الحياة من صنعاء - أحمد مغربي - أحياناً، تندفع متغيّرات الحياة لتتحدث عن نفسها بطريقة مباشرة، بل ربما بإثارة لا تخطر في البال. ولعل ما حدث في صنعاء أثناء دورة «إيسسكو» للتدريب على الصحافة العلميّة، تخطى حتى الكلمات غير العاديّة. سقطت طائرة «سوخوي 32» من النوع المتطوّر على حيّ في صنعاء، لم يكن ليبعد سوى أقل من 1.5 كيلومتر عن فندق «رويال أندلس» عند مدخل «مدينة الأصبحي» في شارع تعز، الذي استضاف الندوة. حادث غير عاديّ أن تسقط طائرة عسكرية فوق بلدها، من دون قتال حرب، وأن تقع فوق حيّ سكني في أحوال مدنيّة هادئة، حتى لو شاب هدوءها كثير من الحذر والخوف والتوتر اللذين باتا من أشياء الحياة اليومية في صنعاء، منذ «ربيعها» المؤجّل. بسرعة، بادر الصحافيون اليمنيون الشباب إلى القول انه لم يكن حدثاً فريداً من نوعه، بل هو الثالث منذ بدأت التغيّرات الأخيرة في القيادة العسكرية في اليمن، التي تستمر في ظل حوار وطني لم يصل إلى ضفاف الأمان، ليس بعد. في بضع دقائق، تدفق الخبر إلى كل «لاب توب» في قاعة الدورة، التي تمتّعت باتصال شبكي لاسلكي مع الانترنت بال «واي فاي» Wi- Fi، واصلاً من مواقع يمينة عدّة. ووصلت معه صور لطائرة ال «سوخوي» وبقاياها، وأخرى للنوع الذي تنتمي إليه. بتهكم متوتر، علّق صحافي شاب عدنيّ على من قال له إنها نوع يقدر على اختراق جدار الصوت، بأنها اخترقت جدار بيوت آمنة. «يبدو أن الأمر التبس بين جدار الصوت العسكري، وجدار بيوت الناس». وبسرعة كبيرة أيضاً، وصلت أشرطة فيديو مُصوّرة على الخليوي، تحمل صوراً لأناس يلتقطون أشلاء الطائرة، وكذلك تصريحات لمواطنين عن الحدث، إضافة إلى بعض من وصل من المسؤولين. لكن الطائرة اخترقت جداراً آخر: الجدل حول ظاهرة «صحافة المواطن» Citizen Journalism والتحديات التي تحملها إلى الكتابة العلميّة. ودار الجدل حول علاقة الصحافي بالخبر الذي تُصيّره أيدي المواطنين والمُدوّنين والمواقع، مُشاعاً ومدعوماً بالصور والفيديو وأنواع الوسائط المتعدّدة. هناك من أصرّ على أن الصحافي عليه أن ينقل الخبر، وهي مهمّة لازمت الصحافة منذ عقود طويلة. في المقابل، ظهر رأي يقول إن الخبر لم يعد سوى مُكوّن من مهمّات الصحافي، ربما جزء مهم لكنه لم يعد هو «واسطة العقد» ولا بؤرة التركيز والتفكير والعمل. جاءت ال»سوخوي» لتساهم في هذا النقاش، بل رجّحت كفّة ضرورة الأخذ بالمتغيّرات التي فرضتها التقنيات ووسائط الإعلام الجديد. إذا كان الأمر يتعلّق بالخبر، سوف يتحوّل الصحافي إلى مجرد مصدر آخر على الشبكة، بالتساوي (سوى تفاصيل عملانيّة) مع... صحافة المواطن! لا أقل من القول ان وصول الصحافي إلى هذا الوضع، يعني عدم القدرة على استيعاب المتغيّر التقني وآثاره في الصحافة وعلاقتها مع الجمهور، والتغيّر الضخم الذي أحدثته في ثابت سابق في الصحافة: علاقة البث والتلقي بين من يكتب ومن يقرأ. تجربة «هافنغتون بوست» فرضت ال «سوخوي» إذاً أن يدور النقاش حول أشياء أخرى، مثلاً قدرة الصحافي على وضع الخبر، الذي يفترض أنه وصل إلى الناس من مصادر عدّة، في سياق يرتبط بمشاغل الناس، بل يعرضه كمن يناقشه معهم. في حال ال «سوخوي»، ألا يجوز القول ان أول ما يشغل البال هو علاقة خبر السقوط بالصراع غير المنتهي الدائر بين مُكوّنات اليمن؟ ما علاقة الحادث بإقالة اللواء أحمد علي صالح، نجل الرئيس السابق، وتعيينه سفيراً في الإمارات وخروجه من العلاقة مع المؤسسة العسكريّة في اليمن، مقابل تعيين اللواء علي محسن الأحمر، مستشاراً استراتيجياً وعسكريّاً للرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، ما يتضمّن بقاءه على علاقة مع تلك المؤسسة؟ كيف ينعكس الأمر على الحوار الوطني ومعطياته؟ هل تتعطل الحياة اليومية بأثر هذا الحادث أم لا؟ ربما كانت هذه الأسئلة أقنية لإعادة صياغة الكتابة الصحافية مهنياً، في حادث محدد. ومع قوّة الترجيح التي أعطتها ال «سوخوي» للخروج عن التقاليد الجامدة في الكتابة الصحافية، وتجديدها من القلب للاستجابة للتحدي التقني للقرن ال 21. وظهر نوع من التوافق عندما جرت الإشارة إلى تجربة صحيفة «هافنغتون بوست» التي نجحت في التجديد، عبر الاستجابة للتحدي، وبأن أعلنت ببساطة أنها لم تعد وسيلة لنقل الخبر، بل للنقاش حوله مع الجمهور الذي لم يعد متلقياً.