تناثرت قطرات المطر الخفيف على الزجاج الخارجي للمقهى، فحجبت إلى درجة ما رؤية الطريق عمن بداخله، حين فاجأني رفيق بواحدة من شطحاته قائلا: التطور الطبيعي للحديث عن النوم الحديث عن الموت، ففي الأساطير الإغريقية الموت Thanatos هو توأم النوم Hypnos، أمهما «الليلة» وأبوهما «الظلام»، الأساطير كما تعلم هي طريقة الأقدمين في عرض فلسفاتهم، كونهما توأم يعنى أنهما شديدا الشبه حتى ليكادا يكونا مظهرين لشيء واحد، ألا يدعونا هذا إلى الظن بأن الموت كالنوم حالة من الغرق في اللا شعور؟!.. حركت كتفي علامة اللا أدرى وقلت: لا يقين إلا في الدين أو العلم، التصورات التي لا تختبر بأي منهما ظنون، تبقى في طي الاحتمالات غير المؤكدة إلى الأبد.. قال: كذلك ولا المدارس التحليلية في علم النفس علماً بالمعنى الدقيق.. قلت موافقاً: ليست علماً، لكنها مسببة بملاحظات واقعية وإن لم تقدم استنتاجات مؤكدة، ولا سبيل إلى ملاحظات كهذه في موضوع كالموت. يقول المتنبي ولو إنه ليس حجة في الفلسفة في قصيدته الأشهر وصف الحمى (فإن لثالث الحالين معنى.. سوى معنى انتباهك والمنام)، كأنه يفترض ثلاث حالات للوعي (اليقظة، والنوم، والموت)، معتبراً الأخير ثالث الحالين، شيئا آخر غير النوم.. قال رفيق: فنان آخر هو شكسبير في مشهد من مسرحيته هاملت يقول على لسان هاملت الذي يناجى نفسه (ما فزعي من الموت وما هو إلا نوم طويل)، ثم ما يلبث أن تعاوده وساوسه فيرتعد قائلا: (لكن الكوابيس تعترينا أثناء النوم، فما أدراني ما أصادف منها حين الموت).. قلت: يحق لهاملت أن يرتعد من كوابيس لا نجاة منها بيقظة، طوبى للفنانين يجوز لهم قول ما يشاءون، شطحاتهم مباحة.. علق رفيق: لا يحاسبهم أحد أيان حلّقوا، طلاقة التحليق تتيح لبعضهم الإتيان بفرائد تستحق التأمل، من ذلك لوحة الرسام جون وليام الرائعة «سناتوس وهيبنوس»، وفيها يتجاور ميت ونائم، هل رأيتها؟.. أجبت: نعم متاحة على النت.. قال: إبداع، لا تخطيء العين من الميت ومن النائم، وترى فيها أن النائم أقرب إلى رائي اللوحة من الميت، وأن الميت أكبر حجماً من النائم، كناية عن أن النوم في وجه منه موت صغير، وأن الميت يحيط النائم بأحد ذراعيه، كأن الموت يحتوي النوم بجزء منه.. هززت رأسي مؤكداً: من روائع الرسم حقا.. طالعنى مبتسما كتمهيد لما سيقول، ثم تساءل: ما دام شبيه بالنوم لماذا يخشاه الناس؟.. أجبت: لأنهم يحبون الحياة، ولا أدري على ماذا.. علق: من أجل هذا قاعد تكتب عن أزمة الوجود، التى لا يراها إلا مكتئب.. رددت: ليس مهما إن كانت مرئية، المهم هل هى حقيقية أم متوهمة، أخطر الأزمات تلك التى لا يراها المأزوم. اندفع رفيق كعادته يغير الموضوع بلا مناسبة متسائلاً: ترى ما سبب اكتساء شعر المتنبي الذي قرضه بمصر بمرارة غير ملحوظة فيما قرض خارجها؟.. أجبت: لا شأن للمكان بحالته المزاجية، المسكين شاعر فحل وشخصية ضئيلة، لأنه لم يوفق إلى اكتشاف ذاته، وهذه مشكلة كثيرين، علّنا نتحدث عنها أو عنه فى صباح آخر. للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (32) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain