عرفه المشاهد العربي من خلال برنامجه الشهير ( العلم والإيمان) الذي اكتسح الشاشات العربية في وقت قصير وانطبعت صورة د/ مصطفى محمود في ذهن المواطن العربي بأنه العالِم والمتحدث بلسان العلم دائما، والخاصة منهم منْ يعرف د/ مصطفى محمود الأديب الذي بدأ حياته كاتبا للقصة القصيرة والمقال بأنواعه الاجتماعي والسياسي والفلسفي ومن ثم كاتبا للرواية والمسرحية وبعد ذلك أدب الرحلات سواء في الصحراء أو المدينة أو الغابة أو رحلته الشهيرة من الشك إلى الإيمان وهي رحلة نفسية لهذا الكاتب المبدع في ذاته الشخصية ناقلا لها من أغوار الشك والمجادلة إلى برد اليقين والتصوف العميق والعاقل. وفي كل الأدوار تطل شخصية الأديب متعمقة في فلسفة متناهية وبساطة متواضعة لتقديم الحياة في أكمل صورها .. العلم سلاحه والكلمة مصباحه في هداية الساري في الطريق.. رحلة عمر د مصطفى محمود الطويلة (1921-2009م) لا تنتهي فيها تقلبات فكره ولا معاركه الفكرية التي اشعلها، ودعونا نعود إلى البدايات ... البدايات الادبية وُلد مصطفى كمال محمود حسين في قرية “ميت خاقان” من أعمال مدينة شبين الكوم في 27 ديسمبر عام 1921م ثم انتقلت اسرته إلى مدينة طنطا بجوار مسجد “السيد البدوي” الشهير الذي يعد أحد مزارات الصوفية الشهيرة في مصر؛ وقد اثرت هذه البيئة على افكاره إذ يقول في مذكراته “ الحياة في طنطا في جوار السيد البدوي و حضور حلقات الذكر و المولد و الناى و مذاق القراقيش و إبتهالات المتصوفة والدراويش .. كان لها أثر في تكويني الفني و النفسي “، درس الطب ليشبع نهم التساؤلات الوجودية التي كانت تجول بخاطره منْ هو الانسان ؟ ولماذا ومن أين ؟ لُقّب ب(المشرحتجي ) أيام ما كان طالبا في كلية الطب لكثرة وقوفه على الجثث المتراصة في مشرحة الكلية باحثا عن سر الحياة ( أثمر هذا الوقوف كتابين له هما لغز الحياة ولغز الموت) ، لكن معاناته في سرير المرض في السنة الثالثة من دراسته جعلته يعتكف على الادب والروايات فصنعت تلك المعاناة شخصية الاديب والفنان ، ثم لمّا تخرج عام 1953م من كلية الطب مارس مهنة الطب لبعض الوقت إلى جوار عمله ككاتب محترف في مجلة التحرير وروز اليوسف وصباح الخير ثم ودّع الطب نهائيا ليتفرغ للكتابة والبحث منذ عام 1960م. شجّعه الكاتب الكبير/عباس محمود العقاد على نشر قصصه في مجلة الرسالة في اربعينيات القرن الماضي ، فصقل موهبته لتثمر روايات وجدت طريقها إلى السينما منها “ شلة الانس” و رواية “المستحيل” ( فيلمها اختير كواحد من اهم مائة فيلم في السينما المصرية في القرن العشرين) ورواية “العنكبوت” التي كانت فاتحة الطريق لأدب الخيال العلمي العربي . ومن باب الادب هذا كان تكريم د مصطفى محمود بجائزة الدولة المصرية التقديرية في عام 1970م عن روايته العلمية”رجل تحت الصفر” التي صدرت في عام 1966م . إلى جوار الرواية كان المسرح يأخذ نصيبه من فكره الذي قدّم العديد من المسرحيات ُمثلت ستاً منها على خشبة المسرح ( مسرحيات الزلزال والانسان والظل والاسكندر الاكبر والزعيم وانشودة الدم ). ولا ننسى أدب الرحلات التي سافر فيها د مصطفى محمود بالجسد إلى أرجاء المعمورة (الصحراء الكبرى وعواصم امريكا وأوروبا ) قبل ان ينقل تلك الرحلات على صفحات كتبه مثل الغابة وحكايات مسافر وأمريكا من الشاطئ الآخر وغيرها ... لكن فكره لم يغب في كل هذا الحشد من الكتب المتنوعة بل عبّر عنه على ألسنة شخوص قصصه ورواياته ومن بين تأملاته عن ذلك العطش الروحي واللهفة لمعرفة الحقيقة الغائبة كما يلوح ذلك في رحلاته المتعددة . رحلات من نوع فريد يلخّص د مصطفى محمود حياته على أنها هجرة مستمرة نحو إدراك الحياة و البحث عن الحقيقة ويفصلها قائلاَ : كان كل كتاب محطة على طريق هذا السفر الطويل كانت المجموعة الأولى من الكتب التي صدرت فيما بين 1954م و1958م تمثل المرحلة المادية العلمانية و فيها قدّمت كتبي : الله و الإنسان - إبليس و مجموعة قصص أكل عيش و عنبر 7 و في هذه القصص حاولت أن اصوّر المجتمع من منظور واقعى صرف وكان موقفي من المسلمات الدينية هو مواقف الشك و المناقشة ، و كانت المرحلة الثانية هي بداية الشك فقد اتضح لي عجز الفكر العلمي المادي عن ان يقدم تفسيراً مقنعاً للحياة و الموت و الإنسان و التاريخ و في هذه المرحلة وقفت أمام الموت منكراً ومستنكراً أن يكون الإنسان هو هذه الجثة التي أراها أمامي وأنه هو مجموعة عناصر الكربون و الهيدروجين و الأكسجين و النحاس ..الى آخر العناصر العشرين التي تتألف منها طينتنا و ترابنا .. لا لا يمكن أن يكون الإنسان هو مجرد هذه الأحشاء الملفوفة في قرطاس من الجلد وإنما الحقيقة الإنسانية لا بد أن تكون متجاوزة لكل هذا القالب المادي المحدود وعلينا أن نبحث عن حقيقته فيما قبل الميلاد و فيما بعد الموت و فيما وراء الطبيعة و في هذه المرحلة كتبت مؤلفاتي : لغز الحياة و رواية المستحيل و تكاد تبوح الرواية فيما بين سطورها بهذا العطش الصوفي و الروح الرومانتيكية . وتستمر هذه المرحلة الى أوائل الستينات ففي 1962م أهاجر هذه المرة بالقدم و الجسد في محاولة لاستكشاف الحقيقة في الغابات الاستوائية العذراء في جنوب السودان و كينيا و أوغندا و تنزانيا و أعيش شهرين في قبيلة نيام نيام ، تعقبها رحلة أخرى إلى قلب الصحراء الكبرى في واحة غدامس حيث أعيش شهراً مع الرجال الملثمين في قبيلة الطوارق و تكون ثمرة هذه الرحلات في ثلاثة كتب هي : الغابة و مغامرة في الصحراء و حكايات مسافر وذلك عن رحلة ثالثة إلى أوروبا ، ثم بعد ذلك تأتي المرحلة الرابعة التي أحاول أن اركب فيها سفينة العلم لأهاجر إلى ما وراء العلم في مغامرة لأكتب لوناً جديداً من أدب الرواية العلمية و في هذه المرحلة قدّمت روايات العنكبوت و الخروج من التابوت و رجل تحت الصفر ، وفي هذه المرحلة أيضاً كتبت آينشتاين و النسبية . ثم تواكب هذه المرحلة و تأتي بعدها مرحلة أدبية قدّمت فيها معظم أعمالي الأدبية ومنها: مسرحية الزلزال ومسرحية الإنسان و الظل ومسرحية الاسكندر الأكبر و مجموعات قصص مثل: رائحة الدم و شلة الأنس و روايات اجتماعية مثل الأفيون. وفي أواخر الستينات أدخل عالم الأديان في سيرة طويلة تبدأ بالفيدات الهندية و البوذية و الزرادتشية و الثيوصوفية و اليوجا ثم اليهودية و المسيحية و الإسلام و أنتهي إلى شاطئ القرآن الكريم و في بحر الصوفية الإسلامية أجد جميع الينابيع و جميع الجداول و كل الأنهار وأجد الإجابات لكل ما كنت أبحث عنه من مشاكل أزلية . هكذا تأتى مرحلة التحول الكامل إلى الإيمان و تتوالى مجموعة من كتب الإسلاميات : القرآن محاولة لفهم عصري و رحلتي من الشك إلى الإيمان و الله و محمد و الكعبة و التوراة و الشيطان يحكم و الروح و الجسد .. حوار مع صديقي الملحد و تغطي هذه المرحلة سنوات السبعينات . و في هذه المرحلة أتخذ موقفاً صريحاً مناهضاً للفكر الماركسي و الفكر الشيوعي ، و أقدّم كتب : الماركسية و الإسلام ، لماذا رفضت الماركسية ، أكذوبة اليسار الإسلامي ، كما أناقش كل ألوان الغزو الفكري من وجودية إلى عبثية إلى فوضوية إلى مذاهب الرفض و التمرد و اللامعقول. ثم بعد ذلك و في أواخر السبعينات تأتى المرحلة الصوفية و فيها أقدّم الثلاثية: الصوفية ، السر الأعظم ، رأيت الله ، الوجود والعدم كما أقدّم أسرار القرآن، و القرآن كائن حي ، و مجموعات قصص مثل نقطة الغليان و أناشيد الأثم و البراءة و مسرحيات مثل الشيطان يسكن في بيتنا و مسرحية الطوفان ، دراسات في الحب مثل :عصر القرود و رواية سياسية هي المسيح الدجال” . معارك العلم والإيمان مع كل هذا الكم من التقلبات الفكرية في حياة د مصطفى محمود فقد امتازت بكثرة المعارك الفكرية التي خاضها سواء مع نفسه او مع الاخرين ، ورغم رحيل الرجل إلا أن آثار تلك المعارك الفكرية وظلالها التي خلفتها في الفكر المعاصر لم تنتهِ بعد.. أول تلك المعارك مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي طلب تقديم د مصطفى محمود للمحاكمة بسبب كتابه الأول “الله والإنسان” في مارس 1957م بناء على طلب الأزهر باعتبارها قضية كفر!.. إلا أن المحكمة اكتفت بمصادرة الكتاب، الذي أعيد طبعه مرة أخرى بأمر الرئيس السادات. وتحدث د مصطفى محمود عن كتاب “الله والانسان” في مقدمة كتابه “رحلتي من الشك إلي الإيمان” أنه قدّم كتابه الأول منطلقاً من شيء أساسي وجوهري وهو أن الله واحد، وأضاف: “لقد ناقشت في كتابي كل الظواهر الموجودة في الكون بمنطق فكري علمي والقليلون فهموا موقفي على وجهه الصحيح ، كانت لي شكوك إنسانية لكن كنت مع الله وأنا في حالة شكي هذه.” ثم كانت معركته الفكرية الثانية التي دارت في أوائل السبعينيات على صفحات جريدة الأهرام مع الدكتورة “عائشة عبد الرحمن” «بنت الشاطئ» حول كتابه “القرآن محاولة لفهم عصري”، فقد كانت المعركة حول الإعجاز العلمي للقرآن، حيث يرى د مصطفى محمود “ أن الآيات الكونية القرآنية التي تتحدث عن النجوم والفلك والقمر والليل والنهار والكون والطبيعة إنها لم تكن مفهومة في عصرها لأن السلف الصالح لم تكن لديهم الخلفية العلمية لعلوم الفلك وأيضا لم يكن ظهر في عصرهم الأجهزة الدقيقة والعلم المتقدم الذى أصبح في عصرنا يحمل صاروخ الرجل إلى القمر والكواكب الأخرى ولكن الآن الآيات أصبحت مفهومة ويمكن تفسيرها بشكل أعمق وأصدق وفسرتُ هذا بأنه العطاء الجديد للقرآن الكريم”، في حين ترى بنت الشاطئ “أننا لا يجب أن نتورط إلى المزلق الخطر الذى يمكن أن يتسلل إلى عقول أبناء هذا الزمان وضمائرهم فيرسخ فيها أن القرآن إذا لم يقدّم لهم علوم الطب والتشريح والرياضيات والذرة فليس صالحا لزماننا ولا جديراً بأن تسيغه عقليتنا العلمية ويقبله منطقنا العصري هكذا باسم العصرية نغريهم بأن يرفضوا فهم القرآن كما فهمه الصحابة في عصر البعث ومدرسة النبوة ليفهموه في تفسير عصري من بدع هذا الزمان”. ولم يمض وقت طويل حتى ثارت معركة جديدة بسبب كتابته سلسلة مقالات في جريدة الأهرام أواخر التسعينيات عارض فيها القائلين بوجوب شفاعة الرسول عليه السلام يوم القيامة كما دعا إلى تنقية الأحاديث النبوية التي قال أنها “تعرضت للعبث من بعض الوضّاعين” مما جعل الأزهر ورجاله يثورون عليه متهمينه بإنكار الشفاعة والتشكيك في الأحاديث النبوية واعتبروه منكراً لآيات القرآن الخاصة بالشفاعة والأحاديث النبوية. المثير للأسف أن الرجل لم ينكر الشفاعة أصلا!...رأيه يتلخص في أن الشفاعة مقيدة فيقول “ موضوع الشفاعة وتفاصيل ما سيجري فيها في الآخرة وأسرارها وحسابها هي أمور غيبية لا يستطيع أحد أن يقطع بما سيحدث فيها تفصيلاً ،والقطع في هذه المسائل مستحيل والتعصب فيها إلى جانب دون الآخر هو تطاول بغير علم خاصة إذا جاء القرآن بنفي الشفاعة في بعض آياته وجاء بجوازها في آيات أخرى ،والحكمة القرآنية في هذا التعتيم في قضية الشفاعة أن الله أراد لنا أن نعيش على حذر عظيم وعلى خوف عظيم طول الوقت من هذا اليوم .. “ وهو لم يبنِ هذا الرأي من فراغ فقد أعتمد على آراء علماء كبار على رأسهم الإمام محمد عبده الذي يقول “ وهذا مما يستحيل على الله عز وجل فأفعال الله تابعة لحكمته وعلمه وسائر صفاته الأزلية القديمة التي يستحيل أن يطرأ عليها تغيير أو تبديل ..وهذه الشفاعة التي يتعلق بها السفهاء قد نفاها الله تعالى في الكثير من آياته ..” يا أيها الذين أمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ..” ( البقرة 254 ).وهم الكافرون بنعم الله عليهم إذ لم يضعوها في مواضعها وبخلوا بها على مستحقيها .. وليس الكافرون هنا منكروالألوهية ..وإنما أهل الشح والبخل». أعمال خالدة أنشأ د. مصطفي محمود عام 1979م مسجده في القاهرة المعروف ب “مسجد مصطفى محمود” ويتبع له ثلاثة مراكز طبية تهتم بعلاج ذوي الدخل المحدود ، وشكّل قوافل للرحمة من ستة عشر طبيبًا، ويضم المركز أربعة مراصد فلكية ، ومتحفا للجيولوجيا، يقوم عليه أساتذة متخصصون. وكذلك قدّم د. مصطفي محمود 400 حلقة تليفزيونية من برنامج العلم والايمان الذي ظل يعرض لعشرات الاعوام..، وما زال إلى الآن يحظى بنسبة مشاهدة كبيرة يندر أن تتحقق لغيره من البرامج. خلّف د مصطفى محمود من التراث الفكري أكثر من تسعين كتابا تنوعت بين العلمية والدينية والفلسفية والاجتماعية والسياسية إضافة إلى القصص والمسرحيات وقصص الرحلات، وغيرها بأسلوبه الذي تميز بالبساطة والسلاسة المتناهية، التي تشد القارئ، وتجعله منجذبًا لموضوعه الذي يقرأه.. وشارك في العديد من المؤتمرات العلمية والدينية في العالم كله، الأمر الذي توجه في عام 2003م باختياره من قبل مؤسسة السيرة الذاتية الأمريكية كواحد من أعظم العقول في القرن الحادي والعشرين ضمن 120 مفكراً من مختلف دول العالم. اعتزل الكتابة بعد معركة الشفاعة وتوقف برنامجه وانقطع عن الناس حتى أصابته جلطة دماغية عام 2004م فعاش منعزلا وحيدا يقاسي مرض الزهايمر الذي ألمّ به في أواخر عام 2005 م ليرحل صباح السبت 31 اكتوبر 2009م في هدوء.