أتابع الكتابة عن مصر في عهد مبارك. قلت لك إن توجهات العهد والخطوط العريضة لسياساته صحيحة، فأين الخلل الذي جعل التجربة غير مرضية للرأي العام؟!.. السوق الحر قد يقترف معجزة، صنعها بالفعل في العديد من البلدان، لكن ليس وحده، لا بد من توافر معادله المكمل، سيادة القانون على الإدارة، إن أردت حرية عليك قبولها مع قرينها (القانون) الذي تنعدم بدونه. تراجع دور القانون المطعن الرئيس على عهود الجمهورية الأولى، التي سادها مبدأ النمو الاقتصادي أولًا وأخيرًا وكل ما عداه جانبي وهامشي. هذا لا يعني أن ما سبقها من عهود واحة للقانون، إلا أنها شهدت وضع حجر أساسه، وتطوراته ولو ببطء، فجاءت الجمهورية الأولى لتعود بذلك إلى الوراء. نقطة ضعف عهد مبارك عدم اقتناعه بأن الإصلاح الاقتصادي يجب أن يقترن بالإصلاح الإداري. مفصلان على وجه الخصوص شوّها إصلاحات العهد، الأول معايير وإجراءات بيع كل من مؤسسات القطاع العام الإنتاجية وأراضي الملكية العامة، الثاني نظم الإقراض والتمويل البنكي. كلاهما منح فرصًا خرافية للمحاباة والإثراء بلا سبب وجيه، ولنمو علاقة ملتوية من وراء ستار بين السلطات الإدارية والأسواق. وكلاهما راجع إلى ضعف سيطرة القانون على الإدارة، وإلى البحث عن حلول للمشكلة الاقتصادية مع عدم الاعتراف بالمشكلة الإدارية. لا حاجة للاسترسال لأن الاقتصاد لم يك السبب الرئيس وراء شيوع مشاعر التذمر، الملفت شيوعها على غير المألوف في الطبقات الثلاث، العليا والمتوسطة والدنيا، لا الطبقة المتوسطة وحدها الميالة بطبيعتها إليه، هذا بحد ذاته دال على أن مستويات المعيشة لم تك السبب الرئيس للتبرم، ولكل طبقة من الثلاث أسبابها، وجميع الأسباب رغم اختلافها راجعة إلى التلكؤ على مسار بناء الدولة الحديثة، هذا المسار حالة خاصة، وأحيانا استثنائية في كل مجتمع على حدة، تقرره العلاقة التفاعلية بين المجتمع والنخبة التي تديره. في المراحل الأولى تدفع النخبة المجتمع دفعًا على مسار التحديث، فيما أسمّيه مرحلة اعتساف التاريخ!، بتطبيق أفكار جديدة على وعاء اجتماعي لم يطورها بذاته، فيما يشبه اعتساف وقائع لم ترهص لها مقدمات. في مرحلة تالية تملى تهيؤات المجتمع أحداث وإيقاع المسار، عندما يتهيأ المجتمع بفعل تطوراته الذاتية لمزيد من الجرعات، في عشرينيات القرن الماضي بلغت التجربة المصرية الفاصل بين المرحلتين، مرحلة اعتساف التحديث ومرحلة التجاوب مع احتياجاته، فإذا لم يتجاوب معها بإيقاع مناسب أمكن أن نُسمِّي المرحلة الأخيرة مرحلة احتباس التاريخ، وهو الاسم الذي يناسب التجربة المصرية منذ الحرب العالمية الثانية إلى وقتنا هذا.. أنا ممن يظنون بأن الرئيس كان حسن النية صادق الإخلاص، وأن شيئًا ما منعه عن تمييز المشكلة الأساس، أو أنه رآها ولم يؤمن بأن حلها المنطقي هو الحل الصحيح، أو أنه آمن به ورده عن الأخذ به صعوبات وهواجس تطبيقه. لأننا لا نعرف الحقيقة، لا سبيل لنا إلا الاحتمالات. للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (32) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain