ولكن بشروط يجب أن يوافق عليها أولا رئيس البلاد جوزيف كابيلا. وبعدها بقليل, خرج قائد الجيش الأوغندي أروندا نياكايريما بتصريحات أخري تؤكد إذعان المتمردين للانسحاب ولكن...بدون شروط.. فهل يعني هذا التضارب ظهور المزيد من العثرات التي تعرقل الجهود الدولية المكثفة واحدة تلو الأخري وتؤكد أن هذا الصراع لن يجلب في النهاية سوي المزيد من الدماء والفقر؟ أم ستخيب آمال الطامعين هذه المرة بشكل نهائي وتتوقف حلقة النزاع والفوضي المفرغة بين المتمردين والحكومة التي لا يكون ضحيتها سوي المستضعفين والمجبرين علي الحياة وسط هذه الظروف؟ وأعلن المسئول السياسي للمتمردين جان ماري رونيجا أنهم اشترطوا للانسحاب الشروع في مفاوضات وطنية مع الحكومة, وإطلاق سراح المساجين السياسيين وحل لجنة انتخابات قام كابيلا بتشكيلها سابقا. من جانبها أكدت الحكومة الكونجولية أن الموافقة علي الانسحاب جاءت دون شروط وستكون سريعة وذلك بعد تهديد قائد سلاح البر الكونجولي الجنرال فرانسوا أولينجا بشن هجوم مضاد علي متمردي الحركة إذا لم ينصاعوا بل وصفت أي شروط أخري من جانب المتمردين بأنها مهزلة. أما قادة دول المنطقة فقد اعتبروا أن الموافقة علي الانسحاب والتخلي عن محاولات الإطاحة بالحكومة جاءت نتيجة لاجتماعهم الطارئ لدول منطقة البحيرات العظمي بوسط إفريقيا في العاصمة الأوغندية كمبالا يوم السبت الماضي الذي طالبوا فيه المتمردين بالخروج من جوما ومنحوهم مهلة نهائية حتي الاثنين الماضي, أي قبل إعلان الموافقة ب24 ساعة. وكأن هذا الاجتماع كان فريدا في قراراته أو أنه كان الأول والأخير من نوعه في تاريخ المفاوضات الدولية المكثفة الجارية منذ سنوات لحل الأزمة! وبمعني آخر, فبينما يشترط المتمردون موافقة واضحة من الرئيس جوزيف كابيلا قبل الانسحاب بدعوي تحسين ظروف عيش الكونجوليين, كررت الحكومة أن الانسحاب من جوما ضرورة لا بد منها قبل أي مفاوضات. ويفترض أن ينسحب متمردو إم23 إلي مسافة20 كيلومترا شمال جوما, وهي كبري مدن إقليم شمال كيفو. وفي المقابل, وعدت الحكومة الكونجولية بأخذ مطالب المتمردين المشروعة في الاعتبار, كما جاء في قرارات قمة العاصمة الأوغندية. وعلي الفور نفت كل من أوغندا ورواندا اتهامات الأممالمتحدة لهما بدعم المتمردين في الكونجو الديمقراطية المجاورة. وفي خضم الأحداث حاولت الدولتان تخطي تقرير الأممالمتحدة الموثق الذي أثبت قبل أيام دعم رواندا عسكريا لمتمردي إم23 أو جيش الكونجو, لدرجة أن وزير الدفاع الرواندي الجنرال جايمس كاباريبي يقود بنفسه في واقع الأمر حركة التمرد. وذكر التقرير تفصيليا أن قادة هؤلاء المتمردين يتلقون أوامرهم مباشرة من رئيس الأركان الرواندي الجنرال تشارلز كايونجا الذي يتلقي بدوره الأمر من وزير الدفاع الرواندي كاباريبي. وبالطبع أورد التقرير كيف زودت كيجالي المتمردين بالأسلحة الثقيلة والمعدات العسكرية وساعدتهم في تجنيد المتطوعين. وبينما لعب المسئولون الروانديون دورا مهما في انبثاق حركة التمرد وفي مساعدتها في عملياتها العسكرية سمح الأوغنديون للمتمردين بفتح ممثلية سياسية في كمبالا استطاعوا من خلالها تعزيز علاقاتهم بالخارج. ولم يكتف التقرير بذلك بل كشف عن عملية تنسيق الأدوار, حيث إن الجنرال الكونجولي السابق بوسكوا نتاجاندا المعروف باسمالمدمروالصادرة كذلك بحقه إدانات دولية, هو الذي يدير العصيان علي الأرض بينما يضطلع زعيم المتمردين العقيد سلطاني ماكينجا- الذي تمت ترقيته إلي رتبة جنرال مؤخرا- بمهمة التنسيق مع المجموعات المتمردة الأخري. وتنفي رواندا علي الدوام تلك الاتهامات, لكن مازاد الطين بلة هي تصريحات جان ماري رونيجا رئيس المتمردين قبل أيام, التي تحدث خلالها خصوصا عن تعاونه مع القوات الديمقراطية لتحرير رواندا, وهي حركة تمرد من عرقية الهوتو ترتكب تجاوزات في شرق جمهورية الكونجو, وتبحث كيجالي عن بعض عناصرها لتورطهم في إبادة التوتسي في رواندا سنة.1994 والمفترض أن تنتشر قوة محايدة بحلول الشهر الحالي لقتال المجموعات السلبية بما فيها المتمردون والقوات الديمقراطية لتحرير رواندا, الأمر الذي يهدد بتفاقم الأوضاع. ويبدو أن شيطان الحرب الذي اتخذ من رواندا قبل18 عاما مقرا مازال مصمما علي استكمال دوره بنجاح في الكونجو المجاورة حين عبر أكثر من مليون من عرقية الهوتو الحدود إلي الكونجو للفرار من حرب الإبادة في رواندا. ومنذ ذلك الحين غزت رواندا أو عرقية التوتسي-التي ينتمي إليها الجنرال السابق نتاجاندا- جارتها مرتين بحجة أنها تحاول التصدي لمتمردي الهوتو الموجودين في الكونجو. وتضم إم23 مقاتلين سابقين في جماعة توتسية متمردة أدمجت في الجيش النظامي بالكونجو الديمقراطية كجزء من اتفاق سلام وقع عام2009, ويؤكد المتمردون أنه لم يطبق بشكل كامل أبدا. ولم تكتف جمهورية الكونجو بما مرت به خلال الفترة من1994-2003 مع التوتسي من رواندا فيما عرف باسمالحرب العالمية الأولي في إفريقيا الذي أودي بحياة5 ملايين شخص, بل تعمقت شوكة المتمردين منذ إبريل الماضي في شرق البلاد وبالطبع لم يسلم المواطنون من عمليات القتال بين الحكومة والمتمردين وتنوعت المآسي بين القتل والاغتصاب والتجنيد القسري والنزوح الجماعي لنحو500 الف شخص من بيوتهم. ولم تستطع المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة الوصول للضحايا إلا إلي مخيم واحد للنازحين من مخيماتها ال31 في كيفو شمالي البلاد, وهي تؤوي مجتمعة أكثر من مائة ألف لاجئ. والمستعمرة البلجيكية السابقة التي كانت تعرف سابقا بزائير إبان حكم الدكتاتور موبوتو سيسي سيكو الذي أطيح به عام1997, لا تزال أقل دول العالم نموا رغم غناها بالكوبالت والزئبق والألماس والذهب والكولتان, أحد العناصر الرئيسية التي تدخل في صناعة الهواتف النقالة. ورغم ثراء مواردها الطبيعية التي قد تجعلها في مصاف أفضل الدول الغربية لكن هذه النزاعات التي لا تنتهي ترمي جمهورية الكونجو من هوة إلي أخري أكثر عمقا ودون أن ينتبه أحد إلي الدرس حتي الآن. صحيح أن معظم أجزاء البلاد قد بدأت تتعافي ببطء شديد من آثار الحروب وشهدت انتخابات رئاسية ديمقراطية لكن النزاع بين حكومتي رواندا و كينشاسا مازال يقوض محاولات السلام والاستقرار. ولم تتمكن قوات حفظ السلام الدولية التي تعد الأكبر من نوعها في العالم والمقدرة ب20 ألف جندي والمتمركزة في جمهورية الكونجو منذ10 سنوات من القيام بدور فعال في هذا النزاع ووقف أعمال العنف.. فإلي أي مدي سيستمر هذا الصراع العنيد بعد كل ما حصده من أرواح وخسائر؟