جاءت ساعات البث الطويلة لتجبر القنوات الفضائية للعودة للأرشيف القديم، وعرض الكثير من الأفلام والمسلسلات والبرامج بالأبيض والأسود، وشاهدنا نجوم الفكر والسياسة والفن والثقافة والرياضة وهم يبدعون، وتُعرض مهاراتهم وخطبهم وهم في ريعان الشباب، ثم نشاهدهم في برامج وأفلام ومسلسلات وهم أكبر سناً وأنضج تجربة، ونرى خطوط العمر وتجاويف الزمن؛ ولهذا شكراً للتقدم التقني والعلمي الذي حفظ لنا هذه الأشياء، وأصبحنا نشاهدها بكل وضوح ونقاء. لقد دخلت في خيال جميل، تمنيت فيه وتخيلت أن التقنية والتصوير وحفظ الأحداث كانت موجوداً في عهود سابقة، وأنه كان بإمكاننا أن يكون لدينا أفلامٌ حقيقية عن حياة العهود السابقة، وأن معارك حاسمة في تاريخنا الإسلامي قد ظهرت أمامنا كما حدثت مثل معركة القادسية وبطولة سعد بن أبي وقاص وبطولات عمرو بن العاص وفتح الشام وطارق بن زياد وفتح الأندلس وخطبته الشهيرة وصلاح الدين وحربه ضد الصليبيين، وغير ذلك من الأحداث الجميلة. كما أتخيل أمامي فيلماً حقيقياً لدروس أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل ومعلقات الشعر العظيمة وهي تلقى في سوق عكاظ وحياة المتنبي والبحتري وجرير، وكيف عاش ابن خلدون وابن رشد والعلماء الذين لا يزال العالم يدين لهم بالفضل مثل الخوارزمي وابن الهيثم وجابر بن حيان وابن سيناء، وغيرهم. لكن جاءت الأفلام، وشوهت بعض هذه الشخصيات عندما ربطنا عبدالله غيث وأنطوني كوين بصورة حمزة بن عبدالمطلب (رضي الله عنه وأرضاه) أو عمر المختار. لكن الدرس المستفاد أن الذي يبقى بعد وفاة الإنسان هو الفكر وما خلفه للبشرية من عطاء وعلم وخدمة إنسانية ومؤلفات معتبرة.. فقد مات بعض هؤلاء المبدعين وهم في تواضعهم وبساطتهم بل بعضهم مات فقيراً معدماً، لكن بقيت مؤلفاتهم وإنجازاتهم الفكرية والسياسية للناس، ينتفعون ويستفيدون منها، أما الذين توغلت الأنانية في أنفسهم، وبنوا ثروات طائلة في عصورهم، فقد ذهبوا ولم يذكرهم التاريخ، فهل نعرف تجار وأثرياء العهد الأموي أو العباسي أو العثماني أو الأندلسي إلا من أسهم بمواقف مشرفة لخدمة الإسلام، مثل أمير المؤمنين الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، بينما نعرف العلماء والمخترعين والموهوبين وألمع القادة المؤثرين.. ولهذا فهي رسالة إلى الأثرياء والميسورين ومَن منحهم الله الأرصدة الضخمة والأراضي الشاسعة والعمارات الزجاجية الفخمة والمصانع والمتاجر والأسواق والأسهم، وغيرها، بأن يساعدوا الفقراء والمحتاجين، وينفقوا مما أعطاهم الله، فالأكفان ليس لها جيوب، وهذه الأموال حري بكم استخدامها في دعم الأبحاث والعلماء وإقامة المستشفيات ودور العلم والتدريب والصدقات وفتح المجال لتوظيف الشباب وتزويجهم وإقامة المساكن للمحتاجين؛ لأن ذلك هو ما سينفعكم عند الله عز وجل. وأختم ببيت من الشعر للشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري - رحمه الله - حينما قال: لغز الحياة وحيرة الألباب أن يستحيل الفكر محض تراب وبيت آخر لنفس الغرض؛ إذ يقول الشاعر: إن العظيم وإن توسد في الثرى يبقى على مر العصور عظيما