فلاح ذنون الفتحي أديب ومفكر آثر الإنطواء زمنا طويلاً لكنه قدَّم نفسه إلى المجتمع مؤخراً بعد أن فاضت بروحه الكلمات فلم تجد بداً إلا أنْ تتفجر ينابيع حكمةٍ وكلمات مبدعة تحاكي مسيرة الإنسان ورحلته عبر موانيء الحقيقة والوهم، مجتازاً فيافي العبارات التي تتيه براحلته حيناً، وتوصله إلى غدران الحقيقة والفهم حيناً آخر. إنه المتأمل في الحقيقة مجردةً ، ليكتشف في هذا التأمل الإشكالات التي تحكم مسيرتنا الفكرية ، لذا لن نستغرب جرأته فهو لا يمكن أنْ يهادنَ من أجل المعرفة، فالمعرفة عنده لا تستكين إلا لنفسها ، ولا تكشف أسرارها إلا مع الجرأة التي يمكنها وحدها استكشاف منابع الحقيقة. والحوار معه يحمل لونه المتفرد فهو يمنح محاوره الفرصة لاستنطاق ما لم يقله في مؤلفاته . وبمناسبة صدور كتابه الجديد عن الروائي الكبير نجيب محفوظ الذي قدَّمه بمناسبة الذكرى المئوية لولادته معه أجرينا معه هذا الحوار محاولين أنْ نستكشف معه أغوار التجربة في الكتابة عن عملاق الرواية العربية . سميت " تعدد الرؤى " وخلافك مع الآخر ب ( الوهم ) ألا يعد هذا تجاوزا على الآخر في تقديم رؤيته المخالفة؟ ** الحقيقة أنَّ موضوع الكتاب وهدفه هو معضلة الوهم في تفكيرنا ورؤانا، وبالأخص في السياسة التي تشغلنا هواجسها عن سوح الحياة كلها ومنها ساحة الأدب، أما النموذج الذي انتخبته لإضاءة جنبات هذا الموضوع فكان نجيب محفوظ ولأسباب عديدة وليس لتعلقي بأدبه فحسب . بل لأنه يمثل العلامة الأبرز في هذا الموضوع . فهو الذي قاد الأدب العربي إلى العالمية وتعرض إلى أبشع هجمة من طغيان الوهم بكيل الاتهامات حتى محاولات اغتياله بل دعوات قبر أدبه بعد وفاته. فثمة آراء ودراسات نناقشها من دون إنكار حق الناقد والدارس أما حين يغدو هذا الرأي وسيلة لتوظيف علماني ضد الدين أو أداةً للذبح ويصبح رأيٌ آخر دعوة إلى حرق كتب وقبر أدب بحيث يقوِّلُ نجيب محفوظ ما لم يقله ويتم تعسف النص لصالح فكرة تناسب المنظومة الفكرية التي ينتمي اليها الناقد فان هذا يتوجب وصف الفعل بما يستحقه . فرأي من غير تجرد يؤدي الى التوظيف وتحويل موضوع نجيب محفوظ الى حقل ألغام ضد الإسلاميين، أو تحويله إلى كافر ليستدرج فتاوى إهدار دمه أو الى ناشر للرذيلة فتهيء لدعوة قبر أدبه ليست إلا وهاماً تغدو بوابات للعبث بالأدب والأديب. إنها في الحقيقة آراء دينية وسياسية وفلسفية عبثت في النص الأدبي، وقسرت عليه فبركاتها النظرية فكان لا بد من تسمية الاشياء بأسمائها . ألم يَتهمه بالدعوة الى الفسق والفجور من لم يقرأ له، ويتهمه بالكفر من ترك المقالة بما فيها من تصريح ومباشرة معتمدا التأويل في الرواية الأدبية ؟. ألم يعتبروه ماركسيا ثم اتهمه الماركسيون بأن أدبه وأبطاله من الطبقة الوسطى وليسوا من البروليتاريا ؟ . بعض الاراء وضعتها قبالة بعض ليس استهانة بها ولكن لأظهرَ فضفاضية النقد الذي قدم نجيب محفوظ أخلاقيا ، إسلاميا ، ديمقراطيا ، إشتراكيا ، ماركسيا ، وجوديا ، كافراً ، فاسقا يهودي الهوى ، وفدياً ، غربيا ، فرعونياً ، لا وطنيا ، منافقا . وبالتالي فلن أنكر حرية الرأي مثلما لن اتنازل عن حقي في مناقشة الآراء وتسمية كل شيء باسمه . ربما مَدت السياسة الجسور بين الرأي والوهم وسواء قبلت الرأي أو رفضته فهذا لا يعني إنكار حرية الآخر . والمناقشة ليست حرباً, لكنَّ إعلان الحرب على الأوهام من الفضائل . تميزت مقدمتك بحدة النقد ( ضلال الأهداف ، غموض الحياة ، قسوة الوسائل ) مثل حياتنا غامضة بكل تجلياتها؟ ** أعترف بحدتي تجاه الوهم . لأنَّ الوهم صخرة عنيدة لا بد من القوة والقسوة لتفتيتها . تحدثتَ عن الحاكم الاسلامي قائلا : { فهل سيحكم من خلال الأوهام؟! ، أم سيكون متماسكا معبرا عن نفسه .....؟ } ألا تجد نفسك في هذه العبارة قاسيا مع الاسلاميين الذين لم يُمنحوا فرصة لاختيار تجربتهم ؟ ** لقد أنجزت كتابي خلال الفترة الانتخابية بعد ثورة 25 يناير أي قبل أنْ يمارس الإسلاميون السلطة التنفيذية الحاكمة . ولإنَّ هذا الكتاب يعكس قلقا من أنْ يرتكب الحاكم المُنتظر أخطاءً تحبط الثورة في عيون الجماهير . لذا أردتُ وضع السؤال الخطير أمامه مذكرا بأنَّ هناك اسلاميين إجتازوا حقل الألغام، وهذا للتنبيه وليس حكما قاسيا . كيف تفهم وظيفة النقد ؟ هل لوظيفة النقد تماس مع توجه عقائدي أو عاطفي أم تراه مُجرداً منطلقا في رؤاه العلمية ؟ ** هذا يعيدنا شيئا ما إلى السؤال الأول حيث أنَّ الرأي يقترب من الوهم حين يكون قوامه توجها عقائدياً واهواءً سياسية يتعسف النصوص ارضاءا للروح الانتمائية بعيداً عن رحابة الحقيقة وعمق الرؤية العلمية . ذكرت مقولة : أنَّ نجيب محفوظ دعا إلى ضرورة التمييز بين النص الادبي والنص الديني، وبين لغة الرواية ولغة التاريخ ، ألا تعتقد أنها محولة يائسة لإيضاح حقائق يحول الظلاميون تجاهل وجودها ؟ ** كانت مقولة نجيب محفوظ رداً على الغضب الذي مثل ردود الافعال على روايته ( أولاد حارتنا ) وكانت تدور حول الدين والأنبياء والحضارات، وبذلك لم تكن كتابا دينياً أو قصص الأنبياء أو مقالة عن العلاقة بين الدين والعلم بل هي رواية أدبية طرحت اسئلة فلسفية ولم تقرر واقعاً أو تستعرض تاريخ الاديان . وكانت المقولة تنبيه ضد القراءة الخاطئة للرواية وبالتالي فهي إيضاح للحقائق ولا أظنه يوجهها للظلاميين لأنَّ أحكام هؤلاء فوق القراءات صحيحة كانت أم خاطئة وإنما موجهة لجماهير يمكن أنْ يضع الكاتب فيها أمله حتى لا تكون عقولها امتداداً للظلام . قلت إنَّ نجيب محفوظ ليس أديباً إسلامياً، أنت دخلت في متاهة الجدل حوله ؟ ** لم يكن هم كتابي اثبات اسلامية نجيب محفوظ أو وجوديته أو ماركسيته بل كان هم الكتاب هو رفع شرانق الوهم عن شخصية كاتب أديب مبدع حتى إنَّ الكتاب أكَّدَ على إنه إنسان مصري عربي مسلم تتسم شخصيته في الحياة ب ( الاعتيادية ) فليس هو ذروة في الدين ولا من ابواق الكفر والضلال . هذه الرؤى المتجردة هو ما سعى اليه كتابي وهذا ما اهتدى اليه مساري في الجدل . أثرتَ بعض الأسئلة المهمة وكان الكتاب محاولة جادة للإجابة عنها، كسؤالك متى نتحرر من أوهامنا بالرغم من أنَّ التخلف ليس دوما من الأوهام بل قد تكون حياتنا كلنا عند بعض المتفلسفين وهماً؟ ** لقد كانت هذه رسالة الكتاب وكان موضوع نجيب محفوظ مجرد نموذج وتجربة لها. فليس الكتاب نبشاً في القبور وإنما استعدادا للولادة ، إنَّ الوهم هو أنكى صور التخلف وأقساها، والإسلاميون يعرفون أنَّ عصر الرسالة ليس فيه طاقة كهربائية ولا مدن حديثة ولكنهم يصفونه بالعصر الذهبي لأنَّ الأمة تحررت فيه من الأصنام والأوهام، فالتحرر من الوهم ضروري للنهوض، هو مقياس نجاح إنسانية الإنسان وقيمة الأمة فإذا ارتبط الوهم بالنفس والتخلف بالمجتمع فإنَّ التحرر من الوهم ضروري للخروج من التخلف. ألا ترى أنَّ هناك إسلاميين هم أيضا جانب جذب ويقفون على الضد من الإسلاميين الطاردين كما ذكرتَ نموج محمد الغزالي ؟ ** لقد تعمدت إبراز علاقة نجيب محفوظ مع سيد قطب وعلاقته بمحمد الغزالي ومواقف عبد المنعم أبو الفتوح والشيخ يوسف القرضاوي ، وبينت أنَّ كتاب إسلاميين آخرين قاموا بمهاجمتهم في بيانات ومقالات بل إنني تعمدت الكتابة عن أكثر من نمط من الإسلاميين، أما العلمانيون فقد حاولوا التصوير أنَّ الاسلاميين معتدليهم ومتشدديهم وكأنهم نمط واحد فراحوا يتهمون الإسلام بمعاداة الفكر والثقافة مثلما أنَّ الغرب يحاول أحياناً تقديم صورةٍ نمطية عن الإسلام وكأنَّ كل الإسلاميين هم أحزمة ناسفة في الفكر والواقع ، وأظنني بينت هذا خصوصا بردي على برنامج التلفزيون الألماني . في محاورتك للدكتور عماد الدين خليل محاولة عظيمة لنقد التنظير الإسلامي الذي يحصن نفسه بالقدسية، هل تعتقد أنك ستكمل مشوار هذه المحاورات في مجالات أخرى؟ ** أعتبر نفسي من تلامذة د. عماد الدين خليل وهو علامة فكرية كبيرة تتلمذت على كتبه وأدبه وأنا في المرحلة الإعدادية ، لكنَّ مقالته النقدية عن نجيب محفوظ وروايته ( السمان والخريف ) حاولتْ البرهنة على شيء واحد وهي أنَّ الاديب العربي هو تلميذ لأدباء الوجودية وفلاسفتها مثل ( سارتر والبيركامو ) وربط بين موضوعات رواية ( السمان والخريف ) وموضوعات رواياتهم وهي عملية تقزيم لأديب نوبل ومن ثم لقدرات الإبداع في الأدب العربي مما اضطرني إلى مناقشة مدى دقة وسلاسة نقد الرأي . إنَّ مقالته خرجت من مقاربة لا تخلو من القوة والعمق ، لكنني أرى أنَّ فيها تحاملا ًايدولوجيا لغير صالح الأدب العربي وقد أردت في مناقشتي أنْ أُنبه المفكرين والنقاد الاسلاميين ألا تحكمهم مقولات جاهزة فالاغتراب ليس صناعة وجودية لأنه شعور انساني ربما عاشه الأنبياء والأولياء أكثر من غيرهم. والحقيقة أجدني مقبل على حورات للإسلامين و لغير الاسلاميين كلما تبلورت لدي فكرة وموقف إزاء آراء قاربت الأوهام في النقد أو في التفكير مستقصياً وجه الحق مبتغيا للإنصاف. فقد تضمن كتابي انتقاداً لنجيب محفوظ لسكوته على عبث السينما في رواياته بعمقها الفكري والفلسفي وتحويلها الى مشاهد مبتذلة، في حين رفض ماركيز تحويل الروايات الأدبية إلى أعمال سينمائية . كلمة أخرى أضيفها وأجدُ فيها تذكيراً بهشاشة مبنى الوهم فقد فاز في عامنا هذا 2012 الأديب الصيني (ميوان) بجائزة نوبل وهو لا يتسم بأي انشقاق عن الحكم الشيوعي في الصين فهل كان أصحاب الجائزة يشجعون الشيوعية ؟ أم على الصينيين اتهام اللجنة المانحة بأنها تتآمر لصالح الحكم الشيوعي ضد مبادئ الديموقراطية والقيم السياسية المعاصرة ؟ أقول يكفي أوهاماً بحيث لا نفرق بين الحقيقة والمؤامرة ، بل من المصائب أنَّ ما كان لنا نعتبره مؤامرة علينا وما كان ضدنا نراه حقيقة راسخة. متصفحك لا يدعم الجافاسكربت أو أنها غير مفعلة ، لذا لن تتمكن من استخدام التعليقات وبعض الخيارات الأخرى ما لم تقم بتفعيله. ما هذا ؟ Bookmarks هي طريقة لتخزين وتنظيم وادارة مفضلتك الشخصية من مواقع الانترنت .. هذه بعض اشهر المواقع التي تقدم لك هذه الخدمة ، والتي تمكنك من حفظ مفضلتك الشخصية والوصول اليها في اي وقت ومن اي مكان يتصل بالانترنت للمزيد من المعلومات مفضلة اجتماعية