توقفت جولة الحرب "الإسرائيلية" الوحشية الأخيرة على غزة، لكن تداعيات هذه الحرب على الساحة اللبنانية بقيت، وسط الاحتمالات التي رسمها البعض علانية أو سراً أو ما كان يخشى منه الكثيرون، لا سيما بعدما رسخت في أذهان الكثيرين معادلة تربط بين تطور الأحداث في القطاع الفلسطيني المحاصر والجريح وبين الساحة الجنوبية في لبنان . لكن في النهاية اقتصر الأمر على بضعة صواريخ كانت في طريقها من مناطق ومواقع في الجنوب في اتجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث اكتشف ثلاثة منها وضل أحدها الطريق ليسقط في الأراضي اللبنانية المتاخمة للحدود مع الكيان الصهيوني، فيما حط الثالث في أراضٍ فلسطينية محتلة من دون أن يوقع خسائر تذكر . هذا الحدث بحد ذاته وعلى تواضعه ومحدوديته في المكان والزمان كان كافياً لكي يرضي كل الأطراف المتباينة في الساحة اللبنانية . فقد كان في إمكان الدولة أن تقول إنها ما برحت ممسكة بيد من حديد زمام الأوضاع في الساحة الجنوبية وإن مؤسساتها وأجهزتها المعنية قامت بما ينبغي عليها أن تقوم به لجهة ضبط الوضع، ومنع انتقال تداعيات الحدث في غزة إلى الساحة اللبنانية وعلى وجه التحديد الساحة الجنوبية . وفي إمكان الدول الراعية للوضع اللبناني أن تقول أن القرار الأممي الرقم 1701 الذي تم التوصل إليه بعد حرب يوليو/تموز عام 2006 والذي تمت ترجمته عملياً بوضع منطقة جنوب الليطاني في عهدة القوة الدولية "اليونيفيل" قد أعطى ثماره المرجوة، لأنه منع انفلات الأوضاع في الساحة الجنوبية وكبل يدي "حزب الله" عن التلاعب بأوضاع هذه الساحة وعن التصرف فيها وكأنها ملك خاص له، يوجه عبرها الرسائل التي اعتاد توجيهها في السابق إلى الكيان العبري، وصولاً إلى غايات ومآرب معروفة وتتصل بخريطة حراكه واستراتيجيته في المنطقة عموماً . هذا الرأي بطبيعة الحال رأي يجد هوىً في نفوس قوى 14 آذار في لبنان الذين بادروا منذ بداية الحرب "الإسرائيلية" الوحشية على غزة إلى التحذير من مغبة فتح "حزب الله"أبواب الجبهة الجنوبية، ما يفتح أبواب الاحتمالات بتكرار تجربة حرب عام ،2006 وبالتالي، صار في إمكان هذا الفريق السياسي الذي يناهض بشراسة كل توجهات "حزب الله" وحلفائه أن يزعم بأن الحزب بات عاجزاً عن اختراق المعادلات التي رسخت القرارات التي صدرت في صيف عام ،2006 حتى وإن إدعى خلاف ذلك . وفي الوقت عينه كان بإمكان "حزب الله"أن يستغل أحداً من الصواريخ الأخيرة في الجنوب، ليؤكد ضمناً أمراً أسياسياً وهو أن هذه الصواريخ إن لجهة تصنيعها وإن طريق إطلاقها إنما هي من صنع وإعداد جهات غير محترفة، وبالتالي فإنه لو أراد أن يشارك ويبادر لكان الوضع مختلفاً تماماً . وبمعنى آخر، فإن الحزب أكد بشكل غير مباشر على أمرين أساسيين:الأول، أنه حريص على الاستقرار في الساحة اللبنانية وهذا باعتراف السفير الروسي في لبنان وبإقرار ضمني من سفراء ودبلوماسيين آخرين في بيروت . والثاني أن الأساس في العملية كلها كانت في غزة بالذات التي أدت دورها في المواجهة على خير ما يرام وببسالة نادرة كما هي العادة، ولم تكن قوة المقاومة المتمركزة فيها بحاجة إلى الدعم والإسناد وفتح جبهات أخرى في الصراع العربي "الإسرائيلي"، خصوصاً أن الحزب لم يكتم ما أذيع وأشيع من أن قسماً كبيراً من الصواريخ المتطورة وأنظمة المواجهة المستحدثة التي كانت في غزة وصلت إلى هناك بجهود بذلها الحزب . وثمة بطبيعة الحال أمر آخر، توقفت عنده قيادة الحزب ملياً وهو إن ما حدث في غزة وقطاعها على مدى ثمانية أيام متتالية والنصر الذي تحقق لاسيما لجهة منع الآلة العدوانية "الإسرائيلية" من تحقيق أهدافها في تدمير البنية المقاومة في غزة، قد أكد مجدداً أهمية المقاومة وبلاغة دورها وموقعها في مواجهة الكيان الصهيوني، وإن كل ما قيل سابقاً عن أن هذه المقاومة قد انتهت صلاحيتها وفاعليتها ودورها ليس صحيحاً إطلاقاً . ومن البديهي أيضاً الإشارة إلى أن طبيعة حدث إطلاق الصواريخ قد وضعه البعض في خانة وجود قوى لبنانية قد دخلت إلى الساحة الجنوبية، وبالتالي صار في إمكانها أن تجعل لها موطئ قدم هناك لمراحل مقبلة، خصوصاً أن تنظيم "القاعدة" أكد أكثر من مرة أنه موجود هناك وأطلق صواريخ عدة . . وفي كل الأحوال سواء كانت صواريخ الجنوب قد أُعدت لتطلق أم ليتم اكتشافها، فإنها أدت الأغراض المتوقعة منها على كل الصعد . ومهما يكن من أمر قد انتهت فترة انشداد أنظار اللبنانيين إلى مجريات التطورات في خارج ساحتهم وقضاياهم وخلافاتهم الداخلية، خصوصاً الخلافات الأخيرة المتصاعدة منذ أكثر من شهر بفعل الإضراب السياسي الذي أعلنه فريق المعارضة للحوار الوطني وللحكومة . تراجع عن الاضراب السياسي ومما تجدر الإشارة إليه أن أنظار اللبنانيين انتقلت فور إنهاء وضع الحرب على غزة أوزارها، وانصرف الغزيون إلى الاحتفال بما اعتبروه نصراً تحقق، إلى الاحتفال السنوي بالاستقلال حيث لفتهم بطبيعة الحال مشاركة ممثلي قوى 14 آذار في الاحتفال المركزي والعرض العسكري السنوي الذي يقام على أطراف وسط العاصمة، رغم أن رموزاً من هذا الفريق كانت أعلنت سابقاً أنها في إطار المقاطعة الشاملة والتامة التي رفعت لواءها لكل ما له علاقة بالحكومة وبالفريق الآخر، وخصوصاً مجلس النواب، وستقاطع حتى احتفالات الاستقلال والتي تتوج عادة في حفل استقبال كبير يقام في القصر الرئاسي في بعبدا ويشارك فيه رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وعليه فإن ثمة من اعتبر مشاركة ممثلي ونواب قوى 14 آذار والمعارضة عموماً في هذه الاحتفالات ومصافحتهم للرئيس ميقاتي الذي يطالبونه بالرحيل الفوري مع حكومته، ينطوي على تفسيرات عدة، أولها اقتناع هذا الفريق بأن المضي قُدماً في هذا التصعيد الذي بدأوه والذي ترجموه بخطوة المقاطعة الشاملة لكل ما له علاقة بالحكومة والدولة كنوع من الإضراب السياسي من إسقاط حكومة ميقاتي لن يجدي ولن يؤدي إلى بلوغ ما يطرحونه من شعارات ومطالب، خصوصاً بعدما ثبت عدم حماسة الدول الغربية المعنية لشعار ترحيل حكومة الرئيس ميقاتي بأي ثمن وقبل البحث والاتفاق على البدائل، حتى لا يقع لبنان في قبضة الفراغ الحكومي وما يمكن أن ينتج عنه من تداعيات سياسية وأمنية في مرحلة بات معروفاً جنوح العالم كله إلى الحفاظ على الاستقرار القائم حالياً في الساحة اللبنانية بأي شكل وبأي ثمن . ميقاتي وهولاند وفي هذا الإطار تابع اللبنانيون من بيروت تفاصيل استقبال الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند للرئيس ميقاتي وإشادته مع كبار المسؤولين في العاصمة الفرنسية بالنهج السياسي الذي يتبعه خصوصاً لجهة النأي بالنفس عن تطورات الأحداث في الساحة السورية التي كانت في رأيهم سياسة حكيمة عصمت الساحة اللبنانية من التداعيات والاحتمالات السلبية . والواضح أن الرئيس ميقاتي استغل "صورة" اللقاء مع المسؤولين الفرنسيين لينطلق منها لتأكيد أمر أساسي وهو إنه يحظى بدعم خارجي فوق الدعم الداخلي في مواجهة الحملة الشرسة التي شنتها عليه قوى المعارضة خلال الشهر المنصرم وحملته خلالها وزر دماء الشهيد العميد وسام الحسن ووزر الأحداث الأخيرة، ودعته إلى الرحيل فوراً مع حكومته وعليه، مع هذا الاستقبال بدا الرئيس ميقاتي وكأنه قد استعاد ثقته بنفسه بشكل أكبر وشرع في هجوم مضاد على جبهة الأخصام السياسيين، حيث ظهر على شاشة التلفزة من العاصمة الفرنسية ليعلن ما يشبه مبادرة جديدة للتحاور والتفاوض مع القوى المعارضة له، إذ دعاها إلى العودة إلى طاولة الحوار الوطني التي يرأسها الرئيس سليمان، والتي تحضرها كل ألوان الطيف السياسي اللبناني المعارض والموالي على حد سواء، وذلك للتباحث بشكل جدي وتفصيلي في أمرين مترابطين وهما التفاهم على حكومة جديدة بالتزامن مع التفاهم على وضع قانون انتخاب جديد تجري على أساسه الانتخابات المقبلة في مطلع الصيف المقبل كما هو مقرر مبدئياً . والواضح أن ميقاتي خطا خطوة ذكية من شأنها أن تحرج الجميع وأن ترضي الجميع في آن معاً، وتشكل مخرجاً معقولاً ومقبولاً للأزمة الحكومية السياسية التي تقيم بعناد على الواقع السياسي اللبناني منذ عملية اغتيال الحسن، ولاسيما بعدما بدأت قوى المعارضة حربها الشرسة على الفريق الحاكم . فهي من جهة ترضي جبهة المعارضة ولا سيما لجهة تحقيق مطلبها من رؤية حكومة جديدة تشرف على الانتخابات النيابية وترضي فريق الأكثرية ولاسيما قوى 8 آذار، والرغبة التي تعلنها منذ فترة وهي رؤيتها لقانون انتخاب جديد غير القانون النافذ حالياً وهو قانون الستين اعتقاداً منها أن هذا القانون يؤمن لخصومها السياسيين أكثرية حتمية في مجلس النواب المقبل مما يمكنها من العودة إلى تشكيل الحكومة مجدداً، وبالتالي فرض خريطة معادلات سياسية جديدة . طرح الرئيس ميقاتي الذي أطلقه أخيراً لا ينطوي عملياً على جديد مطلق، لكن طرحه من باريس وفي هذا الوقت بالذات أحرج فعلاً الفريق الآخر (أي المعارضة) التي لم تتعامل مع هذا العرض بشكل جدي، وبقيت على إصرارها القديم بترحيل الحكومة الحالية كمقدمة لأي بحث في أي أمر آخر . مبادرة جنبلاط وفي غضون ذلك، بدأ فتح رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط الأبواب العملية أمام المبادرة السياسية للحل التي كانت أعلن في السابق أنه أعدها للخروج من المأزق السياسي وحالة الاحتقان التي تعيشها البلاد منذ فترة . ولقد كان لافتاً أن هذه المبادرة أحدثت دوياً في الساحة السياسية أكثر من الدوي الذي أحدثته مبادرة الرئيس ميقاتي، إذ إن قوى المعارضة أوفدت أحد نوابها أحمد فتفت إلى النائب جنبلاط في مقر إقامته في قصر المختارة (الشوف الأعلى) لتستوضحه آفاق هذه المبادرة ومدى جديتها، خصوصاً بعدما أعلن رئيس كتلة المستقبل النيابية الرئيس فؤاد السنيورة أن فريقه السياسي (14 آذار) يريد استيضاح جنبلاط حول الكثير من أبعاد مبادرته الجديدة . ولابُد من الإشارة إلى أن فريق المعارضة كان مضطراً لأن يتعاطى بجدية أكبر مع مبادرة جنبلاط . التي كان يعتقد في قرارة نفسه وفي أعماق تحليله السياسي أنها مبادرة لن تقدم أو تؤخر، وذلك لجملة اعتبارات ووقائع سياسية أبزرها: أنه ليس في إمكان فريق 14 آذار المضي قُدماً في تجاهل النائب جنبلاط أو في مقاطعة ما يطرحه ويقوم به، خصوصاً أن الرجل ظل واسطة العقد في السياسة حتى بعد التشنج الذي ظهر بينه وبين الرئيس سعد الحريري الذي انتهى عملياً بمبادرة من الحريري نفسه تمثل في اتصال هاتفي . إضافة إلى ذلك فإن النائب جنبلاط مازال يلعب دور "بيضة الميزان" على المسرح السياسي اللبناني، إذ إن وقوفه إلى جانب أي من طروحات وتوجهات الفريقين يؤدي إلى رجحان لغتها، خصوصاً في موضوع قانون الانتخاب الجديد، حيث إن فريق المعارضة والنائب جنبلاط قاسمهما المشترك هو رفض أي قانون آخر غير قانون الستين ولاسيما المشروع القائم على فكرة النسبية . وفي كل الأحوال كان السؤال المطروح في الساحة اللبنانية خلال الأيام القليلة الماضية هل سيكون المشروع الذي حمله موفدو جنبلاط إلى أطراف النزاع أخيراً، هو فعلاً فاتحة الحلول وبوابة التسويات التي لم يعد بديلاً عنها خصوصاً بعدما عجزت قوى 14 آذار عن إحداث انقلاب كبير في موازين القوى الداخلية يفضي إلى إطاحة أولاً حكومة خصمها السياسي كمقدمة لعودتها هي من حال الإقصاء التي تعيشها منذ بداية العام المنصرم أي بعد "ضربة "إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري . ثمة رأيان في الأوساط السياسية اللبنانية حيال مبادرة جنبلاط الأول، يزعم أنها جزء من عملية تقطيع الوقت الضائع يقوم بها جنبلاط بغية تبرئة ذمته أمام الفريق الآخر أي المعارضة حيث لا يريد قطع كل جسور التعاون معه، وبغية التجاوب مع شارعه السياسي الذي يبدو ميالاً إلى التعاون أكثر مع فريق 14 آذار لحسابات واعتبارات سياسية متعددة . وعليه، تأتي المبادرة كنوع من رفع العتب والقول اللهم إني بلغت، خصوصاً ان جنبلاط يدرك أن أمر انفراج الأزمة الحالية لم يحن بعد، وأنه ليس لدى أي من الفريقين الداخليين المتصارعين رغبة بالتراجع بحثاً عن قاعدة للتسوية . أما الرأي الثاني فيقول إن جنبلاط لم يطرح بالأصل مبادرة بالمعنى الكامل للكلمة، فالمقربون منه يقولون إن الوضع في البلاد محتقن لدرجة تتطلب من الجميع أن يقوم بدوره ومسؤولياته، وأن ما يقوم به جنبلاط هو عبارة عن استمزاج آراء والوقوف على توجهات كل الأطراف ليبنى لاحقاً على الشيء مقتضاه . ولا يفوت هؤلاء الإشارة إلى أن مبادرة جنبلاط تتكامل مع المبادرة التي يقوم بها رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان منذ فترة . وفي مقابل هذه المبادرات والجهود يتهيأ فريقا النزاع في الساحة اللبنانية لجولة أخرى من المواجهات السياسية والإعلامية في الأيام القليلة المقبلة، لأن ليس لدى الفريقين ما يظهر أنهما مقتنعان بأن زمن الحلول والتسويات قد اقترب لاسيما أن قوى الأكثرية على وجه التحديد ترى أنها قادرة على الصمود والاستمرار وأن خصمها السياسي هو الذي يتخبط في أزمة خياراته، وبالتالي ليس مطلوباً منه هو أن يبادر إلى فك أزمة خصمه في هذه المرحلة بالذات .