يوميات من حرب إسرائيل على غزة.. الأطفال رقدوا عنوة إما على أسرة المشافي أو تحت تراب القبورغزة 'القدس العربي' كانت مشاهد الموت في قطاع غزة في ذلك اليوم تتناثر في كل مكان، وكان حجم الخسائر في المدنيين خاصة كبير جداً، فقد شهد يوم الأحد اليوم الخامس للهجوم على غزة سقوط اثني عشر شهيدا من عائلة واحدة تقطن حي النصر بمدينة غزة تحت ركام منزلهم المدمر، بينهم خمسة أطفال، علاوة عن ثلاثة آخرين بينهم رضيعان في غارات مماثلة، وكانت في ذلك اليوم ترقد ولاء الجمل على سرير المشفى للعلاج هي وأشقاؤها، من جروح سببتها غارة إسرائيلية قضت على أحلامها باللعب ثانية بدماها في باحة منزلها الذي بات أثر بعد عين. في حي التفاح أحد الأحياء الشرقية لمدينة غزة قلب القطاع، حولت أربعة صواريخ أطلقتها قاذفات إسرائيلية نفاثة صوب مركز شرطي صغير، المنطقة المحيطة به إلى أرض أصابها زلزال قوي. ففي تلك المنطقة الشعبية المكتظة بالمباني والسكان، فتحت صواريخ الراجمات حفرا عميقة في الأرض تصل لخمسة مترات، فأتت بالكامل على المركز الشرطي، وبعض المنازل المجاورة، وقلبت أسفل الأرض بأعلاها. كانت الأوراق الخاصة بعمل الشرطة، تناثرت لتغطي أشجار منتزه مجاور هدمت الغارة جزءاً منه، كانت أيضاً أعمدة الحديد الضخمة لمخزن كبير ملاصق لمكان القصف من جهة الشمال تهاوت فسقط السقف أرضاً، مجهزاً على ما فيه من بضائع. في المكان جلس عارف الجمل رجل في العقد الرابع من العمر كان يجلس أمام بوابة حديدية يصعب فتحها على حجر كبير تطاير من ركام منزله المدمر، بعد طلبنا منه رؤية المكان عن قرب شرع بمحاولات يساعده فيها أحد الجيران، سويا شيئاً من كومة رمال كانت خلف البوابة، دخلنا بصعوبة وعرفنا أن تلك البوابة كانت هي الشيء السليم الذي تبقى من المنزل. في الداخل كان شيئا مختلفا، فكانت الصدمة على وجه الرجل حاضرة، حين بدأ بالحديث عما أصابه، قال عارف 'شوف شوف (أنظر) مخلوش إشي (لم يبقوا شيئاً)' وكان يقصد الجيش الإسرائيلي، مضيفاً 'حرام كيف سأسكن في البيت، كل إشي تدمر'. وينفي مالك البيت ما يزعمه الجيش الإسرائيلي بأنه يستهدف في غاراته النشطاء، ويقول 'في بيتي من وين بدنا نطلق صواريخ، ومين إلى بدوا يطلقها، أنا ولا أولادي'، ويشير إلى أن لحظة الغارة كانت أسرته في سبات عميق. وبالعادة ما يبرر الناطق باسم الجيش الإسرائيلي غاراته ضد المدنيين، بأنه يستهدف مخازن للسلاح، ومنصات لإطلاق الصواريخ. عارف ظل وحيداً يحرس ما تبقى من منزله، ففي الساحة الخارجية الصغيرة ، كانت هناك أوان للمطبخ جلبت لهذا المكان قسراً هنا من الانفجار، كانت أيضاً هناك دمى لأطفاله، سألناه عن أصحابها، قال بحرقة 'في المستشفى'. وعلمنا بأن اثنين من أبنائه وثلاثة أطفال لشقيقه إضافة لزوجته نقلوا بعد إصابتهم لمشفى الشفاء لتلقي العلاج، هو رافقهم واطمأن على وضعهم وعاد مع بزوغ الشمس لأنقاض بيته. فطفلة شقيقه أسيل التي فاقت على صوت قصف الراجمات النفاذة لتنقل بعربات الإسعاف على عجل للمشفى، قضت أول أيام رحلتها في العلاج، دون أن تعي بعد بحجم الكارثة التي ألمت بمنزلها ودماها، وفي باحة المنزل التي لعبت به كثيرا مع شقيقتها التي رقدت هي الأخر بجانبها على سرير العلاج، بعد يومين خرجت الطفلتان من المشفى، ولازمتا مع أسرة مسكن جديد عن أحد الأقارب، يبتعد عن ذلك القديم المدمر، على أمل الرجوع إليه، بعدما تضع الحرب أوزارها، وتركتا في المشفى شقيقهما يدعى أنس يعالج من جروح في الرأس. وهنا في قطاع غزة قضت الغارات التي شرعت إسرائيل بشنها منذ الأربعاء الماضي ضمن حملة 'عامود السحاب' على أحلام الكثير من الأطفال، فإن كانت أسيل فقدت دميتها، فهناك الطفل تامر إسعيفان وشقيقته الرضيعة جمانة فقدا الحياة بالكامل، ورقدت أجسادهم الصغيرة مدرجة بدماء البريئة تحت رمال القبور، كما الطفل إبراهيم الدلو وعمره عاما واحد فقط، إذ بات يرقد وأربعة من أقاربه الصغار تحت التراب أيضاً بعضهم بقرت بطنه وذبحت رقبته من حدة شظايا الصواريخ التي سوت منزلهم الأرض، وجعلته أثر بعد عين. فالإحصائيات التي توردها خدمة الإسعاف تقول أن الهجمات الإسرائيلية أدت حتى ظهر الاثنين لاستشهاد 91 فلسطينيا، منهم أكثر من عشرين طفلاً، وثمان سيدات، وتسعة من المسنين، وبلغ عدد الجرحى أكثر من 700، بعضهم مصاب بجراح أفقدتهم أجزاء من أجسدهم. وهناك في حي التفاح المكتظ بالسكان لم تنته القصة، فعند وصولنا للمكان كانت فرق من المسعفين وأفراد الدفاع المدني تعمل جاهدة لإخراج سيدة من تحت ركام منزلها القريب، استدعوا بلدوزرا كبيرا للمساعدة لرفع أطنان من الحجارة والرمال، انتزعتها الصواريخ الإسرائيلية من أماكنها عنوة، ووضعتها دون معرفة الكيفية فوق المنازل المدمرة. كان الفضول يجبرنا على البقاء لمعرفة مصير السيدة، ففرق الإنقاذ استعانت بمعدات إضافية لتكسير جدار أسمنتي للولوج منه لأجزاء من غرفة كانت هي آخر أثار المنزل المدمر، لكن تركنا المكان مجبرين فهناك كانت وقفة تضامنية مع زملائنا الصحافيين الذين تعرضت مكاتبهم لقصف ليلي أوقع بينهم إصابات، وعلمنا بعدها أن السيدة وتدعى نوال عبد العال في أوائل العقد الخامس والتي ظلت تكافح الموت، قضت وأخرجت من تحت الأنقاض جثة هامدة.