله من المرحلة التمهيدية وحتى الجامعية باللغة الإنجليزية، واللغة الرسمية للدولة هي اللغة الإنجليزية، ولكن ذلك لم يمنع أن يكون لكل عرق لغته الخاصة به، فالصينيون يدرسون اللغة الصينية كلغة رسمية ثانية، والملاويون يدرسون اللغة المالاوية كلغة ثانية، والهنود يدرسون أيضاً لغتهم كلغة ثانية، وهكذا يبقى التواصل بين الجميع هو اللغة الإنجليزية المعتمدة من الجميع، وتبقى اللغة الثانية خيارا لكل فئة من فئات الشعب حتى اللغة العربية وإن لم تكن معتمدة رسمياً في وزارة التربية والتعليم السنغافورية إلا أنه بدأت تنتشر مدارس لتعليم اللغة العربية. وتعد سنغافورة من الدول الغنية في دول آسيا حيث يرتفع معدل دخل الفرد فيها إلى درجة كبيرة، كما أن هذه الجزيرة الصغيرة التي لم يتجاوز عدد سكانها في عام 1819م 15000 شخص معظمهم من الصينيين حيث يشكلون ما نسبته 78٪، والماليزيون 14٪، والهنود ما يقارب 6٪، كان هؤلاء المهاجرون قد اجتذبتهم المبادلات التجارية في هذه الجزيرة التي كانت خاضعة للإمبراطورية البريطانية في ذلك الوقت. وفي الوقت الحاضر قفز سكان جزيرة سنغافورة إلى 3.7 مليون نسمة بمعدل كثافة سكانية في حدود 5500 ساكن في الكيلومتر المربع يتوزعون بصورة أساسية في القسم الجنوبي للجزيرة، وينعمون بمتوسط عمر يصل إلى الثمانين وهو الأعلى في القارة الآسيوية.