لعلّها الهدية الأثمن والأجمل التي تقدّمها مؤسسة الدراسات الفلسطينية بمناسبة احتفالاتها "فلسطين قبل 1948 ليست مجرد ذاكرة" . ولعلّها أيضاً أكثر ما نحتاجه اليوم ليس لإشعال فتيل الحنين إلى فلسطين الوطن المسوّر بنزيف القهر والغياب، إنما لإعادة التموضع من جديد في إضاءة موّثقة بالصور النابضة بدفء فلسطين، وتلاوين الحياة والحب في شرايينها . المعرض المفاجأة الذي افتتح في مركز رفعت النمر الاجتماعي في بيروت مستقطباً المئات من النخب الثقافية والشرائح السياسية والاجتماعية، شهد تلاوين فلسطين بأجيالها وأطيافها وعشّاقها في احتفالية حب شكلت شهادة رائعة على أن فلسطين هي القلب والوجدان وليست الذاكرة فقط . سقطت أوراق الغربة . التمع الدمع في العيون وتلاحقت الصور التي تروي تاريخاً متكاملاً وموّثقاً، نجحت كاميرا خليل رعد أول مصور عربي في فلسطين بالتقاطه من خلال إرث فوتوغرافي يزيد على ثلاثة آلاف صورة، إضافة إلى ألف نيجاتيف على ألواح زجاجية وألفين من الصور على أشرطة جيلاتين، وعدد من الصور الثلاثية الأبعاد، تظهر مختلف جوانب الحياة الفلسطينية من أواخر الحقبة العثمانية مروراً بمراحل الانتداب . ولعلّ حياة خليل رعد التي امتدت من عام 1854 إلى 1957 تختزل الكثير من مشهدية الحياة في فلسطين . خليل المولود في بحمدون في لبنان درس فن تقنيات التصوير الجديد في سويسرا، وافتتح استوديو في شارع يافا في القدس، يشكل نموذجاً لهذا المزيج الحضاري المتنوع الذي امتازت به فلسطين . أكثر من دلالة حملتها الصورة التي تستوقفك وتحرك كوامن الشوق في داخلك، وتستفز ذاكرتك وتلهب حواسك في آن معاً . أمامها تحار من أين تبدأ الكلام، من وجوه فلسطينية لوّحتها شمس قطاف الزيتون، أو من مراكب البحارة في حضن حيفا ويافا وعكا، أو من باقات الورود تزين شعور العرائس في لقطات حفلات الأعراس التقليدية، وشحنات إنسانية تتدفق بالأمل والترقب والانتظار . أم في تلك التي تستحضر التاريخ باستحضار رموزه وتؤشر على الأحداث فيه كما في بورتريه جمال باشا 1923 وعز الدين القسّام وغيرها الكثير . هنا وعلى امتداد النظر تتألق حضارة متكاملة بكل إرثها الثقافي والاجتماعي والإنساني وخصوصيتها وتميّزها، بل وقراءتها أيضاً . وفي إطار فلسطيني عريق يستدرجك للغوص عميقاً في عالمه الذي تجد فيه بعضاً منك والكثير الكثير مما حكى عنه الأجداد والجدّات . وفي اللحظة التي تسقط دمعة الحنين من عينك، تولد في داخلك فلسطين من جديد . ولعلّها الرسالة التي عملت على تكريمها مؤسسة الدراسات الفلسطينية منذ تأسيسها في عام 1963 التي عمّدتها اليوم بهذا الحضور الزاهي والمتألق لفلسطين وطناً وشعباً وتاريخاً وجذوراً . فيرا تماري القيّمة على المعرض تختصر ومن خلال دراسة تفصيلية الكثير من الأبعاد الفنية والسياسية لهذا التراث العريق . تؤكد الهدف منه بالقول "تقليب الصور القديمة فعل حميمي وتأملي يحفّز المخيلتين الشخصية والجماعية للناظر مهما تكن خلفيته أو تجربته" . وتضيف: "هذا المعرض يدعو الجمهور إلى التفاعل مع هذه الصور وطرح التساؤلات في شأنها والاستمتاع بها، ربما مع شيء من الحنين أحياناً . لكنه يحاول أن يعيد إحياء جوانب رواية فلسطينية تعرّضت للتفسير المغلوط وللتحريف" .