هناك أحداث لا تموت بمجرد أن تُطوى صفحاتها، بل تُولد من جديد حين يُسفك الدم ظلمًا، وتُستعاد حين يُخذل المقاوم الحر ولا يجد نصيرًا، كما حصل مع الحسين، في كل جرح مفتوح، وفي كل وقفة حق، هناك كربلاء جديدة، وما غزة اليوم إلا عتبة لذلك الصدى؛ البقعة التي تتردّد فيها الذاكرة صوت الحسين وصدى الحناجر التي أبت الانحناء أمام سيوف الباطل، لم تكن كربلاء نهاية رجل مؤمن شجاع، بل كانت بداية مأساة دائمة في ضمير الأمة، مأساة يتردّد صداها اليوم من فرات العراق إلى شجاعة غزة، لتذكّر الجميع أن الجراح لم تندمل بعد، وأن الظلم لم ينتهِ بل يتضاعف، خرج الحسين عليه السلام من المدينة لا طالبًا سلطة، ولا راغبًا في حرب، بل حاملًا نداء الإصلاح في أمة جدّه حين فسد الحكم وساد الظلم، فكتب إليه أهل الكوفة يطلبون نصرته، ثم تراجعوا وتركوه يواجه وحده جبروت الطغيان فلم يكن وحده من قُتل في كربلاء، بل سقطت معه ضمائر كانت تُقسم بالحق؛ قُتل الصدق، والشهامة حين اختار الناس الأمان على المواجهة، وقُتل الوعي حين بات البعض يلوم الحسين بدلًا من يزيد، الضحية لا الجلاد، وكأن الخروج ضد الظلم أصبح الجريمة، لا الظلم نفسه. في غزة اليوم، المعركة ذاتها بالدم ذاته، غزة صوت الأمة حين ترفض الانكسار، حين تقاوم الانبطاح فتُكافأ بالصواريخ والحصار، تُحاصر غزة كما حوصر الحسين، وتُخذل كما خُذل، وتُلام على صمودها كما لاموا الحسين على خروجه، المقاومة في غزة كما في لبنانواليمنوالعراق، ما زالت تمضي على ذات النهج الذي انتهجه الحسين إنها لا تنتظر وعود النصر، بل تصنعه بدمها، وتصرخ كما صرخ الحسين: "هيهات منا الذلة"، ولو أن العالم وقف مع الحسين في كربلاء ولم يصمت، لما ازداد الجزارون، ولما تكاثرت المذابح، ولما أصبح القاتل يُكافأ، وتُحاسب الضحية على دمها. شعب اليمن، الذين ناصروا النبي محمد في زمانه بلا رياء، هم اليوم يقفون مع غزة ضد الظلم بالفعل والسلاح والموقف، من اليمن المحاصر إلى لبنان المقاوم والعراق الصامد، تتشكّل جبهة الصدق في زمن كثرت فيه الأقنعة هؤلاء لم ينتظروا إشارة أو إذن، بل انطلقوا ليساندوا إخوانهم وليواجهوا الظالم لأنهم فهموا درس كربلاء وعاشوه كواقع، فلم يكرّروا خيانة الكوفة، أما المنافقون، فكما كانوا بالأمس هم اليوم كما هم؛ في زمن الحسين ارتدوا عباءة الدين وسكتوا عن الجريمة، واليوم يبررون الصمت بالحكمة ليغسلوا أيديهم من الدم، يدينون المقاومة بدلًا من أن يدينوا المحتل، ويبرّرون القصف ويرمون على الضحية تهمة الاستفزاز، وكأن الدفاع عن الحق صار تهورًا، إنهم ليسوا سوى شهود خذلان، لا شهود عدل، غزة مرآة كربلاء، ومن ينظر جيدًا يراها بكل تفاصيلها، بالخذلان ذاته، بالعطش ذاته، وبالسكين ذاتها، فهل مات الحسين؟ أم أنه ما يزال يبعث صوته في كل شهيد وفي كل طفل وفي كل جسد يصرخ للكرامة، في كل مقاوم خلف متراس، في كل أم تودّع ابنها وتقول: اذهب، فداك نحن. هو امتداد للحسين، لغضبه، لفكرته، لصوته العابر للعصور. كربلاء لم تمت، بل امتدّت، وغزة اليوم هي صدى لصوت قديم يقول: إن السكوت على الظالم خيانة بل وجريمة سوف نحاسب عليها، وإن الوقوف وحدك أشرف من الركوع مع الجماعة الصامتة وإن أردنا ألا تتكرر كربلاء، فعلينا ألا نكون ممّن خذلوا الحسين، ولا ممّن صمتوا أمام دم غزة، ولا ممّن تذرّعوا بالعقلانية ليتخلّوا عن ضمائرهم، وهكذا، فإن ذكر كربلاء ليس ترفًا تاريخيًا، بل مرآة لحاضرنا، واختبار لضميرنا وإن كان في التاريخ شاهد دم، فإن في غزة شاهدًا يصرخ إلى الآن: لا تجعلوا دماءنا ماءً، ولا تكرروا خذلانكم مرة أخرى.