من مفارقات السياسة العربية أن إيديولوجيين كثر من كافة التيارات (إسلامية، ويسارية، وقومية)، وفي معظمهم من مؤيدي حركات الربيع العربي، يحاجون، وبنفس يدلل على نظرية المؤامرة، على أن المنطقة على شفا اتفاقية سايكس بيكو جديدة، في إشارة إلى التفاهم السري عام 1916 بين وزيري خارجية بريطانيا (مارك سايكس) وفرنسا (فرانسوا بيكون) على تقسيم تركة الدولة العثمانية في منطقة بلاد الشام، والهلال الخصيب. وهو التفاهم الذي رسم خريطة العالم العربي تقريباً في مطلع القرن العشرين. المفارقة تكمن في أن الإيديولوجيين، ما زالوا، منجذبين إلى وجود مؤامرة خارجية في تسيير الأحداث العربية، وفي درجة أقل أن «الخارج» سيسعى لاستغلال التحولات العربية، وهذا الشق الأخير صحيح بحكم أن المصالح هي المحدد الأساسي لسلوك الدول في العالم. ولكن مثل هذا الطرح، يقدم إشكاليتين أساسيتين: الأولى تكمن في إبقاء المشكلات الأساسية في الدول العربية، وكأنها غير موجودة، والثانية أنها تقدم الحركة في الدولة العربية محركة عاجزة ترتبط بردات الفعل على التدخل الأجنبي. ويرتبط الطرح بوجود سايكس-بيكو جديد في العالم العربي بسبب حالة الفوران الأثني، والطائفي، والحدودي الذي تعيشه المنطقة، كسيناريوهات «تقسيم سوريا إلى دول طوائف سنية، علوية...»، و «الهلال الشيعي»، ومؤخراً أشارت تقارير على أن الدروز العرب في الجولان «جاهزون لدخول الحدود السورية لمواجهة الإسلاميين المسلحين»، وتقارير عدة تشير إلى العديد من خطوط التماس الأثني، والمذهبي، والطائفي، تتشكل في الدول العربية بشكل يدعم فكرة أن سايكس-بيكو جديدة تتشكل. لا خلاف أبداً على أن اللاعبين الخارجيين، أياً كانوا، سيسعون لاستغلال التحولات في الدول العربية، ولا خلاف على أن الحدود العربية مصطنعة -نظرة سريعة على توزيع القبائل العابر للحدود في العديد من الدول العربية تدلل على ذلك- ولكن الخطير هو إلقاء اللوم على الخارج باعتباره العالم الرئيسي في المعادلة. كل التعبيرات الأثنية والدينية في الدولة العربية المعاصرة بشكلها الصدامي المتوتر الذي نشهده حالياً، تعبر عن فشل الدولة العربية المعاصرة، التي آثرت تأجيل أزماتها البنيوية، حتى انفجرت في أسوء صورتها، مع اهتزاز بنية الأنظمة في الربيع العربي. هذه الأنظمة تعاملت مع أزمتها البنيوية وفشلها في تشكيل دولة المواطنة بمنطق مثل إنجليزي يقول sweeping dust under the carpet أي كنس الغبار تحت السجادة دون التنظيف الحقيقي، وبالتالي تم تأجيل الأزمات حتى تراكم «الغبار» وانكشف. وفي هذا السياق أيضاً لم يتم التعامل مع «الحدود المصطنعة» بتأسيس نموذج حقيقي من «الدولة القطرية» التي تقدم إطاراً للمواطن بصفته فرداً مدنياً له حقوق أصيلة يجب أن تحترم، وبالتالي لا يرتبط ب «نظام»، أو «قبيلة»، أو «طائفة»، بل فرد مواطن في «دولة». وأما الإشكالية الأخرى في محاولة تفسير الأحداث بنظرية المؤامرة، ترتبط بتحولات بنيوية أيضاً في الدول العربية، كمعدل أعمار الشبان الذين تكاد تكون الفجوة هائلة بينهم وبين النخب الحاكمة في العالم العربي، وغياب الحريات، وارتفاع معدلات الفساد، والبطالة، والفقر... إلخ. كل هذه العوامل داخلية، وقبل إلقاء اللوم على الخارج، يتوجب علاجها. خلاصة الأمر أن الدول والمجتمعات العربية مرت في أطوار مختلفة من التحول، وعبر أزمات مختلفة، وما نشهده اليوم، سواء أكان تحولا إيجابيا نحو خلق دول ومجتمعات متوازنة، أو تحول سلبي بازدياد العنف، والتوترات الأولية المختلفة، فإنما يعبر عن ضرورة فهم هذه الدول والمجتمعات كبنى قائمة بذاتها، دون البحث عن «سايكس-بيكو جديد» يستخدم شماعة لإعادة إنتاج ذات الشروط التي تفسر الحال في العالم العربي اليوم.