دربي مدينة سيئون ينتهي بالتعادل في بطولة كأس حضرموت الثامنة    تضامن حضرموت يحلق بجاره الشعب إلى نهائي البطولة الرمضانية لكرة السلة لأندية حضرموت بفوزه على سيئون    الارياني: مليشيا الحوثي استغلت أحداث غزه لصرف الأنظار عن نهبها للإيرادات والمرتبات    رعاية حوثية للغش في الامتحانات الثانوية لتجهيل المجتمع ومحاربة التعليم    مجلس وزارة الشؤون الإجتماعية والعمل يناقش عدداً من القضايا المدرجة في جدول أعماله    "مسام" ينتزع 797 لغماً خلال الأسبوع الرابع من شهر أبريل زرعتها المليشيات الحوثية    الصين تبدأ بافتتاح كليات لتعليم اللغة الصينية في اليمن    تشيلسي يسعى لتحقيق رقم مميز امام توتنهام    استشهاد أسيرين من غزة بسجون الاحتلال نتيجة التعذيب أحدهما الطبيب عدنان البرش    صواريخ الحوثي تُبحِر نحو المجهول: ماذا تخفي طموحات زعيم الحوثيين؟...صحفي يجيب    المنخفض الجوي في اليمن يلحق الضرر ب5 آلاف أسرة نازحة جراء المنخفض الجوي باليمن    انهيار حوثي جديد: 5 من كبار الضباط يسقطون في ميدان المعركة    نائب رئيس نادي الطليعة يوضح الملصق الدعائي بباص النادي تم باتفاق مع الادارة    شاب سعودي يقتل أخته لعدم رضاه عن قيادتها السيارة    كان طفلا يرعى الغنم فانفجر به لغم حوثي.. شاهد البطل الذي رفع العلم وصور الرئيس العليمي بيديه المبتورتين يروي قصته    الهلال يلتقي النصر بنهائي كأس ملك السعودية    تعز.. حملة أمنية تزيل 43 من المباني والاستحداثات المخالفة للقانون    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    توضيح من أمن عدن بشأن مطاردة ناشط موالٍ للانتقالي    أهالي اللحوم الشرقية يناشدون مدير كهرباء المنطقة الثانية    صدام ودهس وارتطام.. مقتل وإصابة نحو 400 شخص في حوادث سير في عدد من المحافظات اليمنية خلال شهر    ضلت تقاوم وتصرخ طوال أسابيع ولا مجيب .. كهرباء عدن تحتضر    قيادي حوثي يخاطب الشرعية: لو كنتم ورقة رابحة لكان ذلك مجدياً في 9 سنوات    الخميني والتصوف    نجل القاضي قطران: والدي يتعرض لضغوط للاعتراف بالتخطيط لانقلاب وحالته الصحية تتدهور ونقل الى المستشفى قبل ايام    انهيار كارثي.. الريال اليمني يتراجع إلى أدنى مستوى منذ أشهر (أسعار الصرف)    إنريكي: ليس لدينا ما نخسره في باريس    جماعة الحوثي تعيد فتح المتحفين الوطني والموروث الشعبي بصنعاء بعد أن افرغوه من محتواه وكل ما يتعلق بثورة 26 سبتمبر    جريدة أمريكية: على امريكا دعم استقلال اليمن الجنوبي    محلل سياسي: لقاء الأحزاب اليمنية في عدن خبث ودهاء أمريكي    بن الوزير يدعم تولي أحد قادة التمرد الإخواني في منصب أمني كبير    الرئيس الزُبيدي يُعزَّي الشيخ محمد بن زايد بوفاة عمه الشيخ طحنون آل نهيان    15 دقيقة قبل النوم تنجيك من عذاب القبر.. داوم عليها ولا تتركها    أولاد "الزنداني وربعه" لهم الدنيا والآخرة وأولاد العامة لهم الآخرة فقط    خطوة قوية للبنك المركزي في عدن.. بتعاون مع دولة عربية شقيقة    سفاح يثير الرعب في عدن: جرائم مروعة ودعوات للقبض عليه    يمكنك ترك هاتفك ومحفظتك على الطاولة.. شقيقة كريستيانو رونالدو تصف مدى الأمن والأمان في السعودية    مخاوف الحوثيين من حرب دولية تدفعهم للقبول باتفاق هدنة مع الحكومة وواشنطن تريد هزيمتهم عسكرياً    الحوثيون يعلنون استعدادهم لدعم إيران في حرب إقليمية: تصعيد التوتر في المنطقة بعد هجمات على السفن    مبلغ مالي كبير وحجة إلى بيت الله الحرام وسلاح شخصي.. ثاني تكريم للشاب البطل الذي أذهل الجميع باستقبال الرئيس العليمي في مارب    غارسيا يتحدث عن مستقبله    مكتب التربية بالمهرة يعلن تعليق الدراسة غدا الخميس بسبب الحالة الجوية    انتقالي لحج يستعيد مقر اتحاد أدباء وكتاب الجنوب بعد إن كان مقتحما منذ حرب 2015    مياه الصرف الصحي تغرق شوارع مدينة القاعدة وتحذيرات من كارثة صحية    إبن وزير العدل سارق المنح الدراسية يعين في منصب رفيع بتليمن (وثائق)    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و568 منذ 7 أكتوبر    كيف تسبب الحوثي بتحويل عمال اليمن إلى فقراء؟    هربت من اليمن وفحصت في فرنسا.. بيع قطعة أثرية يمنية نادرة في الخارج وسط تجاهل حكومي    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    هذا ما يحدث بصنعاء وتتكتم جماعة الحوثي الكشف عنه !    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    اعتراف رسمي وتعويضات قد تصل للملايين.. وفيات و اصابة بالجلطات و أمراض خطيرة بعد لقاح كورونا !    وزارة الأوقاف بالعاصمة عدن تُحذر من تفويج حجاج بدون تأشيرة رسمية وتُؤكّد على أهمية التصاريح(وثيقة)    عودة تفشي وباء الكوليرا في إب    القرءان املاء رباني لا عثماني... الفرق بين امرأة وامرأت    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية السبية .. الجزء الثامن عشر بقلم عبدالحليم ابو حجاج
نشر في الجنوب ميديا يوم 26 - 01 - 2014


18
- اصبري يا سلمى ! فالفرج قريب ...
هكذا بادرتها جميلة وهي تَلِج عتبات الحجرة التي تقبع سلمى بين جدرانها حبيسة ، ولكنها ما إن سمعت سلمى مقالتها حتى انتفضت ، ثم رفعت إليها رأسها وعينيها مذهولة لا تفهم تفسيراً لذلك . ومع هذا فقد استجمعت أشلاء تفكيرها ، وقالت بصوت يشيع منه الدفء والحزن معاً :
- أفصحي يا أختاه ! إني أشم روائح الانعتاق تفوح من بين أردية كلماتك .
لمعت عينا جميلة ، وسالت الابتسامة منهما لتستقر على وجنتيها ، بينما انساب الكلام من على لسانها عذباً رائقاً مفعماً بالأمل .
- قريتنا تُعِدُّ نفسها لاسترجاعك ، فأبشري .
- وهل تَقْدِر ؟ .
- لقد استعانت بالغرباء .
- وماذا عن الأقرباء والأنسباء ؟ .
- تخلَّوا عنك وعن أهل القرية ، ولم يبقَ في جعبتهم إلا كلمات الشجب والاستنكار تتطاير ثم تتلاشى دون أن يبقى منها أثر .
- لماذا تخلَّت القرى المجاورة عنا وتركتْنا ؟ . ألسنا وإياهم عصبة واحدة ، وأنَّ المصير واحد ؟ .
- يخشى أهلها أن يذهب عنهم ما هم فيه من نعيم مقيم .
هَزَّت سلمى رأسها وقد ألمَّ بها حزن عنيف مما تسمع ، ثم قالت :
- يحسبونه نعيماً ، وما هو بنعيم .
- لا تقلقي ، فالحرب قاب قوسين أو أدنى من الاندلاع .
- بسببي ؟ !.
- ولِمَ لا ؟ فأنتِ رمز الشرف والكرامة .
- يا ويلي ! قد يَلْحَقُ الدمارُ بقريتي ، ويموت من القرية خلق كثير بسببي .
- اسمعي يا سلمى ما تَبَقَّى من الأنباء .
وأخذت جميلة تسرد ما لديها من أخبار ، بينما أسندت سلمى خدها على قبضة يدها تسمع وهي محزونة ، وتخشى من عاقبة الأمور .
وقفت جميلة تتهيأ للانصراف ، بينما أخذت سلمى تتمتم :
- دعيني أنمْ يا جميلة ، واتركي هذا الجسد المتعب يتحطم فوق الفراش ، اتركيني أَرِحْ نفسي المجهدة مِن شقاوة الأفكار التي تَطِنُّ في رأسي ، ومن انطفاء الرؤيا في بصيرتي ، فأينما أُوَجِّه وجهي أرَ ظلمة حالكة .
- سأترك لكِ المكان وأغادر، ولكنْ ترفقي بنفسك ، ولا تَعْذِلِيها .
خرجت جميلة ، وأحكمت مغاليق الباب ، وتركت سلمى كومة هشَّة حيث انزوت في أحد الأركان ، ووضعت رأسها على راحة يدها ، وأخذ خيالها يجول في مفارق طرق الحياة الوعرة ، تُحَدِّثُ نفسها هامسة بصوت محزون :
- " يا ويلي ! إني لأرى المأساة تسعى مستأنية إلى قريتي فتصيب أكبادها ، وتكوي أفئدتها ، وسأكون غداً في نظر الرواة وعلى ألسنتهم ؛ أني السبب في اشتعال الحرب التي قضى فيها خَلْقٌ كثير، ونفق فيها ما يدُبُّ عليها من الأنعام ، وهلك فيها كلُّ شيء حي . يا إلهي ! ما أفظع ما تنتظره قريتي ! ليتني مِتُّ أو كنتُ نسياً منسياً ! . ها نحن- معشر النساء- السبب في كل بلاء ، ألم يُحَدِّثنا التاريخ عن حروب جلبت الفناء والدمار ؟ . ألم يصف لنا الوصَّافون تلك الحرائق التي التهمت الديار؟ . ألم يروِ لنا الرواة أخبار المعارك الدامية التي أوقدتها هيلينا والهَيْلَة الملقبة بالبسوس ، وكليوبترا والزَّبَّاء ، وأخريات غيرهن كثيرات ؟ . فهل خَلَتْ حربٌ من امرأة لا تكون هي السبب في اشتعالها ؟ . وهل أنا سأكون إحداهن ؟ . وهل سيروي الرواة أنَّ " سلمى " كانت قد نفثتْ في جمر هامد ، فتأججت ألسنة اللهب فأحرقت الأخضر واليابس ؟. وهل يبقى العصفوري يشرب الأنخاب ويرقص على
أشلاء القرية وأهلها ؟ " .
" هيلينا ! يا ابنة الإله الأكبر " زيوس " : مازلتِ في نظر الأساطير غانية ، ما زلتِ في عين التاريخ زانية ، فَتَنْتِ الفتى الوسيم " باريس" ، وأشعلتِ الحرب بين الممالك ، وجَرَّ جَمالُكِ الويل والدمار ، وأكلتِ الحرائق ليل المدينة ، فأقام فيها الموت لا يبرح الساحات ، وتَعَسَّر قدوم النهار، فطال الانتظار، وما هجع الرجال ، وما أُغمِدت السيوف ، وما انطفأت جذوة الحرب إلا بعد أن استردَّك زوجك إلى بيته – بيتك ، حيث كانت ابنتك طفلة ناعمة تمدُّ بصرها تتشوف ما وراء الأفق ، تنتظر رجوعك . فتباً لك " هيلينا " من امرأة لعوب غانية ! وطوبَى لزوجك " مينلاوس" الذي ثار لشرفه ، وغضب فيك غضبة قرشية ، فلم يتخلَّ عنه الأمويون ، ولم يخذله العباسيون ، بل كلٌّ في حومة الوغي يقاتل " .
" هيلينا : أنا لستُ مثلك ، وإنه ليفرقني عنك أني رمز لشرف قرية ، قد حافظتُ على شرفي وحصَّنتُ نفسي ، أما أنتِ فقد أغراكِ جمالُ فتاكِ ، وجريتِ وراء الرغبة " .
" هيلينا : أنا سَبِيَّة انتُزِعْتُ من بيتي غَصْباً ، أما أنتِ ، فقد خرجتِ من بيتك شريكة في مؤامرة الخروج والهرب إلى دار الخطيئة ! . رحماك يا رب ! ففي النهاية كلتانا امرأة ، وكلتانا في سوق الموت نتاجر " .
وألقت سلمى جسدها على فراش مخدعها ، وقد ذهب بها الإعياء مذهباً شديداً ، فقد أجهدها الفكر، وأَرَّقَها طول الترقب والانتظار، فتعلَّق نظرها في سقف الحجرة إلى أن دهمها النوم ، فحاصرتها أمواج الأحلام ، وهجمت عليها الرؤى المفزعة ، ولم ينتشلها من مكابدتها إلا صوت جميلة يناديها :
- سلمى ! أفيقي ، فالنهار قد أضحى .
* * * * *
وصل وفد قرية بيت جبرين قصر العصفوري ، فهالهم ما رأوا من فوضى الرجال والسلاح الذي يعجُّ بهم المكان ، أفواج من المُعَزِّين تدخل ، وأخرى تخرج ، والصمت يرفرف بجناحيه ويَحُطُّ على الرءوس إلا مِن ذِكْر للشهادتين هنا ، وترديد
للحوقلة هناك ، وهمهمات الترحم التي لا تتوقف .
النار في " الكانون " منطفئة ، والبكارج منكفئة ، والحزن يبسط ظلاله في أجواء الرواق الكبير الذي ضُرب لغرض العزاء ، فانتاب وفد القرية شيء من الخوف وشيء من الخشوع الذي فرضه الموقف ، ولاحت نظرة من الشيخ العصفوري إلى الشيخ عبد السلام ، فشجعته على تقديم واجب العزاء باسم القرية وأهلها جميعاً ، وأضاف :
- إننا لمحزونون أشد الحزن ، فما إن تواردت الأنباء بالفاجعة ، حتى وددنا أن تكون كاذبة ، ولكنْ ، إرادة الله فوق كل رغائبنا .
ردَّ الشيخ العصفوري بصوته الجهوري :
- أشكر لكم مسعاكم .
- عوَّضكم الله عن الفقيدين خيراً ، وشفَى الله الجرحى ، والبركة فيك وفي بنيك .
- سيكون عزائي يوم أخذ الثأر والانتقام من المجرمين .
- ألم يتعرف رجالك على أولئك الفاعلين ؟ .
- في يدي أول الخيط .
- إني أرجِّح أن يكونوا لصوصاً لا غير .
- ومن أين أتاك هذا الرُّجْح ؟ .
- البلاد تمرُّ بجوع شديد ونقص في الثمرات ، وأنتَ لديك الخير الوفير،
والطامعون كثير .
- ولكني أرجِّح رأياً غير ما قلتَ يا شيخ عبد السلام .
توقف العصفوري لحظة وجال ببصره على الوجوه يجلوها ، واستأنف قائلاً :
- إنه نوع من التطاول عليَّ ، بل إن أردتَ فقل ، إنه نوع من المواجهة السرية لمارقين خوارج .
أحس الشيخ عبد السلام والذين معه بما يكنه العصفوري من نوايا ، وأحسوا أيضاً أنَّ الحديث قد التوى إلى وجهة غير التي يرتضونها ، فقال المختار أبو فوَّاز :
- نحن أهل القرية يهمنا ما يهمك ، وما زلنا تبعاً لك ، فمُرْنا تجدْنا طوع أمرك .
- بارك الله فيكم !.
وقال المختار أبو سفيان يؤمِّن على قول أبي فوَّاز :
- الرأي ماترى أيها الشيخ ، وسينكشف الأمر ، وتنجلي عن الفاعلين حقيقة مقصدهم ، وإننا بُرَءَاء مما يفعلون .
ونهض لسان الشيخ عبد السلام :
- نعم ، نحن أهل قرية بيت جبرين نبرِّئ أنفسنا منهم ومن أفعالهم سواء كانوا لصوصاً أو مارقين .
تململ الشيخ العصفوري في جلسته كالأسد الجريح ، وقال بشيء من الثبات والتحدي:
- لا عليكم ! فإني كفيل بهم ، فإنْ كان طيشاً سنردُّهم إلى اتزانهم ، وإنْ كانوا خوارج مارقين فلن أدعهم يخرجون عليَّ مرة ثانية ، أو يمرقون على قانوني ونظامي ، فسأمهلهم رويداً حتى يعمل فيهم سيفي هذا الأعاجيب .
وأشار بيده إلى سيف يتدلى فوق رأسه ، وتجهَّم وجهه ، وانعقدت سحابة سوداء بين عينيه اللتين تشعَّان كالجمر لهيباً حارقاً .
قال الشيخ عبد السلام في شيء من التورية :
- نسأل الله أن يُضَيِّق على الظالمين ، وأن يذيقهم من العذاب ألواناً ، وأن يجرِّعهم من ذات الكأس التي تجرَّعناها ، والله مُهلك كلَّ معتد أثيم .
استطابت نفس العصفوري بما سمع من وفد القرية ، وشكر لهم حسن وفادتهم ، فقد أحسن الشيخ عبد السلام في اختيار ألفاظه تلميحاً لا تصريحاً ، بأن ينتقم الله من العصفوري الذي تكبَّر وتجبَّر ، وظلم فأوجع . وإنَّ شجرة البغضاء والكراهية التي زرعها في صدور أهل القرية والقرى المجاورة ، وسقاها بقسوته قد نَمَتْ وكَبُرَتْ وأثمرت ، وطال عليها الزمان حتى شاخت ودبَّ فيها الوهن ، وآنَ لها أن تتهاوى في جمرات العداوة والأحقاد التي أجَّجَها في صدور الفلاحين الذين ينامون على خوف ويستيقظون على قلق دائم .
* * * * *
أثارت سنابك الخيل غباراً كثيفاً يحجب الرؤية ، كانت أفراسهم تعدو مسرعة في شيء من الاضطراب والغضب ، تطير على وجه الأرض بلا أجنحة ، تفكر بما يفكر به فرسانها ، وتُوَطِّد النفس على إرضائهم وطاعتهم ، وتتحمَّل الأذى والصعاب حتى يعودوا وقد هدأ سرهم ، وارتاح بالهم .
وكان منصور ذلك الشاب اليافع يتقدم الركب ، يقودهم إما إلى حتوفهم وإما إلى حتوف غيرهم ، وإنه لا يبالي ، فتراه يندفع كالسهم ، يلكز فرسه كلما أحسَّ منه توانياً ، ولا يتردد في ضرب كفله بسوط كان بيده .
ولقد عُرف عن منصور هذا ، أنه غضوب دائماً ، لا يعرف وجهه الابتسام ، وأنَّ قلبه لمعمور بحب الانتقام واستنزال الشدِّة على الآخرين جرياً على نهج أبيه في سَوْس الفلاحين من أبناء هذه القرى الذين يمتازون بالبساطة ويتصفون بالبؤس .
كان وهو على ظهر فرسه يفكر في أقسى أساليب الإيلام التي يستخدمها في قمع الناس ، وإنه لجريح لا يداوي جراحه إلا إلحاق الأذى والألم بهؤلاء الذين يعمرون قرية بيت جبرين والقرى المجاورة لها .
نعم ، إنه عنيف كأبيه ، وإنه عنيد كأبيه ، وإنه سفاح للدم كأبيه ، وقد فاق أباه في عنفه وعناده وسفحه للدماء ولا غرو في ذلك ، فقد ورث عنه عنفه وكبرياءه وحبه للسلطة والتسلط على رقاب العباد ، وإنه قد تعهَّد لأبيه أن يثأر لموت أخيه الشقيق نوَّاف ، ولدماء شقيقه مسعود ، ولجراح أخيه جاسر ، وينتقم للنَّمر أحد رجال العصفوري ، ولكرامة العشيرة وشيخ العشيرة الذي أهانها وألقى بها هذا التعدي السافر إلى مهاوي الرَّدَى ، وقد عهد له أبوه بهذه المهمة التي ينوء بحملها كبراء القوم ، وإنه مع حداثة سنه لقادر ، وكيف لا وهو الفتى الجريء الذي يُؤْثِر الاضطراب على الطمأنينة ، ويُؤْثِر العنف وارتقاء الصعب على الدعة واللين . ولو أنه قد أعمل فكره مرة ، وقابل بين هذه الحياة التي اختطها لنفسه وبين الحياة التي يَقْدِر على أن يحياها بشيء من هدوء البال وراحة الضمير في هدأة الليل ، وبشيء من اللهو حين يصخب النهار، لَفَضَّلَ الثانية على الأولى ، ولكنه لم يكن يفعل على الرغم مما لديه من
قوامات الحياة الهادئة الهانئة ، ففي يده المال والسلطة والجاه ، وتحت إمرته رجال
أشداء يحوطونه بالمنعة وقوة القانون القبلي ، ولكنه يأْبَى ذلك ، ويختط لنفسه هذه الطريق التي يسلكها ؛ هذه الطريق التي رسمها أبوه ، وليس له إلا السير فيها مهما كانت الصعاب ، ومهما انتصبت في وجهه الأهوال والشدائد .
وها هو منصور يجوس خلال ديار بيت جبرين يعيث فيها فساداً ، ويعبث بمصادر أرزاق أهلها ، وينثر الشر على مفارق الطرق ، فيضرب ويقتل وينهب ، وإنه في نشوة لا تعدلها نشوة ، فتراه يستعذب انتصاراته ، ويشبع نهمه ، ويشفي غليله ، ويحث الآخرين من رجاله على تحطيم كل شيء تقع عليه عيونهم ، وتصل إليه أيديهم دون رحمة .
وينعطف منصور وركبه إلى قرية تل الصافي ، فيقيمون فيها الأحزان والأتراح ، ويشعلون في زروعها ناراً أكولة ، ويوقدون في صدور أهلها أحزاناً تتأجج بمرور الأيام . وترتفع ألسنة النساء بصراخات تتصاعد متلاحقة إلى عنان السماء ، فتكتحل المآقي بسواد مأساة جديدة ، وتغتمر الأزقة بدموع العيون التي يغرق فيها منصور. ولكنه يحسن العوم ، ويستعذب الأنين ، ويستمر في غَيِّه فيجوب برجاله كل الأرجاء ، لا يترك خِرْبة ولا واد ولا تل إلا يسائله عن رجال غرموا بالأمس فلا مجيب ، فيدفعه ذلك إلى أن يعلن عن مكافأة مقدارها مئة ليرة ذهب " عثمانلي " لمن يأتي بالأخبار الأكيدة عن هوية أحد الرجال الذين اشتركوا في مهاجمة القصر وشاركوا في إطلاق الرصاص الذي أردى نوَّاف والنَّمر قتيليْن ، وأصاب آخرِين . ثم يرجع منصور إلى أبيه بخفيِّ حُنَيْن كما يقول المثل وفي نفسه غيظ دفين .
* * * * *
- ما هذه الحياة يا ناس ؟! . ماذا فعلنا أو ماذا اقترف آباؤنا حتى تنزل علينا هذه اللعنة ؟!.
- ألا تعلمون أنَّ خطيئة المرء يُصاب بها الولد السابع في نسله ؟ .
- ولكنَّ الله سبحانه يقول : " ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى " .
- ويقول سبحانه وتعالى أيضاً : " وما ربك بظلاَّم للعبيد " !.
واستجمعت الألسنة قوتها ، ونطقت بصوت أقرب إلى الهمس منه إلى الجهر " صدق الله العظيم " .
هذا ما خرج من أفواه كثير من رجال ونساء قرية بيت جبرين ، كل منهم يتساءل وهو يضرب كفاً بكف ، وقد أمسك الصمت بتلابيب ألسنتهم ، فيلملمون جراحاتهم ويكفكفون دموعهم ، ويطوون أساهم في صدورهم ، وينامون تلك الليلة . ولكنْ هناك عيون أخرى لم تنم ، ولم يعرف أصحابها للراحة سبيلاً ، إذ يتسللون من وراء جفن الليل يحملون أسلحتهم في أيديهم ، ويحملون في صدورهم مشاعل النقمة والكراهية لهذا الطاغية الذي أقضَّ مضاجعهم ، ونحر الدموع في عيونهم ، وجعل الحزن يستوطن قلوبهم .
قال أحد الرجال :
- فرصتنا أن نضرب ضربتنا هذه الليلة .
- وماذا بعد ؟ أَلَا تعلم أنَّ العصفوري قوي الشكيمة ، ويستطيع أن يتلقى ضربات كثيرة دون أن يُطاح به ؟.
- لا يا خالد ، لا يغرَّنَّك به الغرور ، فإن نحن نفَّذْنا خطتنا بإحكام وأنفذنا فيه ضرباتنا فإنه سيترنح وسيهوي ، فهو إنسان من قبل ومن بعد ، وستهزه ضربتنا هذه الليلة هزة لا يستجمع بعدها قوته العقلية ، وستكون أيضاً موجعة له ولباقي رجاله .
قال خالد :
- ولكنني أخشى أن يَحْدُث ما لا يخطر ببالنا .
- لا تخشَ شيئاً ، فإنَّ القمر لا يخون !.
قال أسامة بشيء من التهكم :
- لقد أخبرتنا الأيام أنَّ القمر قد غَطَّى وجهه بعباءة " كشميرية " ، فخان
أصحابه .
- قل يا رب !.
شَقَّ الرجال طريقهم التي تُضاء تارة ، وتعتم تارة أخرى بتعاقب السحب على وجه القمر ، وكانت قلوبهم تحمل المشاعل التي يستنيرون بضيائها ، وينطلق لسان أحد الرجال وهو يردِّد بعض المواويل والأغاني الشعبية ، فيَطرَب جميعُهم بما تفيض به عاطفة صاحبهم ، وتعود بهم الذكريات إلى أيام الطفولة وأوائل الشباب ، وقد انبعثت في صدر كل منهم أمنية عزيزة آملين أن تعود بهم الأيام إلى سوالف عهدها ، فيمرحون ويهنأون بعيشهم .
طافت بهم الذكريات على أجنحة " الدلعونة والميجانا " وكادت تصعد بهم إلى معارج السماء ، وتنأى بهم عن واقع الحال الذي هم فيه ينغمسون ، لولا أن شدَّ أسامة أعنَّة خيالهم بقوله :
- أيها الرجال ! أحكموا اللثام ، فنحن على مشارف الهدف ، لا ينسَ كل منكم دوره ، ولا يتعداه ولا يستبدل به عملاً آخر . توكلنا على الله....
كانوا ثمانية ، انشطروا إلى مجموعتين ، كل مجموعة تعرف مهماتها وتعرف طريقها، فاتجهت إحداها إلى زروع العصفوري تشعل فيها النيران ، وتلقي حممها إلى ممتلكاته حيث الحظائر والإسطبلات والبوايك وصوامع الغلال ، فارتفعت ألسنة اللهب تلتهم كل وقود يابس أو أخضر، وارتجت الأرض بأصوات الحيوانات والدواجن فأحدثت جَلَبَة وصخباً انتزعا العصفوري ورجاله من مراقدهم ، فانخلعت قلوبهم فزعاً مما سمعوا ، وذُهلوا عن أنفسهم حين رأوا الجحيم . ودارت الأرض برءوسهم حينئذٍ ، فهم لا يفقهون شيئاً مما يحدث ، ولا يعرفون كيف يتصرفون ، فأخذوا يتخبطون وهم في أماكنهم يترنحون . واعتلت ألسنة النيران مراقي السماء ، ولكنَّ بضعة من رجال العصفوري قد أفاقوا من ذهولهم ، فحملوا بنادقهم وخرجوا يواجهون الموقف ، وأيديهم تضغط على الزناد .
وحدث اشتباك ، تبادل فيه الفريقان إطلاق النار من أسلحتهم ، ودارت معركة حامية تعفَّر بها وجه الأرض الذي اتشح بالسواد المنبعث من الحرائق ، وتمزق من
هولها رداء الليل البهيم الذي ترنح من تحته سراج وَهَّاج بذبالة لا تنطفئ .
كان رجال العصفوري يتصرفون بحذر شديد وبشيء من الخوف ، إنهم لم يتبينوا أحداً ، إنما هي شخوص مُلَثَّمة تكِرُّ بأفراسها وتفِر كأنها أشباح ، ما إن تظهر حتى تختفي ، وما إن تختفي حتى تظهر . ويأخذ بعضهم طريقاً أخرى تحت تغطية من رفاقهم ، فيتسللون إلى القصر من باب خلفي دون أن يواجهوا حراساً في طريقهم ، فكل رجال العصفوري قد تجمعوا أمام باحة القصر لصد هذا العدوان الذي فاجأهم فأربكهم ، الأمر الذي أغفلهم عن بعض المواقع ، فتركوا خلفهم فراغاً دفاعياً نفذ منه المهاجمون .
دخل الملثمون القصر وقد جاسوا خلال الديار دون عناء ، وتوقفوا أمام إحدى الحجرات يطرقون بابها طرقاً عنيفاً ، فخرج عزام من حجرة نومه يفرك عينيه بكلتا يديه ، وقد ظهر عليه الفزع مما يسمع من جَلَبَة تختلط فيها أصوات الرجال وأصوات طلقات البنادق ، ومد يده إلى رتاج الباب ، وما إن فتحه حتى فوجئ بدخول اثنين منهم عليه ووقوف اثنين آخرين بالباب ، وقبل أن يفيق عزام ، وقبل أن يعود إليه رشده ، تقدَّم منه أحد الملثمين شاهراً سلاحه في وجهه ، وقد خطا الثاني ليأخذ بندقية معلقة على الحائط فوق مخدع عزام ، وقال له :
- عزام ! لا داعي للمشاغبة ، فطلقة واحدة تنهي حياتك ، وهذا ما لا نريده لك ، فأتمِر بأمرنا وكن سَلِساً .
قال عزام وقد أفاق من نومه وصحا من فزعه :
- مَنْ أنتم ؟ وماذا تريدون ؟.
- نريدك أن تخرج معنا دون أن يحس بنا أحد .
- إنْ كنتم تريدون ....
فقاطعه الملثم برفق :
- ما نريده أكبر من قدرتك ، لهذا سنأخذك معنا لأمر، وستعود .
- أخبروني من أنتم ؟.
- سنتعارف فيما بعد .
- وماذا تريدون مني ؟.
- سنتحدث في هذا الأمر في حينه ، أما الآن فنحن على عجلة من أمرنا .
وتقدَّم أحد الرجال وقد طرح على رأس عزام كوفيته ، فغطى بها وجهه وعصب عينيه ، وقيَّد يديه بعقاله من خلف ، طالبين منه الخروج معهم بهدوء لئلا يصيبه منهم ما يؤذيه ، مهددين إياه : إن لم يفعل ما يُؤْمَر يكن الضحية . أطاع عزام ، واقتاده الرجال بهدوء إلى خارج ساحة القصر من الجهة الخلفية ، ومازالت المعركة مستمرة على الجانب الآخر من القصر .
ركب الرجال أفراسهم واستاقوا معهم الفرس الذي يمتطيه عزام ، وبعد مسافة ليست بعيدة انطلقت من بنادقهم طلقات انسحب على إثرها المهاجمون الذين حملوا معهم قتيلاً منهم ، كما أخذوا في حسبانهم ملاحقة رجال العصفوري لهم . فبحسب خطتهم ابتعدوا في مسيرهم عن الطرق التي تؤدي إلى إحدى القرى المجاورة ، لئلا يُظَن أنَّ الفاعلين من أهلها ، فتدهمهم سنابك خيل العصفوري ، ويُلحِق بهم رجاله القتل والدمار.
مال الركب إلى " خِرْبة عراق الخيل " حيث كهف أثري مهجور، اتخذه الثوار مقراً لهم ، ينامون فيه ويصبحون ، فوارَوْا صاحبهم في التراب ، وأسعفوا اثنين من المصابين ، ثم امتطوا جيادهم متجهين شرقاً إلى قرية " دير نَخَّاس " التي تبعد عن بيت جبرين بضعة كيلو مترات ، وهناك نزلوا داراً في طرف القرية لا تخترقها العيون ، وقد هيأ لهم بعض الرجال الذين كانوا في انتظارهم شيئاً من طعام وشراب ، وشيئاً من ترتيبات المقام الآمن ، وقد اختاروا إحدى الحجرات ذات الحوائط القديمة المصنوعة من الطين اللبِن والقَصَل ، المسقوفة بأعواد الذرة والبوص ، والتي لها باب خشبي ثقيل برتاج محكم ، ليقيم فيها خطيفهم . فأودعوه فيها بعد أن فكوا قيده ، ورفعوا العصابة عن وجهه وعينيه ، وقدموا إليه طبقاً فيه شيء من طعام ، وإبريقاً فخارياً فيه قليل
من الماء ، وأغلقوا عليه الباب ليستريح ، ووُكِّلَ للسهر عليه وحراسته اثنان من الرجال الأشداء .
تكوَّم عزام فوق كومة من القش في ركن قصي من أركان هذه الحجرة العتيقة ، وأسند رأسه على راحتي يديه ، وأخذت الأفكار تتماوج في رأسه ، تُرَى أيُّ نوع من الخاطفين هؤلاء ؟ وماذا يبتغون من وراء فعلتهم هذه ؟. وأصغَى قليلاً فإذا بالخواطر تتقاطع ، فيتساءل في نفسه : تُرَى هل هم لصوص ؟ وماذا يريد اللص سوى المال ؟. إنهم لم يسألوه عن مال لحظة دخولهم عليه واقتياده من بيته ، ولم يمدوا أيديهم لشيء ثمين ، وما أكثر الأشياء الثمينة التي يحتويها قصر أبيه . ونفض رأسه نافياً كونهم لصوصاً، ثم أغمض عينيه ، ووضع رأسه فوق راحة يده اليسرى ، بينما أصابع يده اليمنى تعبث بالقش الذي يفترشه ، فجال في خاطره كثير من الأحداث لعله يجد ما يفسر وجوده هنا ، وتعاقبت على ذاكرته الصور، وتوقف عند أفاعيل أبيه وإخوته بأهالي بيت جبرين وغيرها من القرى .
وتساءل يُحَدِّث نفسه : هل يكون جبروت أبي هو سبب أسري ؟. واستبعد ذلك مرجحاً أنَّ منصور ومسعود وغيرهما أولى منه بالأسر . وأحس تعب الفكر، وشعر بالإرهاق ، وساءل نفسه : هل سيدفع ثمن ما ارتكبه الآخرون ؟ كلا ، ولكنه لابد أن يصل إلى تفسير معقول . وطافت الأفكار ترفرف برأسه ، وحامت سحابات النوم تظله وتهدهده ، وتغلق منافذ عينيه كما أغلقت منافذ الفكر الذي أضناه ، وتمدَّد على القش ، وأسلم نفسه إلى نوم عميق ، أيقظه صوت رتاج الباب وهو يَصِرّ ، فانفتح عن شاب يتقدم منه وهو يقول بشيء من الود الذي يهدئ من الروع ، ويشيع الطمأنينة :
- أسعد الله صباحك أيها الفتى !.
فرك الفتى عينيه بظاهر يديه ، وتثاءب قليلاً، وقال وهو يلتفت إلى الشاب الذي جلس القرفصاء أمامه :
- أسعد الله صباحك أيها الرجل !.
- لعلك ارتحتَ من وعثاء السفر.
- ولكني لم أرتح من وعثاء الفكر.
- لا تجهد نفسك بالتفكير، فكل شيء بأوان .
تنبَّه عزام إلى مُحَدِّثِه ، وقد طرد ذيول النوم من عينيه وأيقظ عقله وفؤاده ، وأخذ يتفرَّس في هذا الرجل الذي يجلس قبالته ، فقدَّر أنه في عمر الشباب ، كان يافع القامة ، ممشوق القوام ، عريض المنكبين ، يتمنطق بحزام يتدلى منه مسدس جولد 14 مم ، ولم يبدُ من وجهه الذي يخفيه تحت حَطَّتِه إلا عيناه الواسعتان الكحيلتان ، وصمتَ كلاهما لحظات ، كل يتفرَّس في عيني صاحبه . قال عزام :
- مَنْ أنتم ؟.
- أنت ضيفنا.
- أرفض ضيافة بالإكراه .
- لا تخشَ مكروها .
- لَمْ تجبني.... مَنْ أنتم ؟.
- نحن طلاب حق .
- قُلْ – ولا تُمارِ– إنكم لصوص .
- بل نحن ثوار.
- وأعجزكم المال ، وتريدون فِدْيَة من أبي .
- لسنا قُطاع طرق أو رجالاً من الصعاليك .
- إذن ، ماذا تريدون مني ؟.
- نريد شيئاً غالياً من أبيك .
- ذهباً أم سلاحاً ؟.
- ما نريده أغلى من الذهب وأثمن من المال والسلاح .
- حَيَّرتني أيها الرجل ، أفصح عما تريدون ؟.
- نريد أن نقهر أباك ونرغمه على اللهاث وراءنا .
دُهش الفتى مما يسمع ، واعتراه دوار كاد يطيح برأسه ، ولكنه فرك جبهته
بكف يده اليمنى ، وقال راجياً :
- لا تُسمِعني ما لا أحب سماعه في أبي ، ولا تُكرِهني على النفور منك أكثر،
ثم إنك لم تخبرني من أنتم ؟ وما وراءكم ؟ .
وتجاهل الشاب سؤاله وقال :
- ألَا تعلم أنَّ أباك قد سبَى امرأة من قرية بيت جبرين ، وإنه يحتفظ بها سَبِيَّة في قصره .
خفض الفتى عينيه ، وقال بصوت يكاد يُسمع :
- " سلمى " !.
- نعم ! سلمى ، وقد طال عليها الزمن ، وأودَى أبوك بزوجها في غياهب السجن ، ليخلو له وجهها .
طأطأ الفتى رأسه كسيفاً وقال :
- الآن ، قد فهمتُ السبب وراء لعبتكم .
- لا تقل لعبة ، إنها مخاطرة جريئة ثمنها أرواح بشر.
تنهد الفتى وأخرج ما بجوفه من حرقة الغضب ولوعة الحزن الدفين ، وقال بصوت كسير:
- وا أسفاه !!.
- هل ترضى لأبيك أن يخطف شرف القرية ورمز كرامتها ؟ . هل ترضى لأبيك أن يفسد في الأرض ويسفك الدماء ؟. هل ترضى لأبيك أن يُرَوِّع الأطفال والنساء ، ويحني جباه الرجال فيُسلِّط عليهم الحكومة ، ويُسَخِّرهم في خدمته ؟. هل ترضى لأبيك أن يزوِّر في الأوراق ويدَّعي شراء أرض الحاج زيدان ، ويقتاد ابنه مكبَّلاً أمام أهل قرية بيت جبرين بغير حق ؛ فيذيقه ألواناً من العذاب المهين؟. هل يرضيك نهب الخيرات وفرض الإتاوات وتجويع الفلاحين والتحكم في مصائرهم ؟ . وهل .....
فقاطعه عزام صارخاً في وجه مُحَدِّثه :
- كفى.... كفى.... يا.... يا....
ويميط سعيد اللثام عن وجهه الذي نبتت فيه لحيته، وغطَّى شارباه جزءاً من فمه ،
ويصيح عزام كمن عثر على شيء افتقده :
- سعيد ؟! . نعم أنتَ سعيد ، لازلتُ أذكر مرآك ، وإن تغيرتْ هيئتك بعض الشيء .
فيردُّ سعيد بصوت متهدج :
- نعم ! أنا سعيد ، ولعلك كنتَ أحد المشاهدين يوم كنتُ فُرجة أهل القرية ، يومها كنتُ أنا الضحية ، وكان أبوك هو الجلاد . أتذكر ذلك يا عزام ؟ . فماذا فعلتَ لي وأنتَ تعلم أنَّ أباك هو الظالم ؟. ماذا قدَّمتَ لأهل القرية حين كانوا يُرْزَأُون من أبيك ؟ .
تنهَّد الفتى وأخرج ما تبقى في جوفه من لهب حارق وقال بصوت كسير:
- لم يكن بمقدوري أن أفعل لك ولا لغيرك شيئاً سوى أني كنتُ أُحجم عن مجاراة إخوتي في مداهمات القرية وإنزال العقوبة بأهلها .
- والآن يا عزام ، لقد جاء دورك .
- لم أفهم ، أَفْصِحْ عما تريد ؟.
- نحن نأسف لاختطافك، فأنت شاب مسالم تُؤْثِر مصاحبة الآخرين بالمعروف ، ولقد اخترناك لأننا نعلم أنك الوحيد لأمك ، وأنها تذوب حزناً وجزعاً لفراقك ، وستمارس على أبيك دوراً ضاغطاً لتتم المبادلة ، ولكنك تستطيع أن تساعدنا لتعود إليها سالماً دون إبطاء . فقد نُمِي إلينا أنها عطوفة على سلمى ، شفوقة بها، ونريد أن نقابل إحسانها بإحسان ، لأجل هذا لانريد أن يطول مقامك عندنا لئلا يطول إلتياعها عليك ، ويضنيها الم البعاد .
- ما المطلوب مني ؟.
- أنْ تكتب إلى والدك الشيخ العصفوري أن يطلق سراح سبيَّته مقابل عودتك إلى بيتك .
- وإنْ لم أفعل .
- تتحمل ما يلحق بك من نتائج .
- وإنْ لم يفعل .
- أيضاً يتحمل ما يلحق به من نتائج .
- أبي لا يهزُّه تهديد أو وعيد .
- سنضطره يقبل .
- إنه عنيد عناد الصخر في الواد .
- سنقوِّض كبرياءه ، ونهدم عنفوانه ، وسنُكْرِهه على القبول .
- دعك من لغة التهديد ، فهذا لا يجدي معه نفعاً .
- اكتب إليه يا عزام : أنَّ اليد التي انتزعتْك من بيتك تستطيع أن تنتزع إحدى بنات الشيخ العصفوري ، ونحن لا نريد أن نسلك هذه الطريق إلا إذا أَجْبَرَنا عليها عناد أبيك وغطرسته .
توقف الكلام ، ورفرف الصمت فوق رأسيهما ، فلا تسمع شيئاً سوى صفير ريح تضرب بكفيها وجه الأرض ، وتصفع ذوائب الأشجار فتتطاير أوراقها وتتناثر جدائلها ، فتراها تتمايل يمنة ويسرة في حركة مطردة ولكن بلا نظام ولا اتزان ، كالدراويش حين تباغتهم الغيبوبة وهم في حلقة الذِّكْر في ليلة روحانية .
انتفض عزام من مكانه كطائر حزَّت رقبته سكين الصياد ، وأحسَّ طعنة نجلاء تنفذ إلى ضميره وقلبه ، وتخترق عِزَّته وكبرياءه ، وقال وهو يضغط على الحروف بأسنانه :
- يا ويلكم إن فعلتموها ، فالموت عندي أرحم من رؤيتي لفعالكم الطائشة .
- نحن لا نريد لك الموت ، بل نريد منك أن تكون عوناً لنا فترفع المظالم وتردّ المغانم ، ولا أظنك ترتضي لنا ما لا ترضاه لنفسك من جور، ولا أظنك تُقِرُّ لأبيك ما تنكره علينا من فُحْش ، وها نحن نحكِّمك فينا فاحْكم بيننا يا مَن " .... فيكَ الخصامُ وأنت الخصمُ والحَكَمُ " .
هَزَّ عزام رأسه وأطرق قليلاً ، وقال بحزم ظاهر منتزِعاً نفسه من التردُّد :
- آتوني قرطاساً وقلماً .
تهلَّل وجه سعيد ، ونادى بأعلى صوته مبتهجاً :
- القرطاس والقلم .
دخل شاب ربعة يضع لثاماً على وجهه ، ودفع إلى سعيد ما بيده من أشياء وخرج . عاد عزام إلى سهومه ، وقد غشيتْ وجهه مسحة من غضب ، تتقاذف من عينيه شواظ من نار حارقة ، وأخذ صدره يعلو ويهبط بحركة سريعة تنمُّ عن شدة الانفعال ، وأمسك بالقلم يخطُّ على ورقة بيضاء كالحة قد صفَّرتْها أشعة الشمس ، فقام عنه سعيد وتركه وحده يخاطب أباه بما شاء له أن يخاطبه .
[email protected]
دنيا الوطن


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.