يغزو مفهوم تداخل الأجناس الأدبية والفنية الساحة الثقافية الآن، يرسخ لنفسه رويداً رويداً ولن يمر وقت طويل حتى يصبح مقولة نقدية رنانة نحكم من خلالها على جودة العمل الأدبي أو الفني . فالمحلل للرواية لا بد أن يشير إلى لغتها الشاعرية ومشاهدها التشكيلية وقدرتها على الاستفادة من تقنية المونتاج السينمائي وناقد الشعر يقرأ لنا قدرة الأبيات على السرد وتحولت المناظر المسرحية إلى لوحات تشكيلية . . الخ . وعلى هامش هذا الغزو اخترعت أجناس جديدة مثل قصيدة المحمول والقصيدة القصيرة جداً والنصوص التفاعلية المفتوحة، حيث يختلط النثر الفني بالخاطرة بالتغريدة، بل هناك من بات يحدد عدد حروف القصة القصيرة جداً، ق .ق .ج، ب 140 حرفاً، ومن شطح به الخيال للحديث عن الأدب الفيسبوكي، ولم يعد الخلط في الأدوات والمناهج التي تقرأ من خلالها الأجناس الأدبية "القديمة" بل الجديدة أيضاً، حتى تطور الخلط نفسه إلى "خلطبيطة"، وذلك عندما يتوافر لأي مستخدم لوسائل التكنولوجيا الحديثة القدرة على الكتابة، كتابة أي كلام، ثم يأتي من يفصل جنساً أدبياً على مقاس هذا الكلام . لا يمكن تبرير هذا التوجه بالبحث عن جذور له في الماضي أو بالتأكيد على وجوده في الثقافة الغربية، المركز والأصل، أو حتى الإحالة إلى نوع شعري في هذه الثقافة أو قصصي حكائي في تلك . الملاحظ أيضاً في هذا المشهد إصرار البعض على الالتحاق بقافلة الأدب، وكأن الجميع استيقظوا على محبة الأدب والشغف به، فلماذا يسعى البعض إلى إلحاق التغريدة بالأدب؟ وأين هي القصة العربية القصيرة جداً، اللافتة والمؤثرة والتي تتوافر نماذجها في آداب أخرى؟ وماذا نعني بالنص المفتوح؟ هل هو مفتوح على قراءات وتأويلات جمالية كنصوص النفري وفريد الدين العطار وابن عربي . . الخ، أم هو مفتوح على الحذف والإضافة والتعديل؟ وهل هناك تشاركية في الإبداع؟ وما هو الهدف منها؟ هنا لا تنمحي شخصية الأجناس الأدبية وحسب، بل فكرة الفردية نفسها، الفردية المؤسسة على التجربة الذاتية وشديدة الخصوصية للمبدع والذي يظل طوال حياته وبناءً على مكوناته الثقافية يطور فيها . لكل جنس أدبي خصائصه وقواعده، وأيضاً قدرته على الاستفادة من الأجناس الأخرى بشرط توافر ثقافة عالية للمبدع، فالرواية على سبيل المثال بناء متكامل تتكون طوابقه من أفكار الكاتب التي يريد إيصالها إلى المتلقي من خلال شخصيات وأحداث تتفاعل مع المجتمع المحيط، والمشهدية واللغة الأدبية مسائل من المفترض ألا يناقشها الناقد عند تقييمه للرواية، الآن تقرأ الرواية وتحلل ويحتفى بها بمقدار ما تعتمد على البساطة والمشهدية السينمائية واللغة الجيدة حتى لو لم يتوافر لها ما أطلق عليه النقد في السابق العالم الروائي، وللمفارقة يحدث هذا في زمن لا تلتفت فيه السينما كثيراً إلى الرواية . لقد أسست وسائل الاتصال الحديثة لحالة سردية، فالكل يريد أن يحكي لأسباب عدة، منها السياسي والاجتماعي، ومنها ما يتعلق بمجرد الرغبة في تزجية أوقات الفراغ، وبجانب الحكي هناك أيضاً حالة بصرية مفتونة بالصورة، فالكل يريد أن يشاهد ويتفرج، وتطور الوضع إلى رغبة الكل أيضاً في الإبداع والإدلاء بالرأي مهما كان مسطحاً ومفتقداً للمعلومات ويغيب عنه أبجديات الحوار . حالة من التشظي انتقلت إلى الأدب والفن ثم إلى النقد، ويبدو أنها لا تغربل نفسها وتنتقي الجيد وتستبعد الرديء كما يدعي البعض، بل إن الرديء نفسه وبعد أن هيمن على العالم الافتراضي يقتحم ميدان الثقافة الرسمية المعتمدة والمدونة ورقياً وحيث نعثر يومياً على إصدارات ضعيفة القيمة والمحتوى، وفرضت "خلطبيطة" ثقافة العالم الافتراضي مقولاتها على النقد . ونحن الآن في حاجة إلى نقد جمالي بالدرجة الأولى، فليس كل جديد جميلاً، وصريحاً يسمي الأشياء بمسمياتها الحقيقية، فكيف يمكن لمعاناة الشاعر وتجربته في الماضي، أن يختزلا في "قصيدة" محمول؟ ولماذا تميزت الروايات الخالدة في التاريخ بالصعوبة؟ وإلى أي مدى يمكن إلحاق التغريدة بالنثر الفني فضلاً عن الأدب؟ نقد يمتلك الوعي ليدرك أن التداخل الحادث بين الأجناس الأدبية والفنية وليد اللحظة ونتاج التأثر ب"الميديا" الحديثة، ولا علاقة له بحالات مشابهة في التراث، حيث المثقف الموسوعي والمبدع المتمكن من أدواته، ولا علاقة له كذلك بتجارب ثقافية أخرى لها ظروفها الخاصة .