طغت أنباء الحرب "الإسرائيلية" الشرسة على قطاع غزة، وتفاعلات هذا الحدث على التناقضات والصراعات الداخلية المتعددة التي كان آخرها الإشكال في حي ملاصق لصيدا يدعى تعمير عين الحلوة الأسبوع الماضي، أدى إلى مقتل اثنين من أتباع الشيخ أحمد الأسير على يد عناصر من "حزب الله"، ما وضع المدينة وجوارها والوضع في البلاد عموماً أمام احتمالات فتنة نجحت جهود الدولة والقيادات المعنية في وأدها، من دون أن تلغي تفاعلاتها المستقبلية وتداعياتها المقبلة . الحرب "الإسرائيلية" على غزة لم تخطف فقط الأضواء الإعلامية وانتباه الناس انطلاقاً من موجة التعاطف والتفاعل مع الشعب الفلسطيني المحاصر الذي يتعرض ل"حفلة" قتل "إسرائيلية" كاملة المواصفات، بل أيضاً من زاوية أخرى هي الخشية من أن تكون لهذه الحرب، خصوصاً إذا طالت وامتدت زمانياً وجغرافياً وغامر رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو وشن حربه البرية التي يهدد ويتوعد بها على المدينة وقطاعها، تداعيات على الساحة اللبنانية . ولم يعد خافياً أنه بعد ساعات من انطلاق الحرب الصهيونية العدوانية على غزة انفتح باب التساؤل والجدال في بيروت عن إمكان أن يكون هناك رد من جهة الحدود اللبنانية على الكيان الصهيوني على نحو يكرر تجربة حرب تموز/يوليو 2006 . وكانت الإجابات أن هناك شبه اطمئنان إلى أن الأمر لن يتخطى حدود التعاطف الإعلامي والشعبي، وأن الظروف على الأرض في الجنوب لا سيما بعد صدور القرار الأممي الرقم 1701 لم يعد يسمح بتكرار تلك التجربة المريرة على كل المستويات، علماً أن ثمة من بقي يرفع شعار "الحذر واجب" ويدعو إلى رفع كل الاحتمالات والمفاجآت في الحسبان، بما فيها احتمال أن يحصل شيء ما من جهة الحدود اللبنانية، وإن كان الاحتمال الأضعف . ومهما يكن من أمر فثمة أيضاً من يبني على نتائج الوضع في غزة بعد فتح أبواب الحرب "الإسرائيلية" المجرمة على القطاع، احتمالات وتداعيات أخرى على الساحة اللبنانية، فإذا كانت هذه الحرب انتهت باجتياح عسكري بري "إسرائيلي" للقطاع ووجهت ضربة قوية إلى القدرات والإمكانات التي تمتلكها فصائل المقاومة الفلسطينية والتي راكمتها ولا ريب في الأشهر القليلة الماضية، فثمة، ولا ريب، وضع جديد على مستوى الصراع العربي - "الإسرائيلي" سيلقي بظلاله على الساحة اللبنانية وعلى المعادلة السياسية، إذ سيصبح وضع "حزب الله" وسلاحه وحلفائه حرجاً وصعباً وفي خانة الاحتمالات الصعبة، ولا سيما أن الحزب أظهر منذ زمن منظومة أمن ومعادلة قوة قائمة على تحالفاته مع الفصائل الفلسطينية ذات التوجه الراديكالي وصولاً إلى غزة وقطاعها . نظرة 14 آذار أما إذا أخذت الأمور منحى آخر، وتكررت تجربة عام ،2006 وبالتالي صمدت غزة بمن فيها وبقيت تطلق صواريخها على المدن والمستوطنات الصهيونية، فإن ذلك سيلقي ولا ريب نتائجه الإيجابية على "حزب الله" وتحالفاته اللبنانية والعربية . ومهما يكن من أمر، فإن خصوم "حزب الله" في الساحة اللبنانية ولا سيما قوى 14 آذار، يقيمون على اعتقاد يجاهرون به علانية وهو أن يدي الحزب هذه المرة مكبلة بأكثر من اعتبار وعائق، وعاجزة عن القيام بأية مغامرات يريد من خلالها الخروج من أزمته الداخلية التي باعتقاد هؤلاء أنها تفاقمت وتصاعدت في أعقاب التطورات العاصفة على الساحة السورية، وإظهار تعاطفه مع نظام الرئيس بشار الأسد فضلاً عن أحداث وتطورات أخرى في الداخل . وفي كل الأحوال تتصرف قوى 14 آذار على أساس أن خصمها العنيد في الداخل أي "حزب الله" يعيش حالة ورطة وإرباك، وأنه يبحث منذ زمن عما يخرجه من هذه الورطة ويعيده إلى قلب المعادلة في الداخل، لذا فهو (أي الحزب) قد يستغل التطورات الدراماتيكية على ساحة غزة للإقدام على فعل شيء ما أو خوض غمار تجربة جديدة قد تترك آثارها على الساحة اللبنانية وتأسرها وتزيد من حدة أزمتها وانقسامها العمودي . حادث صيدا وبالنسبة إلى فريق 14 آذار فإن ورطة "حزب الله" وأزمته قد ارتفع منسوبها في الأسبوع الماضي وبالتحديد في عاصمة الجنوب عندما أطلق عناصر من الحزب في محلة تعمير عين الحلوة وهي بقعة جغرافية مكتظة سكانياً تحاذي صيدا ومخيم عين الحلوة، وحارة صيدا، ويقيم فيها خليط متنوع طائفياً من السكان، النار على مجموعة تابعة للشيخ أحمد الأسير، ما أدى إلى سقوط عنصرين من مرافقيه ومقتل شخص ثالث كان عابراً لحظة اندلاع إطلاق النار، فكان أن توتر الوضع في صيدا والجنوب خصوصاً، وفي لبنان عموماً، وبالتالي عاش سكان صيدا والجوار ساعات طويلة في انتظار ما يمكن أن يحدث إذا ما قرر أنصار الشيخ الأسير القيام بعملية ثأر أو انتقام، ما عزز احتمالات الانفجار على أسس مذهبية، تأخذ عاصمة الجنوب نحو دائرة الفتنة . وقد زاد من منسوب المخاوف إن الشيخ الأسير الذي ظهر قبل فترة ولم يكن عنده شعار أساسي يرفعه سوى التخلص من سلاح "حزب الله" ووطأته، قد هدد بأمرين اثنين: الأول، الرد انتقاماً على مقتل مرافقيه . الثاني، التهديد بإنشاء تنظيم عسكري مسلح هدفه الأساسي مواجهة "حزب الله" . والمعلوم أن الشيخ الأسير كان بدأ قبل فترة إجراءات على الأرض بغية التعرض للحزب، ونظم، كما صار معلوماً، اعتصاماً على أحد مداخل صيدا الشرقية المفضية إلى عمق الجنوب واستمر لمدة شهر، ولم يتم فكه إلاّ بعد أن ضجت المدينة نفسها من وطأة هذا الاعتصام وتداعياته الاقتصادية والأمنية السلبية على المدينة وعلى علاقاتها بمحيطها والجوار . ولكن رياح الأمور سارت عكس المخاوف والاحتمالات السلبية التي ارتفعت وتيرتها ومنسوبها ونجحت الجهود في تهدئة الموقف، بل كان لافتاً أن الشيخ الأسير قد انكفأ عن الواجهة لأيام عدة، واكتفى بدفن عنصريه القتيلين في ساحة رئيسة على مدخل صيدا رغم اعتراض بلدية صيدا على هذا الأمر، وقد أسهم في إعادة الأمور إلى طبيعتها، وبدد المخاوف المتعاظمة من انفجار أمني تدابير ومعطيات عدة أ برزها: أن الشيخ الأسير لم يكن موفقاً في فعله أساساً، إذ بدا في موقف المستفز للآخرين والمحاول بشتى الوسائل شراء المشكل وتأجيج نيران الفتنة . أن قيادات أساسية سياسية وروحية في صيدا وقفت موقف المستنكر لممارسات الشيخ الأسير وعملت بكل جهدها لدرء الفتنة وعدم تغطية ما حصل سياسياً . أن الفريق الآخر أي "حزب الله" وحلفاءه في حركة "أمل" أبلغوا إلى من يعنيهم الأمر أنهم مستعدون للتهدئة ولكن على قاعدة عدم استدراجهم . أن ثمة تكهنات بأن رهانات الشيخ الأسير على إدخال العامل الفلسطيني في اللعبة بغية فتح خطوط تماس في داخل صيدا أو محيطها على غرار خطوط التماس القائمة في طرابلس منذ زمن بعيد لاستنزاف الجميع وتكون تحت الطلب، لم تُجْدِ نفعاً لأن قيادة الجيش اللبناني أبلغت الجانب الفلسطيني أنه سيكون بالمرصاد لأي محاولات لزج الفلسطينيين بالصراعات الداخلية اللبنانية . أولاً وأخيراً أن الدولة اللبنانية اتخذت إجراءات أمنية مشددة على أعلى المستويات للحؤول دون وقوع فتنة، ومنحت القوى الأمنية من جيش وقوى أمن داخلي صلاحية اتخاذ تدابير أمنية مشددة للحؤول دون قطع الطرق أو افتعال المواجهات وجر صيدا ومحيطها إليها . وهكذا نجحت الدولة بكل مؤسساتها في أخذ زمام الوضع والسيطرة عليه وضبطه والحيلولة دون وقوع فتنة ربما كان يعد لها منذ زمن بعيد وإن كان سيكون لها امتداداتها ولا ريب في أكثر من منطقة . ماذا بعد؟ وهل أخطأ الشيخ الأسير الحسابات والرهانات؟ وهل يمكن أن يبتلع الجرح ويسكت على ما لحق به من انتكاسة ولاسيما أنه هو الذي أطلق مراراً وتكراراً التهديدات بإلحاق الأذى ب"حزب الله"، والعمل بكل ما أوتي من قوة لتجريده من سلاحه ومن مقومات قوته . حتى الآن مازالت هذه الإجابات متعددة عن هذه التساؤلات التي طرحت نفسها بقوة على الساحة السياسية في الأيام القليلة الماضية . فالمقربون من الشيخ الأسير ينقلون عنه أنه تعرض فعلاً للكمين، وأن ثمة من استدرجه إليه لكي يكون ما كان، لكنه لن يقف مكتوف الأيدي بل سيرد في الزمان والمكان المناسبين . وفيما تراوح المعلومات بين أن ينفذ الشيخ الأسير تهديده ويعلن قيام ذراعه العسكرية المسلحة تحت عنوان الدفاع عن أهل السنة في لبنان، وبين أن يصرف النظر عن هذه الفكرة الصعبة التحقيق والتي لها أثمان وتداعيات كبرى، لاسيما أن الدولة وجدت نفسها أمام امتحان صعب وقررت فعلاً أن تستعيد هيبتها الأسيرة أو المهددة بالتلاشي، كون ذلك يظهرها بأنها الحلقة الأضعف وأن مؤسساتها باتت مكسر عصا، ما دفع الشيخ الأسير إلى أن يعيد النظر في حساباته من ألفها إلى يائها . خصوصاً أن الوضع في الجنوب والتوازنات القائمة فيه مختلفة تماماً عن الأوضاع في مناطق أخرى . علماً أن الدولة كانت أصدرت مذكرة اعتقال بحق نجله عمر الأسير الذي كان ومرافقوه قد تعرضوا لدورية قوى الأمن الداخلي وأخذوا سلاحها وأهانوها لمجرد أن الدورية كانت تقوم بالمهمات المنوطة بها، فيما عوقبت عناصر الدورية عقوبات مسلكية لأنهم لم يدافعوا عن أنفسهم . وفي كل الأحوال مازال هناك من يعتقد أن الأسير سيقوم بشيء ما لإعادة اعتباره في الساحة السياسية كالعودة إلى ساحة الاعتصام أو ما شابه، علماً أن ثمة من يقول إن الخيارات أمامه قد ضاقت إلى أضعف الحدود، وإنه سيحسب ألف حساب لأي تحرك يقوم به خلال الأيام المقبلة، ولا سيما أن رئاسة الحكومة والمراجع الروحية السنية العليا لم تمنحه غطاءً سياسياً لتحركاته، وبدا وكأنها تبرأت منه ومن تحركاته حاضراً ومستقبلاً . في غضون ذلك، انخفض منسوب حراك قوى المعارضة واندفاعتها الشرسة التي بدأتها قبل أسابيع عدة لإسقاط حكومة الرئيس نجيب ميقاتي أو إجبارها على الرحيل طوعاً أو قسراً . فالحكومة استمرت تعقد جلساتها الأسبوعية وتأخذ القرارات وكأن شيئاً لم يكن، في حين أن مجلس النواب استمرت لجانه النيابية بعقد اجتماعاتها رغم مقاطعة نواب قوى المعارضة لها . ولعل أكثر خسارة منيت بها رهانات قوى المعارضة هي أن الدعم الخارجي لحراكها الذي كانت تتوقعه لاسيما من عواصم غربية لم تكتمل حلقاته . إذ إن باريس تستقبل الرئيس ميقاتي كضيف رسمي عليها، علماً أن المسؤولين الفرنسيين كانوا أعلنوا سابقاً أنهم يدعمون ميقاتي كونه خياراً ضرورياً في هذه المرحلة، لا بل ثمة مصادر دبلوماسية في بيروت ذكرت صراحة أن الفرنسيين طالبوا قوى 14 آذار بما أسموه "أجندة إيجابية للتغيير الحكومي" . ولا بُد من الإشارة في هذا الإطار إلى أن قوى المعارضة نجحت خلال الأيام القليلة الماضية في ترسيخ أسس شبه اعتقاد لدى جمهورها وفي وسائل إعلامها فحواها أن مسألة تغيير الحكومة قد صارت حتمية، وأن المسألة أساساً مسألة أيام معدودة لدرجة أن بعض أوساط الأقلية حرصت خلال الأسبوع الماضي على تسريب صيغ متعددة لهذا التغيير تطرح على بساط البحث لإعطاء الانطباع بالتغيير الحكومي قوة الحقيقة، فعلى سبيل المثال ذكرت هذه الأوساط أن رئيس الجمهورية ميشال سليمان طرح في الدوائر الضيقة فكرة وزارة من ثلاثة أثلاث أي ثلث للمعارضة الحالية وثلث لقوى 8 آذار والثلث الثالث للفريق الوسطي الذي هو منه مع النائب وليد جنبلاط أيضاً . وفي كل الأحوال تعمد الرئيس ميقاتي خلال الأسبوع الماضي الرد مجدداً على تهجمات المعارضة عليه، إذ قال: "استوقفني في الأسبوع الماضي بعض المواقف المعارضة التي لاتزال تسلك منحى السلبية المطلقة، في رفض الحوار والمضي في سياسة التعطيل وتحميل الحكومة زوراً المسؤولية الكاملة في كل شيء، أي (إشارة إلى تحميل النائبة بهية الحريري له مسؤولية الدماء التي سالت في صيدا)، ونحن لم نتأخر في معالجة أي من الملفات، وحري بمن يطلقون المواقف المعارضة ليس إلا، أن يلاقوا الحكومة في منتصف الطريق بدل اللجوء إلى تعطيل عمل المجلس النيابي والتلويح بمزيد من السلبية التي لم تكن في يوم من الأيام حلاً لأي مشكلة، مجدداً التأكيد أنه لا يتمسك بأي موقع ويمد يده إلى الجميع" . وهكذا فإن هناك من بدأ في الأوساط السياسية في بيروت يتصرف على أساس أن قوة المعارضة قد أخفقت في جولتها التصعيدية الأخيرة، ولم تنجح في تحقيق شعارها العريض وهو إسقاط الحكومة الميقاتية الحالية، وبالتالي صار لزاماً عليها التحضير لجولة أخرى .