الجمعة 18 أكتوبر 2013 11:35 مساءً ثمّة علاقةٌ مثيرةٌ وعميقةٌ جداً بين عبارة الخليل بن أحمد الفراهيدي الشهيرة: «الرجال أربعة: رجلٌ يدري ولا يدري أنهيدري، فذلك غافلٌ فنبّهوه. ورجلٌ لا يدري ويدري أنه لا يدري، فذلك جاهلٌ فعلّموه. ورجلٌ يدري ويدري أنه يدري،فذلك عاقلٌ فاتبعوه. ورجلٌ لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، فذلك أحمق فاحذروه» وكتاب بروفيسورِ تاريخ الاقتصاد فيجامعة بيركلي الأمريكية وبيزا الإيطالية، كارلو سيبولا: «القوانين الجوهريّة للغباء البشري». ظهر هذا الكتاب الصغير الحجم بالإنجليزية في طبعةٍ محدودة في 1976. رفض سيبولا ترجمته لأنه اعتقد أنه سيفقدقيمتَهُ بلغةٍ أخرى. قبل موافقته، قبيل سنوات من مماته عام 2000، على ترجمتهِ إلى الإيطالية، لِيُصبِح شديد الرواجفيها. ثم تُرجِم العام الماضي إلى الفرنسية وأصبح فيها اليوم شديد الانتشار أيضاً. من هو الأحمق، أي: الغبي؟ هو من لا يدري أنه لا يدري، حسب رأي الفراهيدي. تعريفٌ دقيقٌ صائب، لكنه معرفيٌّ بحت، صعبُ الفحص والقياسكما أتوقّع.يحلو الإشارة هنا للعبارة الجميلة العميقة الشهيرة للرجعيّ الكبير الذي ناهض الثورة الفرنسية بضراوة، جوزيفدوميستر: «من لا يفهم، يفهم أفضل ممن يفهم خطأً!» التي تُفضِّلُ بجدارة الجاهلَ على الغبي!...لسيبولا تعريفٌ آخر أكثر عمليّةً ربما. يلاحظ سيبولا أوّلاً أن الإنسان حيوان اجتماعي، يعيش متفاعلاً مع الآخرين فيشبكة علاقات دائمة، يُؤثر عليهم ويتأثر بهم. يُؤدّي ذلك إلى منافع أو خسائر اقتصادية أو نفسية، إلى كسبٍ أو ضياعٍللطاقة أو الوقت... مثل الفراهيدي، يضع سيبولا الإنسان في أحد أربع شرائح. فهو غافل أو قرصان أو ذكي أو غبي: إذا قاد تأثيرك على الآخر إلى منفعتهِ (أو منفعة مجموعةٍ بشريّة تتضمّنُه) وإلى خسارتِكَ في نفس الوقت فأنت غافل. إذاقاد إلى منفعتك وخسارتهم فأنت قرصان. إذا قاد إلى منفعتكم معاً فأنت ذكي. وإذا قاد إلى خسارتكم معاً فأنت غبي. يستخدمُ سيبولا في كتابه صبغةً أكاديمية: يضعك في محور السينات، ومن تتفاعل معه في محور الصادات الذي يتعامدمع محور السينات على الورقة كصليب، لتحتلّ الشرائح الأربع مواقع المربعات الأربعة التي تتقاسم الورقة. في ضوء تكرار موقعك في مربعات هذا الرسم البياني، انطلاقاً من شبكة تفاعلاتك مع الآخرين، فأنت إما غافل أوقرصان، ذكيٌّ أو غبي، ذكيٌّ يميل إلى القرصنة إذا اقتربت كثيراً من مربع القراصنة، أو قرصانٌ يميل إلى الغباء، أوقرصانٌ «نظيف»: أي مقدار كسبك من تفاعلك مع الآخر يُساوي تماماً مقدار خسارته (في الحالات غير «النظيفة»يكون الكسب أقلّ أو أكثر من الخسارة)، وهكذا دواليك... يهتمّ كتاب سيبولا بالشريحة الرابعة أساساً: شريحة الأغبياء. يضع خمسة قوانين جوهريّة يتمحور حولها الكتاب، تُحدِّدُطبيعة هذه الشريحة وتُجلي خطورتَها، كونها أمّ كلِّ بلاوي البشرية. يلاحظ سيبولا أوّلاً، في ضوء دراسةٍ ميدانيّةٍ أو من وحي التجارب التاريخيّة، أن نسبة هذه الشريحة كبيرةٌ جدّاً، هائلة... مثل معظم الباحثين الذين يرون اليوم أن لكلِّ صفات الطبيعة الإنسانية مرجعاً جينيّاً آتٍ من التاريخ التطوريّ الداروينيللإنسان، يؤكّد سيبولا أن الغباء إرثٌ جينيٌّ في الأساس. قد يصرخ البعض عند سماع ذلك، ويتّهم الدراسةَ بالنزعة النخبويّة أو الفاشيّة أو العُنصريّة. لكن القانون الجوهريالثاني فيها يمنع ذلك تماماً ويدعم وجهة النظر الجينيّة أيضاً، وهو يقول: نسبة شريحة الأغبياء في كل المجتمعات والطبقات والفئات الاجتماعية ثابتة، أشبه بنسبة فصيلة الدم!... واحتمال أنيكون المرء غبيّاً مستقلٌّ عن بقية خصائص وصفات طبيعتهِ البشرية. مذهلٌ جداً هذا القانون لأنه ينصّ، كما أشارت دراسة سيبولا، على أن نسبة الأغبياء متساوية في كل الشعوب، وفي كلالفئات الاجتماعية عمّالاً أو فلاحين كانوا أم أساتذة جامعات أو حائزين على جوائز نوبل، كما لاحظَتْ دراسته... تُنوِّه الدراسة بعد ذلك إلى غموض شريحة الأغبياء وصعوبة سبر اتجاهات سلوكهم: لا يمكن للعقلاء استيعاب حياةالأغبياء والتناغم معها. يُذكّرني ذلك بحكمةٍ صينية تقول: «الأحمق من ينظر لأصبعك عندما تؤشر له بها نحو القمر!». إذ يستطيع العاقل مثلاً استيعابَ وإدراكَ واستشرافَ سلوك القرصان لأنه يخضع لآليّةٍ عقلانية، ولبرنامجٍ معروفٍ مسبقاًيبحث عن الكسب الأنانيّ. لكن لا يمكن التفسير العقلاني لما سيقوم به الغبي وتلافيه مُسبَقاً أو الدفاع عن النفس ضدّه أوالردّ عليه، لأنه لا يخضع غالباً لاحتمالاتٍ منطقيّة أو لبرنامجٍ عقلاني. لعل مقولة آينشتاين: «ثمّة شيئان لا نهائيا الكبر: الكون والغباء الإنساني. لكني لا أمتلك القناعة المطلقة فيما يتعلّقبلانهائية الكون»، ومقولة تشارلز ديكنز: «يستطيع المرء أن يواجه ما يريد، إذا ما تسلّح بالغباء والمقدرة على الهضم»،شديدتا التعبيرية في هذا المضمار. ولعل لذلك أيضاً، كما لاحظتُ، يلجأ بعض الماهرين من لاعبي الشطرنج عندما يلعبونه مع برنامج كمبيوتر يوشك علىهزيمتهم، بإرباكهِ في لحظةٍ ما والانتصار عليه أحياناً بفضل أدائهم لِنقلةٍ «غبيّةٍ» نسبيّاً وغير خطيرة في نفس الآن، لميتوقّعها البرنامج، العقلانيّ جدّاً، الذي يوجِّهُ نقلات الكمبيوتر!... يُساعد ذلك أحياناً على تغيير مجرى المباراة بالفعل،ويُذكِّر أيضاً بقول تشيلر: «ضد الغباء، حتّى الآلهة تحاربُ عبثاً!»... تُلاحظ الدراسة أن العقلاء، بما فيهم الأذكياء والقراصنة، يُقلِّلون دوماً من تقدير دور الأغبياء، يتعاملون معهم براحةبال، ولا يستطيعون الإدراك المسبق للخطورة الناجمة عن سلوكهم. ذلك خطأٌ فاحش لإن القانون الخامس الرئيس في دراسة سيبولا ينصّ على أن الغبيّ أشدّ خطورةً من القرصان. هو (أيالغبي) أخطر الشرائح الأربع دون منازع!... فإذا كان أفراد المجتمع كلّهم قراصنةً «نظيفين» مثلاً، لما هُدِرت ثرواته، أي: لكان بدون خسائر، لأن نفس خسارة هذاالفرد مكسبٌ لذاك. لكن الخسائر الناجمة عن سلوك الأغبياء، لا سيّما إذا كانوا في قيادة الحكم والجيش، لا يمكن تقديرها مسبقاً، ولا حدّلفداحتها غالباً... ناهيك عن أن الأغبياء تمكّنوا دوماً طوال التاريخ من احتلال مواقع قيادية في رأس السلطات والجيوش، مما سبّب كلَّمحنات وكوارث البشرية. هم أيضاً دوماً الأكثر ثقةً بِصوابهم وبأنفسهم! تؤكّد ذلك تجربةٌ قام بها باحثان أمريكيان، بعد موت سيبولا، تتلخّص فيتوجيه قائمةٍ محدّدة من الأسئلة كامتحان في مجالٍ ما، لِشرائح مختلفة من الناس. نتيجة التجربة: «من لا يدرون أنهم لا يدرون»، كما يقول الباحثان بالحرف الواحد، ليسوا فقط أسوأ من يجيب على هذهالأسئلة، لكنهم أيضاً أكثر من يعتقد، قبل رؤية نتائج الامتحان، أن إجاباتهم صائبة. في حين أن تقدير الأذكياء الذاتيلِصحة إجاباتهم، قبل رؤية النتائج، أقلّ ثقةً بالصواب!... خلاصة القول: في ضوء القانون الخامس، ليس ثمّة ما هو أهمّ من الحذر من الأغبياء. عرقلةُ وصولِهم إلى السلطةواتخاذ القرار، وتقليص تأثيرِهم على حياة الشعوب قضيّةٌ مصيرية، ذات أهميّةٍ حاسمةٍ مفصليّة... فما يُميِّزُ الدول المتطوِّرة عن الدول المتخلِّفة ليس قلّة نسبة الأغبياء فيها بالمقارنة بالثانية (النسبة ثابتة واحدةٌ فيالاثنتين)، لكن كون نسبتهم في الدوائر الفاعلة والمؤثِّرة والحاكمة فيها أقل من الثانية بكثير... ففي الدول المتخلفة والمتدهورة تتزايد نسبتهم في السلطة بشكلٍ ملحوظ، بجانب نسبة فصيلةٍ فتّاكةٍ جدّاً: «القرصاناتذات الميول الغبيّة» التي تتكاثر هناك بشكلٍ خاص كما لاحظت الدراسة أيضاً، حيث تلعب الانقلابات العسكريةوالتوريثُ العرقيّ والدين دوراً خاصّاً في تنمية ذلك، كما لعبت نفس الدور في الدول المتقدّمة قبل نهوضها عقب الثورةالصناعية... تتناغم هذه النتيجة كثيراً مع مقولة الفراهيدي شديدة العمق والروعة، لا سيما كلمته الأخيرة: «فاحذروه!» التي تُكثِّفكلّ دراسة سيبولا (الممتعة جدّاً قبل كونها مفيدةً جدّاً!)... استدراك: لا يعفي هذا الكتابُ سيبولا من احتمال انتمائه لتلك الشريحة الغبيّة التي لا يعشقها الخليل الفراهيدي كثيراً. ولايعفيني هذا المقال من نفس تلك البليّة قبل كل شيءٍ بالتأكيد. ولا يعفي ذلك مولانا الفراهيدي قبل هذا وذاك!...