صدور ثلاثة كتب جديدة للكاتب اليمني حميد عقبي عن دار دان للنشر والتوزيع بالقاهرة    عيد العمال العالمي في اليمن.. 10 سنوات من المعاناة بين البطالة وهدر الكرامة    العرادة والعليمي يلتقيان قيادة التكتل الوطني ويؤكدان على توحيد الصف لمواجهة الإرهاب الحوثي    حكومة صنعاء تمنع تدريس اللغة الانجليزية من الاول في المدارس الاهلية    فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    الهجرة الدولية: أكثر من 52 ألف شخص لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الفرار من بلدان تعج بالأزمات منذ 2014    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    عبدالله العليمي عضو مجلس القيادة يستقبل سفراء الاتحاد الأوروبي لدى بلادنا    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    عن الصور والناس    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دبي تطارد الجوع والجهل والعنصرية من أدغال أفريقيا إلى ثلوج أوروبا

جلست جاني على جانب الطريق تحاول اسكات طفلها الذي ألح بالبكاء، بثدي ضامر لا حليب فيه، لم تتراجع عندما رأتنا، عليها أن تسكت الطفل سريعا وتكمل طريقها الى المدرسة لاصطحاب بناتها الأربعة إلى المنزل الذي يبعد 12 كيلومترا، ولا تستطيع تركهن ليقطعن كل هذه المسافة البعيدة وحدهن.
جاني واحدة من نساء بوتاجيرا على بعد 350 كيلومترا عن العاصمة الأثيوبية أديس أبابا، التقتها «البيان» هناك، على قارعة الطريق بين الجبال الوعرة، في رحلتها مع «دبي العطاء» التي ذهبت إلى أقاصي الأرض لتوفير التعليم لأطفال لم يسمع به أباؤهم من قبل فوجدت نفسها أكثر من ذلك تطارد الجوع ومآسي الحروب من أدغال افريقيا إلى ثلوج أوروبا.
المسير الشاق والانتظار هو شغل جاني اليومي، ولكنها تفعله بسعادة لأنها لم تعد هي وزوجها يحملان هم طعام الفتيات فالوجبة التي توزعها مدرسة «دبي العطاء» تكفيهن لليوم التالي.
بل تتمنى لو كانت هناك مدرسة من قبل، فقد مرت عليهم ايام لم يذوقوا فيها طعم الاكل ولم يشربوا نقطة ماء بسبب الجفاف والقحط الذي حل بالمنطقة وهو ما يبدو جليا على صحة البنات اللواتي تحولن الى هياكل عظمية.
وأكثر من ذلك تتمنى جاني لو كانت هناك مدرسة في زمانها فقد عاشت طوال حياتها في بيت من القش لم تخرج من المنطقة اطلاقا ولا تحمل اي اوراق ثبوتية كما ان أولادها غير مسجلين ولم يولدوا بمستشفيات او مراكز صحية وهذه مشكلة كبرى حيث ان ما يقرب من 35% من الامهات يمتن اثناء الولاة ويعيش اطفالهن ايتاما ان كتبت لهم الحياة.
ما رأيناه هناك في اثيوبيا كان من القسوة بما يؤكد ما قاله طارق القرق المدير التنفيذي ل «دبي العطاء» عندما سألناه قبل أن نبدأ الرحلة عن الاحصاءات: «دعك من الاحصاءات.. الحقائق التي شهدتها شخصياً على أرض الواقع في زياراتي الميدانية إلى بعض أكثر البلدان فقراً لا تحتاج أي إحصاءات لإظهار المحنة التي يمر فيها الناس ولاسيما الأطفال».
وعبر رحلتنا معه في اكثر من بلد، تلونت الوجوه التي تشابهت جميعها بعلامات المحنة حول العالم بأسره.. 69 مليون طفل في مرحلة التعليم الأساسي في البلدان النامية يذهبون الى المدارس وهم يعانون من الجوع، بينهم 23 مليون طفل في أفريقيا وحدها.
مجرد رقم قد نقرأه ونمضي، لكن معايشة مأساة طفل واحد من هذه الملايين تجعلنا نقف مربوطي اللسان من دون قدرة على الوصف.
أمراض وعلل وجوع وجهل، مأساة مركبة، وحين طرح التعليم كحل سحري لهذه المشاكل مجتمعة، كانت المعضلة: كيف للأطفال الذين لا يحصلون على التغذية تلقي التعليم واستيعاب دروسهم؟ العلاقة إذن متبادلة وحلولها معقدة.
عصفورا التعليم والوجبة بحجر
وفي واقع الأمر فان الجوع هو الذي دفع الطفل ابراهيمي الذي التقيناه في اثيوبيا للقدوم إلى المدرسة، فهو لم يتورع عن الاعتراف بأنه جاء إلى هنا فقط من أجل الوجبة التي توفرها «دبي العطاء»، كحل ابداعي منها تجذب من خلاله الأطفال لتلقي العلم.
فيما أظهر زميله جانو ذكاء أكثر وهو يخبرنا انه جاء ليضرب عصفورين بحجر، تلقي العلم والحصول على الوجبة، ويدرك في النهاية أن التعليم هو الحل لمشكلة الجوع من أساسها فهو كما يقول لا يتطلع أن يصبح وزيرا وإنما هدفه في الحياة ان يصبح معلما لتعليم ابناء قريته وإنقاذهم من حالة البؤس.
الوجبة المدرسية التي تقدم للطلاب هناك عبارة عن ذرة مهروسة مخلوطة بالماء، ويضاف اليها بعض الفيتامينات والادوية المضادة للديدان المعوية، وهذه الوجبة تتكرر كل يوم صيفا وشتاء.
مدرستهم متهالكة تساقطت اجزاء من سقفها، فصولهم بلا تهوية ليس فيها سوى شباك واحد صغير لم يمنع تراكم العفونة والرطوبة، ومنذ دخولك إليها تصاب بنوبة ربو، حقائب المحظوظين منهم اكياس سوداء من البلاستيك او القماش، وكتبهم داكنة اللون مهترئة من كثرة الاستعمال.
كل ذلك لم يمنعهم من التعبير عن فرحتهم بافتتاح المدرسة والاحتفاء بنا لدى وصولنا، فقد تفاجأنا بسكان القرى المجاورة وقد اصطفوا على جانبي الطريق للترحيب بوفد «دبي العطاء»، منهم من امتطى حصانا وراح يؤدي حركات بهلوانية امام موكب السيارات التابع للأمم المتحدة ومنهم من حمل اعلام الامارات و«دبي العطاء».
رحلة محفوفة بالمخاطر
الرحلة إلى هنا لم تكن يسيرة، عشنا خلالها بعضا من معاناة هؤلاء السكان، شققنا طريقنا وسط الجبال الوعرة في سيارات تابعة للأمم المتحدة وفي اليوم الاول اجبرنا على العودة بعد قطع منتصف الطريق لان القوانين المحلية تحظر على سيارات الامم المتحدة السير بعد الخامسة مساء بسبب العصابات المسلحة وقطاع الطرق وعدم توفر الامن والامان، مما اضطرنا في اليوم التالي الى مغادرة الفندق الساعة الساسة صباحا. على طول الطريق سهول تمتاز بتربتها الحمراء التي تعد من اخصب انواع التربة الزراعية ولكنها تركت من دون استغلال.
في بعض مناطق العاصمة تقيم النخبة قصورا ومدارس تدرس جميع اللغات، ولكن على الجانب الاخر المنازل عبارة عن اكواخ من القش لا تقي سكانها من حر الصيف والبرد القارص، في دلالة واضحة على ان البلد ما زال يعيش عصر العبودية والاستبداد، ووسط هذه الأكواخ تنتشر الأمراض السارية بكثرة وقبل سفرنا الى هناك طلب منا اخذ الاحتياطات ومن ضمنها ست تطعيمات ينصح بأخذها لعدم انتقال العدوى.
هذا هو الواقع المرير في بلد عانى وما زال من اثار الحرب مع دول الجوار، ولا تترك له الأمية أي أمل في معالجة هذه السلبيات المتراكمة والقاتلة.
أمل من رحم الألم
ولكن يبدو أن الأمل بالفعل يولد من رحم المعاناة، بل ان ما يحمله سروجي مدير المدرسة في اثيوبيا أكثر من ذلك فهو يتحدث بحماس وثقة كبيرين، «العلم يبني بيوتا لا اساس لها .. والجهل يهدم بيوت العز والجاه»، مستشهدا بهذا البيت من الشعر العربي يؤكد لنا أن الاحوال في القرية ستتغير خلال سنوات على يد هذا الجيل.
مستقبل معلق على ضرع معزة
في غانا لا تختلف الأوضاع عن اثيوبيا، وهناك كان الموت أول من استقبلنا فقد ماتت ابنة فاطمة في ولادتها الأخيرة لتترك خمسة أطفال في عهدة جدتهم.
واثناء محاولتها حلب معزة لم يتبق منها سوى العظم بسبب جفاف الاراضي الزراعية، نظرت الجدة فاطمة إلينا متهكمة وهي تقول: مستقبل هؤلاء مثل ضرع معزة لا حليب فيه، وتساءلت كيف لهم ان يفكروا بالتعليم وسط هذا الجوع.
وفي الحقيقة، ليس الجوع هو عائق التعليم الوحيد هناك، برغم أنه السبب الأكبر، فوالد خيرية ابنة العشرة أعوام، وهو أب لثمانية أطفال، تحدث بصراحة عن حالات اغتصاب وتحرش جنسي تتعرض له الفتيات من زملائهن وحتى من المدرسين أنفسهم، ولذلك تدعم عادات حياة الصحراء التي يعيشها اعتقاده بأن الفتيات لا يجب أن يذهبن للدراسة على الاطلاق.
فقر وجهل .. وبطالة
الفقر والجهل في غانا وجهان لعملة واحدة، والأمة الجائعة لا يمكن أن تفكر بالإنتاجية والإبداع ،فالأمية تنهش في جسد المجتمع، والبطالة جرفت الشباب إلى احتراف ما يتنافى مع أخلاقهم وأعرافهم، والموت يتربص بالمسنين المتهالكين من الجوع والأمراض.
استغرق وصولنا إلى هناك 8 ساعات قبل ان ننتقل الى منطقة ابوكو بى في غانا أيست، حيث يكتشف المرء هول الفاجعة، بلاد تحتاج في قواميس بعض البلدان الى معجزة للنهوض.
عبدو رحيم، واحد من قاطنيها وأفضل من يصفها، يقول: الأراضي السهلية الخصبة التي ترونها على امتداد البصر تحولت الى مقابر للبشر والدواب، والغيوم التي ترونها تسر الناظرين أشبه ما تكون بالمرأة العاقر.
رحيم اب لسبعة اطفال يعيشون يومهم على وجبة يضطر ان يقطع اميالا لتوفيرها، وعندما نسأله عن المعيشة، يشير نحو كوخ القش، «هنا نعيش نتقاسم هذا الكوخ مع الاغنام التي لا تجد ما تأكله ايضا بعد ان تكالبت علينا ظروف القهر جميعها».
ويستنكر حديثنا عن تعليم أطفاله: «الطفل الجائع لا يمكن ان يفكر الا بالأكل»، يقول متبعا كلامه بتنهيدة.
لكن حميد الله مدير المدرسة الابتدائية رأيه مختلف تماما، ويحمل ثقة كاملة بأن رياح التغيير قادمة لا محالة ويبدي حماسه بتذكر مقولة نابليون الشهيرة عندما قيل له ان حبال الالب ستمنعك من التقدم فرد على الفور يجب ان تزول عن الارض.
ومقومات النهوض من هذا الواقع المرير متوفرة، كما يرى، بروميلا بوري الذي يعد من اعيان منطقة غانا ايست، فالأراضي الزراعية كفيلة بأحداث نقلة نوعية في عملية التنمية وانقاذ العباد من الفقر، ولكن ذلك يحتاج الى تمويل من الدول المانحة، والزامية التعليم لانه السبيل الوحيد الى التقدم والتطور يقول.
من الصحراء الى وسط أوروبا
واقع مؤلم وخطير للتعليم في افريقيا كشفت عنه الرحلة التي رافقنا خلالها «دبي العطاء» في المناطق التي تجاهد لنشر التعليم فيها، ولكن أمام فداحة كل ما نراه كنا نقول لا بأس نحن في القارة السمراء وهذا واقعها، لكن الأقسى كان عندما رأينا أمرا شبيها وسط أوروبا، هناك في البوسنة والهرسك..
وبرغم الاختلاف الظاهر في البوسنة، حيث لا مكان للفقر، ولكن التفرقة العنصرية بين الاعراق اكثر ايلاما واشد وقعا، وبمجرد الخروج من المطار يشتم المرء رائحة المذابح والابادة الجماعية، وعلى جانبي الطريق مقابر تفوح منها رائحة المجازر.
الحرب الطائفية خلفت آثارا كارثية مدمرة على مستقبل التعليم ووفقاً للرئيس التنفيذي لمؤسسة دبي العطاء، طارق القرق، فإن نحو 13% فقط من الأطفال بين عمر أربع إلى خمس سنوات مسجلون في التعليم الاساسي في البوسنة والهرسك، وهي النسبة الأدنى في أوروبا وآسيا الوسطى، إذ لا يتمكن 87% من أطفال هذا البلد من الحصول على تعليم مبكر.
وعلى الرغم من وجود قانون في البوسنة والهرسك يلزم حصول الاطفال بين اربع و6 سنوات على 150 ساعة تعليمية قبل المرحلة التأسيسية، إلا أن الظروف المالية لهذا البلد لا تسمح بتأمين تعليم متساوٍ للجميع في هذه المرحلة، وهو ما يعد مصدر قلق كبيراً للمنظمات المعنية بحقوق الطفل، ويتطلب التدخل لتنفيذ إجراءات عاجلة.
في طريقنا الى منطقة فيسكو لزيارة احدى دور الحضانة، رأينا اثار الدمار الذي اجتاح هذ البلد، مباني مدمرة ما زالت على حالها في دلالة على ان اهلها جميعا قد قتلوا في حرب الابادة، ومقابر تحكي بطولات المدافعين عن سراييفو ، والبلد ما زالت تلملم جراحها رغم مرور ما يقارب 18 عاما على اتفاق دايتون الذي انهى الحرب بصورة لم تعد تقنع الطفل الصغير.
روضة البراءة
أخيرا وصلنا الى الروضة التي تضم 35 طفلا من مختلف الاعراق (مسلمون ومسيحيون وغجر او الروما كما يطلق عليهم)، يلعبون ويرقصون معا في براءة الاطفال، ولم تتسمم عقولهم بعقليات الآباء، ولكن ما تشكو منه ريسة بلدية فيسكو عمرا فابيش التي تنحدر من جذور اسلامية وما زالت ترتدي الحجاب لا بل وتفاخر به رغم محاربتها من قبل جميع المعارضين هو ضيق الحال وقلة الدعم الخارجي، لمنطقتها التي تضم 141 بلدية.
التعليم يعد إحدى أهم الوسائل لمواجهة الفقر، وتبرز أهميته في بلدان مثل البوسنة والهرسك، حيث تساعد برامج المساعدات الانسانية المخصصة للتعليم على تنمية رأس المال البشري فيها، إذ سيمكن الأطفال في 30% من المناطق في البوسنة والهرسك من الوصول إلى التعليم ما قبل المدرسي.
وما من شك ان برنامج "دبي العطاء " سيمهد الطريق لرفع نسبة الأطفال الملتحقين بالتعليم الاساسي ولاسيما أطفال الغجر الذين تتدنى نسبة من يحصل منهم على التعليم المبكر إلى 2% فقط، فضلاً عن الأطفال الذين يعانون تأخراً في النمو أو نوعاً من الإعاقة إلى نحو 30%.
الغجر .. معضلة أوروبا
التعليم في البوسنة يقوم على اساس التفرقة بين الاعراق فالغجر او ما يطلق عليهم «الروما»، كما تقول فلورنس بايور ممثلة اليونيسيف في البوسنة والهرسك، متخلفون في كل مؤشرات التنمية البشرية، و أكبر نسبة من التسرب من المدارس موجودة لدى ابناء هذه الفئة من الطلبة.
كما أن 4% فقط من أطفالها يحصلون على التطعيم اللازم للوقاية من الامراض، في حين ترتفع هذه النسبة لدى غيرهم من أبناء البلد الواحد إلى 64%.
مشكلة الروما (الغجر) كما تقول لا تخص البوسنة وحدها، بل هو ملف يضع كثيراً من الدول الاوروبية امام تحد انساني يتعلق بضرورة دمجهم في المجتمع، وجعلهم يحظون بفرص متساوية في التعليم والوظائف، وغيرها. معربة عن أسفها لعدم وجود جهد فاعل لحل مشكلة الغجر في أوروبا حتى اللحظة.
وتشاطرها وجهة النظر زميلتها نائبة ممثلة «اليونيسيف» في سراييفو، آني كلير دوفاني، حيث تقول " البوسنة والهرسك تعيش وضعاً سياسياً وإدارياً معقداً للغاية يصعب من مهمة اليونيسيف في هذا البلد، إذ يتسبب وجود كيانين سياسيين يتبعان اتحاد البوسنة والهرسك (البوسنة والهرسك وجمهورية صربيا)، إضافة الى تقسيم البلد إدارياً إلى 10 مقاطعات (كونتونات)، في غياب الفرص الحقيقية لإيجاد خطة تعليمية موحدة ومنسقة.
أضافت دوفاني أن المشكلة في البوسنة لا تتوقف عند الوضع الاداري المعقد، بل تصل إلى التفرقة المبنية على أساس العرق بين مكونات المجتمع، مشيرة إلى أن هذا الامر يضاعف من أهمية عمل دبي العطاء بالشراكة مع اليونيسيف، لأن البرنامج الحالي يركز على مواجهة العنصرية بين الاطفال، واشاعة ثقافة التسامح بين أبناء البلد الواحد، بعض النظر عن الدين أو العرق، متابعة أن برنامج التعليم المبكر ل«دبي العطاء» مهم للغاية، لأنه سينعكس ايجاباً على حياة الاطفال.
قرية في روضة
في اليوم التالي لزيارتنا الى البوسنة قمنا بزيارة الى قرية ماهويه في منطقة دوفيش، وفي طريقنا الى دوفيتش اخبرنا المترجم ان هذه المنطقة شهدت اعنف واشر س المعارك بين الصرب والمسلمين، راح ضحيتها عشرات العرب المقاتلين الابطال الذين سجلوا بدمائهم اروع الصور البطولية عبر التاريخ.
بيوت على جانبي الطريق ما زالت مدمرة ورائحة الموت تفوح من كل الاتجاهات لولا رائحة الاشحار التي تتغلغل في بعض الاحيان الى اعماق الرئتين .
وصلنا الى قرية ماهوية وكان علينا ان نترجل في جو ماطر وبارد لان المركبات لا يمكن ان تصل الى المنطقة، ووصلنا الى الروضة عصرا لنجد القرية بحالها داخل الروضة فالبرد القارص والاجواء الممطرة لا تسمح لتنقل الاطفال بمفردهم.
مديرة المدرسة بهية باتشش تقول: التعليم المبكر للأطفال يساعدهم على بدء حياة جديدة، ونحاول غرس القيم الانسانية والحضارية فيهم وابعادهم عن العنصرية والتعصب والطائفية، ويستفيد من البرنامج الأطفال الذين تزيد أعمارهم على خمسة أعوام، ويتلقون خلال خمسة أشهر، هي مدة البرنامج المخصص لكل طفل، تعليماً ملائماً يؤهلهم للدخول إلى المدارس، إضافة الى ترسيخ تقاليد المجتمع البوسني لديهم.
مع إيلاء اهتمام خاص بالأطفال الضعفاء، مثل أطفال الغجر والأطفال الذين يعانون تأخراً في النمو أو إعاقة ما.
وبحسب الأرقام الصادرة عن الأمم المتحدة، فإن 250 مليون طفل حول العالم على الأقل لا يستطيعون القراءة والكتابة والحساب بشكل جيّد، و57 مليون طفل غير ملتحقين بالمدارس.
واثناء تواجدنا في الروضة قالت رهيجة والدة احد الاطفال، الروضة مهمة جدا في حياة الاطفال لأنها تعلمهم على التسامح والعدل والمساواة، ونامل ان يجنبهم مستقبلا ما توارثه الاجيال السابقة التي جرت البلاد الى حرب ضرووس .
تستطرد: بعض الاطفال فقدوا اهاليهم بالكامل ويعيشون الان مع الاقارب او في بيوت تم تخصيصها لهم فما ذنب هؤلاء الاطفال ، علينا ان نعوضهم ما فقدوه وان نوفر لهم التعليم لإنقاذهم من براثن الجهل والامية حتى لا يعيشوا حياتهم عالة على الغير .
وبدأ البرنامج نشاطه فعلياً منذ اسابيع، ويستفيد منه 7000 طفل بوسني في 45 بلدة، يقع بعضها في مناطق نائية وبعيدة عن العاصمة.
ضمير فردي
أمام هذه المعاناة التي يرسم من خلالها الجوع والجهل والعنصرية، ثلاثية المستقبل المرعب للأجيال حول العالم، سعت مبادرات الضمير الفردي إلى موازنة الصورة، وفي مقدمتها «دبي العطاء» التي آمنت ان التعليم هو أقصر الطرق للتنمية.
هذه الصورة بجميع تفاصيلها، تضع تساؤلات كثيرة عن التعهدات التي قطعها زعماء العالم في عام 2000 حول تحسين فرص تعليم الاطفال في قارتي اسيا وافريقيا من خلال توفير التعليم الاساسي والابتدائي في عام 2015 لاعتباره من ضمن اهداف الالفية، والتي ذهبت ادراج الرياح ولم نعد نسمع عنها سوى الشعارات الطنانة والوعود البراقة.
التعليم سر تغلب كوريا على تاريخها المأساوي
سلسلة لا نهائية من الحروب مع دول الجوار في القارة الآسيوية على مدى التاريخ، آخرها كان الغزو الياباني لكوريا في عام 1910، وقد حاولت اليابان بوحشية طمس هوية كوريا والسيطرة المطلقة عليها إلى أن هُزمت اليابان في الحرب العالمية الثانية عام 1945 وأصبحت كوريا ضمن غنائم الحرب التي تقاسمتها دول التحالف وغيرها.
لم تنته المعاناة عند هذا الحد، بل كان قدر كوريا أن تدخل في الصراع من جديد من خلال سيطرة الاتحاد السوفييتي على نصفها الشمالي وسيطرة أمريكا على نصفها الجنوبي، وبسبب الحرب الباردة بين أميركا والاتحاد السوفييتي أصبحت كوريا إحدى مناطق الحرب بالوكالة فاندلعت الحرب الأهلية الكورية بين الجزء الشمالي والجزء الجنوبي في عام 1950 واستمرت ثلاثة أعوام طاحنة ومهلكة للكوريتين، ثم انتهت بالهدنة وتأسيس منطقة منزوعة السلاح، ثم الانقسام الرسمي بينهما.
كل هذه الظروف أوصلت كوريا لتكون واحدة من أقل دول العالم في متوسط دخل الفرد حيث كان في عام 1962 سبعة وثمانين دولاراً فقط، وخلال 50 سنة أصبح دخل الفرد الكوري أكثر من عشرين ألف دولار، والسر الذي يتفق الكوريون عليه في نهضتهم هو الاهتمام بالتعليم.
لأنه المجال الذي يجعل من الإنسان مورداً طبيعياً مستدام، ولذلك انعكس الاهتمام في التعليم على كافة مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
في أقل من 30 سنة تضاعفت ميزانية التعليم في كوريا أكثر من 155 ضعفاً، حيث قفزت من 300 مليون دولار إلى 47 مليار دولار! وكنتيجة طبيعية لهذا الاهتمام بالتعليم، تفوقت كوريا على المتوسط العالمي وعلى الدول المتقدمة في مؤشر تنمية الإنسان وتطورت اقتصاديا بشكل مبهر وحققت نموا عاليا في دخل الفرد وفي الناتج القومي وتقدمت بشكل مذهل في قطاع التقنية والابتكار والشواهد متعددة منها وصول شركة سامسونج للمرتبة الثالثة عالميا في الابتكار خلف ابل وجوجل.
ونجاح التجربة الكورية في التعليم يرجع إلى عنصرين أساسيين فالتعليم في كوريا مهنة مرموقة، تتمتع بمزايا اجتماعية ومالية عالية، تعتبر الخيار الأول لأفضل خريجي الثانوية، وينفق الأب والأم أكثر من نصف دخلهم على تعليم أبنائهم، وهي نسبة مرتفعة جداً تعكس مستوى الحرص والاهتمام بتعليم الأبناء.
التعليم في القارة السمراء وقيد الفساد
سلط تقرير منظمة الشفافية الدولية «الفساد العالمي: التعليم» الضوء على قضية الفساد في قطاع التعليم بعد اكتشاف حقيقة مزعجة تؤكد أن دورة التعليم بكافة مراحلها بدءاً من المرحلة الابتدائية وصولاً إلى التعليم العالي ليست محصنة ضد الفساد.
وأكد التقرير أن الفساد في قطاع التعليم في أفريقيا يعد عائقا خطيرا يعترض تحقيق التعليم الجيد لأهدافه مما يعرقل التنمية الاجتماعية والاقتصادية. وسجلت الإحصائيات التي أجرتها الشفافية الدولية أن 72% من الكاميرونيين و66% في غانا و37% من الكينيين يرون أن نظام التعليم فاسد أو عال الفساد.
أما في رواندا فقد أبدى 4% فقط من الروانديين اعتقادهم بفساد نظام التعليم ، وقد تم رصد اختلاس ما يقدر ب48مليون دولار من ميزانية التعليم فى كينيا خلال الفترة من عام 2004 وحتى 2009 وهو مبلغ يكفى لتوفير 11 مليونا و400ألف كتاب مدرسى للطلاب.
وفى تنزانيا أشار استطلاع بمشاركة 180مدرسة عامة أن ما يقرب من 37% من الأموال المخصصة للتعليم قد ضاعت! وفيما يتعلق بالانتهاكات الجنسية داخل المؤسسات التعليمية فقد سجلت الاستطلاعات البحثية التي أجريت بإحدى مدارس العاصمة البوتسوانية جبروني أن من بين 560 طالبة أكدت 112 منهن التعرض لضغوط لإقامة علاقات غير مشروعة مع المعلمين وأن 56 منهن قبلن بهذا الأمر نتيجة للخوف!
واقترح التقرير الالتزام الموسع بسيادة القانون وبالشفافية والثقة، فوجود مدونات سلوك فعالة للموظفين الحكوميين وآليات محاسبة قوية وإعلام مستقل يرصد حالات الفساد ومجتمع مدني نشط يقي المجتمع من الفساد في قطاع التعليم ويكافحه.
وهكذا بدا من الواضح أن قطاع التعليم في أفريقيا يحتاج إلى المزيد من الجهود لمكافحة الفساد حماية لمستقبل القارة الأفريقية ومستقبل شعوبها ومستقبل جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بها لتتمكن من التغلب على مثلث المشكلات المزمن - الجهل والفقر والمرض - الذي عصف بماضيها ويعرقل حاضرها ويهدد مستقبلها.
دبي للعطاء تنتشل 8 ملايين طفل من براثن الجهل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.