الصدفة وحدها جمعتني بفتاة سودانية (جامعية) زعمت انها لا تقرأ اللغة العربية وإنها لكي تفهم لابد أن يكون الموضوع مترجما الى الانجليزية أو الفرنسية.. وهذا يعد ودون مبالغة كارثة حقيقية.. نعم إن مثل هذه الفتاة تعبر في واقع الامر عن كارثه تعكس شؤما وسوءا يفصح بوضوح عن ابعاد ما ينتظر وطننا من محنة وضياع مؤلم.. كانت في الماضي عائلات في اقطار عديدة من بلاد العرب لا تتحدث في بيوتها وفيما بينها إلا باللغة الاجنبية.. كان الوضع تعبيرا عن أن (طبقة) بعينها من الطبقات التي فضلت السلم الاجتماعي في هذه البلدان هي جماعة من بقايا الحملات أو من الذين جاءوا الى هذه البلدان ليذوبوا بين أهلها فاستعربوا لسانا لا روحا ولا عقلا ولا انتماء. لست من الداعين الى الامتناع عن تعلم اللغات الاجنبية ولا حتى الى منع المدارس الاجنبية على العكس أنني أرى أن اتقان معلمينا وليس مجرد معرفتهم للغة اجنبية يعد لازما وضروريا لتطورنا الشامل.. كما أنه يؤدي الى امتصاص الكثير من المزايا الثقافية والحضارية في التفكير والتعبير ويساعد في النهاية في بلورة شخصية متوازنة ومتفتحة وهذا ما تؤكده حتى أجيالنا العربية التي تشير الى أن من تعلم لغة قوم أمن شرهم. ولكن الكارثة تكمن في ظهور جيل لا يقرأ العربية ثم لا يحسن التعبير باستخدامها.. أن هذا في اعتقادي معناه أن ثقافتنا التي ترمز لها لغتنا العربية لا تسير في طريق النضج بل تسير في الطريق المعاكس.. صحيح أن هناك مرحلة هبوط وانحطاط تعيشها بيوت المجتمعات متوسلة في تلك المرحلة باللغة العربية التي تنعكس على سبيل المثال في الاغاني والرقص وأدب التسلية وصحافتها الصفراء ليصل الامر في بعض الاحيان الى برامج الاذاعة والتلفزيون.. لكن هذا لا يعد مبررا لكي نتخلى وان نستهين بلغة الضاد الغنية والتي يكفي أنها لغة القرآن الكريم. إن الفتاة السودانية التي لا تقرأ بالعربية ولن تفكر بالتالي بالعربية تعيش بلا شك خارج إطار مجتمعنا بل وخارج تاريخه لتبدو هائمة في واد اخر في رحلة اغتراب ثقافي وروحي تتم على حساب الكثير من قيم امتنا، ولاشك أن انتشار السطحية التي تنتجها اجهزة ومؤسسات معينة في الغرب مثل أجهزة الكاسيت والفيديو والمجلات الرخيصة.. هذا النوع من الثقافة الذي يطرح على أنه تسلية أو لهو لينتشر كالنار في الهشيم فيؤدي الى أن يكتسح امامه كل انماط الانتاج والابداع الثقافي للشعوب المستوردة والمستهلكة.. وتلك في واقع الامر قضية أخرى تستحق الطرح والمعالجة ذلك أن الخطورة التي يمثلها استيراد واستهلاك هذه الانواع الشعبية الهابطة من ثقافات الغرب يصعب مقاومة آثارها.. أما خطورة سلوك تلك الفتاة بوجه خاص فإنه من الصعب مواجهته إذا لم ينتبه الى ذلك بوقت كاف لان اللغة كوسيلة التفكير لا يمكن تعويض خسارتها لانها تعني خسارة أمة بأكملها واجيال متفاوتة.