الريال اليمني ينهار مجددًا ويقترب من أدنى مستوى    بين حسام حسن وكلوب.. هل اشترى صلاح من باعه؟    ليفاندوفسكي يقود التشكيل المتوقع لبرشلونة ضد فالنسيا    للمرة 12.. باريس بطلا للدوري الفرنسي    السيول تقتل امرأة وتجرف جثتها إلى منطقة بعيدة وسط اليمن.. والأهالي ينقذون أخرى    السعودية تكشف مدى تضررها من هجمات الحوثيين في البحر الأحمر    ريمة سَّكاب اليمن !    الشيخ هاني بن بريك يعدد عشرة أخطاء قاتلة لتنظيم إخوان المسلمين    حزب الرابطة أول من دعا إلى جنوب عربي فيدرالي عام 1956 (بيان)    في ذكرى رحيل الاسطورة نبراس الصحافة والقلم "عادل الأعسم"    السعودية تعيد مراجعة مشاريعها الاقتصادية "بعيدا عن الغرور"    نداء إلى محافظ شبوة.. وثقوا الأرضية المتنازع عليها لمستشفى عتق    الأحلاف القبلية في محافظة شبوة    طلاب جامعة حضرموت يرفعون الرايات الحمراء: ثورة على الظلم أم مجرد صرخة احتجاج؟    كيف يزيد رزقك ويطول عمرك وتختفي كل مشاكلك؟.. ب8 أعمال وآية قرآنية    "جيل الموت" يُحضّر في مراكز الحوثيين: صرخة نجاة من وكيل حقوق الإنسان!    جماعة الحوثي تعلن حالة الطوارئ في جامعة إب وحينما حضر العمداء ومدراء الكليات كانت الصدمة!    النضال مستمر: قيادي بالانتقالي يؤكد على مواجهة التحديات    أسئلة مثيرة في اختبارات جامعة صنعاء.. والطلاب يغادرون قاعات الامتحان    كيف حافظ الحوثيون على نفوذهم؟..كاتب صحفي يجيب    عودة الحوثيين إلى الجنوب: خبير عسكري يحذر من "طريق سالكة"    الدوري الانكليزي الممتاز: مانشستر سيتي يواصل ثباته نحو اللقب    هيئة عمليات التجارة البريطانية تؤكد وقوع حادث قبالة سواحل المهرة    يوميا .. إفراغ 14 مليون لتر إشعاعات نووية ومسرطنة في حضرموت    الوزير الزعوري يطّلع على الدراسة التنموية التي أعدها معهد العمران لأرخبيل سقطرى    كل 13 دقيقة يموت طفل.. تقارير أممية: تفشٍّ كارثي لأمراض الأطفال في اليمن    طوارئ مارب تقر عدداً من الإجراءات لمواجهة كوارث السيول وتفشي الأمراض    البنك الإسلامي للتنمية يخصص نحو 418 مليون دولار لتمويل مشاريع تنموية جديدة في الدول الأعضاء    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على نيو إنجلاند برباعية في الدوري الأمريكي    بايرن ميونيخ يسعى للتعاقد مع كايل ووكر    اشتراكي الضالع ينعي رحيل المناضل محمد سعيد الجماعي مميز    العليمي يؤكد دعم جهود السعودية والمبعوث الأممي لإطلاق عملية سياسية شاملة في اليمن    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    الشبكة اليمنية تدين استمرار استهداف المليشيا للمدنيين في تعز وتدعو لردعها وإدانة جرائمها    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    مئات المستوطنين والمتطرفين يقتحمون باحات الأقصى    وفاة فنان عربي شهير.. رحل بطل ''أسد الجزيرة''    أسعار صرف العملات الأجنبية أمام الريال اليمني    ضبط شحنة أدوية ممنوعة شرقي اليمن وإنقاذ البلاد من كارثة    فريدمان أولا أمن إسرائيل والباقي تفاصيل    شرطة أمريكا تواجه احتجاجات دعم غزة بسلاح الاعتقالات    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    مشادة محمد صلاح وكلوب تبرز انفراط عقد ليفربول هذا الموسم    اليمنية تنفي شراء طائرات جديدة من الإمارات وتؤكد سعيها لتطوير أسطولها    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    وزارة الحج والعمرة السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية وتؤكد أنه لا حج إلا بتأشيرة حج    «كاك بنك» يدشن برنامج تدريبي في إعداد الخطة التشغيلية لقياداته الإدارية    الذهب يتجه لتسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    «كاك بنك» يشارك في اليوم العربي للشمول المالي 2024    أكاديمي سعودي يلعنهم ويعدد جرائم الاخوان المخترقين لمنظومة التعليم السعودي    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    لحظة يازمن    لا بكاء ينفع ولا شكوى تفيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية السبية .. الجزء السابع عشر بقلم عبدالحليم ابو حجاج
نشر في الجنوب ميديا يوم 19 - 01 - 2014


17
انبلج الصبح ، فانتشر الضياء يُجلِّل أعالي الأشجار، وهبَّت نسائم الشمال تحرك ذوائبها ، فيتقدم عطر الأزهار زاحفاً ببطء يعبق الشوارع ، ويتسلَّل إلى الحارات وينفذ إلى البيوت ، فتصدح الأطيار بأنغام يرى فيها الفرحان مشاركة له في أفراحه ، ويرى فيها الموتور عزاء له عن أحزانه ، ويرى فيها المظلوم سُلُوَّاً له عن مظلمته . وتسمع سلمى من خلال تلك الأصداح رسالة قد أرسلها سعيد مع هذه الأطيار، فتفتح نافذتها الصغيرة ، وتطلُّ بعينيها وتصغي إليها .
ولم تكن سلمى سعيدة وهي تصغي ، ولم يظهر على ملامح وجهها ما ينبئ عن الانزعاج ، وقد أطالت في الإصغاء ، وأطالت الأطيار في بث محتوى رسالتها ، ويستضيء وجه سلمى تارة ، ويخبو نور عينيها تارة أخرى ، فيتعاقب النور والإظلام على ذلك الوجه وفي تلك العينين .
ولم تكن حياة المرء كلها على وتيرة واحدة ، ولم تكن نفس تصخب إلا ويأتيها الهدوء فجأة ، ولم يولد قلب مفعم بما يملأ الرحب من الود إلا ويهاجمه قلق يفجؤه بشيء من الجفاء . ولكنَّ الذي يتأمل فيما حوله من كون ، مهما كان صغيراً ضيقاً أو كان كبيراً رحباً ، يرى فيه ألواناً مختلِفات تتبدل بتبدُّل الأحداث التي تدهمه ، وتتغير الطبائع بتغيُّر الوقائع . هكذا هي الحياة : صفاء يعقبه كَدَر ، وعَكَر يسير إلى نقاء . ولكنْ ، أين سلمى من هذا كله ؟ إنها تحمل بين جوانحها قلباً تعمره المحبة ، ولها نفس تتطلَّع إلى زوال كل ما يهدِّد العيون ويَحُول بينها وبين الرؤى الجميلة . إنها تستطيب هذه الأنغام ، وتستعذب معانيها فتستنشق بقلبها أحلاماً قد أدرك عقلها أنَّ هذه الأحلام قد باتت من المؤكد غير خاضعة إلى قانون الكينونة . وهل بمقدور سلمى أن تفعل شيئاً يُحَوِّل الحلم إلى حقيقة واقعية ؟. وهل تملك سلمى عصا سحرية فتغيِّر من الأمر المحتوم وتحقِّق أمانيها ؟. كلا ، فهي محكوم عليها بقانون اجتماعي صارم لا فِكاك منه ، وهي ليست وحدها ترزح تحت وطأة هذا القانون الصارم ، وإنما
يشاركها في ذلك آلاف البشر ، إلا أنَّ سلمى تتميز من غيرها بإحساس مرهف بالأشياء ، وأنَّ توجُّسها يفوق توجس الآخرين . إنها تخاف ولكنها ترفض خوفها ولا تُسَلِّم له ، والآخرون يخافون ويَقْبَلون خوفهم ويؤانسونه ، بل إنهم يتحالفون معه وينتهي بهم ذلك إلى أن يرفعوا الراية البيضاء أمام الظلم الاجتماعي والقهر السياسي القَبَلي ، ويستسلمون . وربما تتجسد اللذة لديهم في هذا الاستسلام فيستعذبونه ، ويركنون إلى الدِّعَة والهدوء . ولو أنَّ أحداً قد ساءلهم عن مأتَى هذه الدِّعَة ، وعن مصدر هذا الهدوء ، ما كانوا يُحسنون الجواب ، وما كان لألسنتهم أن تنطلق فتترجم للسائل ما يشفي صدره من ردود ، ولكنهم لم يُسأَلوا عن هذا ولا عن ذاك ، فيقبعون في دائرة مغلقة يشتد انغلاقها عليهم كلما اشتدت العواصف الهوجاء من حواليهم .
وهكذا هم ؛ يلوذون وراء أسوار قد رفعتها أوهامهم ، ويختبئون وراء حصون يحسبونها مانعة عنهم الأخطار ، ولعلهم لو تركوا عقولهم وأطلقوها من عقالها ، ومنحوها فرصة واحدة لتتخطى هذه الأسوار أو تخرج من بطون هذه الحصون لأدركوا كم هم بائسون ، ولكنهم لم يفعلوا ، بل إنهم لم يحاولوا أن يفعلوا . فإلى متى ؟! لابد من هزة داخلية تحطم الأسوار وتدك الحصون ، حينها لا ينفع الندم ، ولا يجدي التحسر .
قد يستطيع المرء أن يبني لنفسه عزاً ومكانة ، وقد يتمكن من تجميع الثروات فيكون ثرياً غنياً ، ولكنه لا يستطيع أن يجلب لنفسه شيئاً واحداً اسمه " الصَّحوة " ، وكيف يصحو المرء إن كان مسلوب الإرادة ، مجرداً من الوعي ، فقيد الإحساس بالحدث ، فاقد الانتماء للمكان والزمان ؟! .
هذه حال كثير من أهالي قرية بيت جبرين يَغُطُّون في معايشهم حتى دهمتهم هزة قوية ، وهي مازالت بهم تنفض عقولهم . فإذا بشجرة " الصحوة " تنبت في رءوسهم وتتجذَّر في أفئدتهم . وهاهي تمتدُّ ظلالها فتجمع النقائض من الناس وتؤلِّف بينها على شيء كانوا فيه على اختلاف ، وكانوا فيه على خلاف ، لأن الخوف في صدورهم كان أكبر من شجاعتهم ، ولأن الرعب الذي زرعه العصفوري في نفوسهم
كان أعظم من قوتهم .
وتوالت الأيام وتعاقبت السنون ، وإذا بالعصفوري يقاسمهم هذا الخوف ، ويشاركهم هذا الرعب ، وقد تجلَّى ذلك يوم أن كان يتصدر مجلسه في الديوان العامر برجالاته ، فيدور بعينيه يتفقدهم ويستقرئ ما في عيونهم ويستنطق وجوههم ، فلم يهتد إلى شيء كان يبحث عنه ، فانكسر طرفه وأطرق وهو يقول بصوت خفيض يعصره الألم ، وتفجعه الحسرة :
- لقد مسَّني الضُّر ، وأنتم عني غافلون وبمشاغلكم لاهون .
بهذه العبارة ابتدر الشيخ العصفوري أبناءه وأقرباءه وأتباعه من رجالات العشيرة في لقاء ضم الفتيان وكبراء القوم . وكان لسان الشيخ العصفوري يقطر ألماً ، وعيناه تسفحان المهانة التي أصابته ، فيغلي الدم في عروقه ، ويتطاير من عينيه قَدْحٌ من شرر يعمي الأبصار، كما تتطاير على لسانه لواذع الكَلِم لوماً وتأنيباً . وما كان لأحد من الحاضرين أن يجرؤ على مقاطعته أو الرد عليه ، فقد اعتادوا ما عَوَّدَهم عليه شيخُهم ؛ أنه إذا تحدث وجب على الحضور أن يستمعوا له وينصتوا ، ولكنَّ أجهزة السماع لديهم لا تستقطب كل ما يقول ، فقد كان الشيخ غاضباً ، فإذا تمكن منه الغضب فإنه لا يتحكم في لسانه الذي ينطلق بسرعة تفوق قدرة أجهزة السمع على التقاط ما يتناثر من فمه من كلام . وكان الشيخ حزيناً أيضاً، وقد بدا عليه ذلك عندما كان صدره يضطرب عُلُوَّاً وانخفاضاً، فتخرج أنفاسه لاهثة من شدة الضغط العصبي الذي أحدثه فيه ذلك السارق الذي جاء من جديد يغافل الحراس ويسطو على الحِمَى ، ويتسلَّل إلى إسطبله فيختطف الفرس الشقراء الضامرة التي جاءته هدية من أحد مشايخ السَّبَع . هذه الفرس التي لازمته سنين عدداً ، قد اختصها لنفسه دون سائر الخيل ، فلا يحلو له من بينها إلَّاها ، يمتطيها في أسفاره وفي رحلات صيده ، وقد كانت مطيعة مخلصة صابرة كغيرها من الخيول العربية الأصيلة ، ولكنها كانت تمتاز من غيرها من الأفراس بأنها قد ألِفتْ نَزَقَه ، وفهمتْ مُرَكَّبات نفسه البشرية لاسيَّما ذلك التعالي والتَّكَبُر وحُب العظمة لدى صاحبها العصفوري ، فتراها تحس بما يحس به
هو، وتبادر إلى ما تنويه سريرته ، وتميل إلى حيث يرغب في ذلك ، وتنعطف إلى الجهة التي يريد ، دون أن تضطره إلى أن ينهرها أو يلكزها، وهي تُفَضِّل أن تسلس له وتسوسه هي قبل أن يسوسها ، وقد استطاعت أن تروِّضه وتطفئ هيجانه ، وأن تُرضِي غروره وتهذِّب كبرياءه . وكانت كأنها مرآة تعكس له حب العظمة والشموخ الذي يظهره في كل خطوة يخطوها ، فتنقاد بخفة ورشاقة وحيوية ، وتندفع نحو صيوده تعوقها عن الحركة وتَحُول دون انفلاتها حتى تقع في يده .
ها هي الفرس الشقراء التي أطلق عليها العصفوري اسم " ميسون " ، والتي كانت أكثر الخَلْق وفاء ووداً له ، قد اختفت من حياته ، لهذا تجده أشد حزناً ومرارة لفقدانها . وإنَّ مَكْمَنَ الخطر في ضياع " ميسون " لا لأنها متاع قد سُرق ، أو مال قد اغتُصب ، وإنما هو اجتراء اللصوص عليه بكَسْر حاجز الأمن الذي طوَّق به نفسه ، وفرضه على القرى التي تسير في ركابه وتقع في دائرة أملاكه . إنَّ مكمن الخطر في اختفاء فرسه " ميسون " هو ضياع عزه وكرامته ، لأن الفرس رمز العزة والكرامة لدى العربي منذ فجر التاريخ ، وهل يتبقَى للمرء حياة بعد أن يفقد عزته وكرامته ؟ . ويتلوى العصفوري من الغيظ ، وربما من حُرقة الإهانة التي ستشيع بين العرب . وقد لاح له وجه سلمى ؛ ألم تكن هي الأخرى رمزاً لكرامة سباها ، وشرفاً سرقه ؟. وقال كمَّن يحدث نفسه :
- انهدم سياج الْمَنَعَة ، وتجرأ عليَّ من سرق " ميسون " . وماذا بعد ذلك ؟ .
أحس به الحاضرون وبخاصة أولاده ، وحاولوا أن يخففوا عنه حجم الأسى وشدة الحزن ، ولكنه قال لهم :
- يبدو أنها بداية الانهيار ، فإني أشعر بالعرش يهتز من تحتي ، وأنَّ عقيد خيمتي ينوء ، فتتهاوى سُّلْطتي في وادي النسيان . فإن لم تنهضوا للأمر، فإنكم هالكون لا محالة ، وستذهب ريحكم بين العرب بعد أن تمضغكم أضراسهم ثم تلفظكم ، ولن يبقَى من أثركم إلا عارٌ لا يطيقه أولادكم وأحفادكم .
قال نوَّاف الذي بدا بحزن أبيه :
- هَوِّن عليك يا أبتِ ، ولا تُرِنا من اليأس ما يَفُتُّ في عَضُدِنا .
- كيف ؟! . وقد اجترأ علينا سفهاء القوم ، وإني لأشتم روائح الاجتراء تسعى في تحدٍ وصلابة .
- أَوَ مِنْ قلة نحن يا أبتِ ؟ .
- كلا يا ولدي ! ولكنكم لاهون بما نَعِمْتُم به من خيري ، وقد أنساكم هذا الرغد وهذا النعيم الذي تغرقون فيه واجب الحرص والحذر والمحافظة على سياج الأمن والأمان الذي ضربته حولكم .
- نحن نعيش في كنفك ، ولا نجرؤ على المبادرة .
- لقد بنيتُ لكم صرحاً من النعيم ، وكأني بكم أراكم تُحَطِّمُونه بمعاولكم ، فأنتم الخاسرون .
- واللهِ لأهْوَن علينا أن نفقد أنفسنا على أن نفقد سطوتنا .
- ولكنكم غافلون .
- معاذ الله يا أبتِ أن نغفل بعد اليوم ! ولكنَّنا....
فقاطعه أبوهم الشيخ قائلاً :
- كنتُ أُبَاهِي بكم في مجالس العشائر ، وإني لأعترف بسوء تقديري وانخداعي .
قال منصور وهو أحد أبنائه الذي وَرِثَ عن أبيه حبه للعنف والرغبة في الانتقام ،
تماماً كما ورث أخوه نوَّاف هذه النزعة الشريرة :
- نحن يا أبتاه ما زلنا طَوْع بنانك ورهن أشارة منك ، وإنا مازلنا نفاخر بك الآباء وشيوخ العشائر حين تنعقد مجالس المفاخرة ، ومعاذ الله أن نكون من الغافلين!.
- هذا لا يكفي يا ولدي .
- مُرْني ورجالَ العشيرة ، تجدْنا من الطائعين، ولن يكفينا إلا أن تَقَرَّ بنا عيناك،
ويهدأ بأفعالنا فؤادك ، ويستريح ضميرك .
- إنَّ أشد ما يؤرقني وأقسى ما يؤلمني هو أن تلوك ألسنة الشعراء سمعتي وهم ينسجون الحكاوي على أوتار الربابة ، وإنه لينغِّص عليَّ حياتي ما أتخيله كيف يهزأون بي ويسخرون مني في أحاديثهم يوم يُعرَض عليهم في مجالسهم نبأ استلاب الفرس " ميسون " .
وضرب كفاً بكف ، وعضَّ على شفته السفلى ، وكَزَّ على أسنانه بعصبية لم يعهدها منه أحد ، وقد أخذ يتلوى ألماً مَشُوباً بغضب حارق ، واستطرد يقول :
- يمضغون سيرتي في أسمارهم وأنا العصفوري ، ياويلتي ! أهكذا تضيع هيبتي التي يُقِرُّ بها الأدنون والأقصون ؟. أهكذا تُسرق مني فرسي رمز الفروسية عند العرب ؟ . واخسارتاه ! بل وافضيحتاه ! فماذا أقول للشيخ السبعاوي الذي أهدانيها ؟ . هل أقول له أني لست لها بكفء ؟ واأسفاه ! .
وهنا ينهض نوَّاف وهو يقول صائحاً بصوت يقترب من البكاء :
- كفَى يا أبتاه ! ليتني مِتُّ قبل أن أراك في اضطرابك هذا الذي أرى ، وما كان يحسن بك أن تتلوى من ألم ألمَّ بك وأنت تقبع في عرينك كأسد جريح ، وقد أضناك الْهَمُّ والتَّحَسُّر .
- لا تَلُمْنِي يا ولدي إن بدوْتُ جريحاً كما تقول !.
- ليس لَوْماً يا أبتِ ، ولكني أغضب لك لا عليك .
وهنا يقول منصور مخاطباً أخاه نوَّاف :
- وماذا تريد أن تفعل يا أخي ؟ .
- فليطلق أبي يَدَيَّ ، وستروْن ماذا أفعل .
رفع الشيخ عينيه ، وتفرس في وجه نوَّاف ، وقال بلسان مضطرب :
- أنت طليق اليدين يا نوَّاف ، افعل ما تشاء ، ولكنْ حذارِ من الهَوَج والطيش ، وليكن منصور ساعدك دائماً ومشيرك .
وأومأ نوَّاف إلى أبيه ، واستأذن منه للخروج وهو متجهِّم الوجه ، فتبعه أشقاؤه وإخوته ونفر من الرجال ، وعمدوا إلى خَيْلِهم يَسْرجونها ويُعِدُّون أنفسهم ويصلحون من
أسلحتهم ثم امتطوا ظهور جيادهم ، وقبل أن يتحركوا سمعوا صوتاً ينادي :
- عزام ! .
التفت عزام الذي كان يعلو صهوة فرسه ليرافق إخوته ، والتفت جميع الرجال ، وإذا بالمنادي " مريم " أم عزام تدعو ابنها . انطلق الجمع ، ولوى عزام عنان فرسه ، واتجه نحو أمه متسائلاً على عجل :
- ماذا يا أماه....؟!.
- أريد أن أتحدث إليك .
- ولكني أريد أن ألحق بإخوتي .
- ليس الآن يا بني .
- ولكنَّ الأمر خطير ، وأريد أن أتبعهم لأرافقهم .
- ليس قبل أن أتحدث إليك .
- أَلا تُؤجِّلين حديثك هذا إلى وقت آخر بعد أن أعود .
- وقد لا تعود .
برقت عينا عزام وبدا عليه الذُّهول ، فقد أدهشته مقالة أمه ، ولكنه قال في غيظ مكتوم :
- لا تدعيني يا أماه أتخلف عن إخوتي !.
قالت بشيء من الحزم ، أتْبَعَتْه صوتاً ليناً حنوناً :
- قلتُ لك ترجَّلْ عن فرسك ، وهيَّا يا ولدي لأحدثك في أمر أنت تجهله .
أذعن عزام وترجَّلَ عن فرسه ، فاقتادته أمه إلى حجرتها وقد أجلسته قبالتها ، وقالت في حنو واستعطاف :
- عزام ، ولدي ! اسمع عني ولا تكابر .
- تفضَّلِي يا أماه ! إني أسمعك .
- عزام ! أنت ولدي الوحيد الذي أعيش له ، ولستُ امرأة حمقَى لأتركك تسعى
كيما يحلو لهم ؛ فأخسرك في قضية خاسرة ، وأنت مازلتَ في أوائل الشباب .
بُهت عزام ، وأحس دمه ينسحب من رأسه ، وقال بصوت ينم عن الوجوم :
- عمَّ تتحدثين يا أماه ؟ .
- إلى أين كنتَ متجهاً مع إخوتك ؟ .
- إلى بيت جبرين في حملة تفتيشية ، تأديبية .
- ثكلتك أمك يا عزام ! وخَسِئَ إخوتك ، لأنكم جميعاً حمقَى .
- ومتى كان الابن المطيع لأبيه أحمق ؟.
- منذ أن كان الابن يجري في ركاب المعاصي .
- ماذا تقولين يا أماه ؟! أنسيتِ أني ابن الشيخ العصفوري ، ومن حقه عليَّ أن أسمع له وأطيع .
- ولكني أراكَ قد نسيتَ مَن هو الشيخ العصفوري الذي هو أبوك .
- أمي ! لا تتحدثي عن أبي بهذه اللهجة اللاذعة التي لا أرى لكِ فيها وجه حق ، وإنَّ له عليكِ لزوم صوْنه واحترامه .
- نعم ! إنه زوجي ، وإنه أبوك ، وأنا لا أرتضي لنفسي أن أُخْرِجَك عن طاعة أبيك ومخالفة أمره ، ولكني أود أن أُخْرِجَك من طريق تتفجَّر غضباً تحت أقدام سالكيها، ولا أريدك يا عزام أن تكون أحدهم .
- أمي ! أستحلفك بكل الحب الذي يملأ قلبينا أن تتركيني ألحق بإخوتي . دعيني أسابقهم في درء الخطر عن أبي وعنا جميعاً .
- وأنا يا ولدي ، أستعطفك وأستجدي فيك هذا الحب الذي يملأ قلبك أن تترك إخوتك طالما رضوا لأنفسهم بما يسلكون .
توقفت لحظة ، واقتربت من عزام ، وقالت بصوت رقيق يشبه الهمس :
- ليس الرجل بكثرة رجاله ولا بكثرة سلاحه ، فيستعدي على الضعفاء ، ويقهرهم بلا ذنب ارتكبوه أو جُرْم .
- ألم يجترئواعلى حِمانا ؟! ألم يُبادونا بالإثم والعدوان حين امتدت أيديهم إلى
أموالنا سارقين ؟! .
نَدَّتْ مِنْ فيه أمه صيحة واهية تحمل الهُزْء والاستنكار :
- مَنْ سرق مَنْ يا عزام ؟! .
- لقد سبق الوعد مني ، إن امتدت يد السارق إلى شيء ذي قيمة ، أن أُجَرِّدَ
نفسي وسيفي للبحث عن السارق والمسروق ، وأعاقب كل معتد أثيم .
- وهل يعتدي الضعفاء على الأقوياء ؟! . كلا يا ولدي ! إنَّ أباك قد بادءهم بالعدوان ، ورماهم بشروره يوم أن سلبهم كرامتهم ، وانتزع منهم أرضهم ، ومنع عنهم قوامات حياتهم ، وتَحَكَّمَ في قُوت أطفالهم ، ومازالت يده تمتد إلى أغلى شيء يُقْتَنى في قراهم ، وإن لم تُصَدِّق فاذهب إلى سَبِيَّته " سلمى " واسألها من جاء بها إلى محبسها إن كنتَ لقولي من المُنْكِرين .
- ولكنهم سرقوا " ميسون " فرس أبي .
- قلتُ لك إنَّ أباك قد سرق رغيف الخبز وشربة الماء ، وسلب منهم الحرية والإرادة ، وإنه لسارق " سلمى " ابنة القرية ورمز شرفها وكرامتها . أم أني أراكَ تضع " ميسون " في كفة و" سلمى " في كفة أخرى تساويها ؟! .
- ألهذا الحد أنتِ غاضبة من أبي ، كارهة له ؟ .
- بل أكره فيه ظلمه وشدة بطشه بالضعفاء البسطاء .
- ومهما يكن ، فإنه لا يحسن بكِ أن تنهري ابناً أطاع أباه ، وجرَّد نفسه ، وشرع سيفه يقاتل دونه ، فيدرأ عنه الأخطار .
- وما كان لكَ أن تندفع إلى التهلكة لأجل عزٍّ كاذب أو جاه خدَّاع . ومع هذا فإني أرجو لكَ أن تبصر فتحيط بأفانين اللعبة ، فتخرج من بوتقة الجاهلية الأولى التي يستملحها أبوك ويحض عليها .
- وهل كان العربي يوماً خارج أسوار الجاهلية ، إننا ما زلنا نحياها ونجدد حياتها، وسنظل في جهل الجاهلين امتداداً للسابقين .
- إنَّ قلبي يحدثني أنك لا تفكر إلا بما يفكر لك أبوك ، ولا تفعل إلا ما
تُؤمر به .
- لن أخذل أبي ، ولن أدَعْ أحداً يتهمني بالجبن إنْ أنا تراخيت أو تباطأت .
- أحمق مثل أبيك .
- أماه ! لا أراك تُسَرِّين إن انتقصوا من أخوالي عندما يَرُدُّون الرجل لأخواله إذا أحسوا منه ما لا يرضيهم .
- ولكني أرتضي لكَ أن تترفع عن صغائرهم ، أما عن أخوالك فهم أسمى من أن
تصل إليهم الألسنة بسوء . إنهم أهل الحكمة والشجاعة وحسن التدبير ، وأبوك
أول العالمين بذلك ، وقد تكلَّف الكثير من المشاق والمال لمصاهرتهم .
- أماه ! لقد أعياني الحديث ، فلا تجادلي في أمر هو شأن الرجال حين لا يُؤذَن للمرأة فيه بالبروز ، ولا يُطْلَبُ منها إبداء الرأي فيه .
- لقد جهلتَ وربِّ الكعبة .
- دَعِيني الآن ألحق بإخوتي ، فهم عني غير بعيد ، وإني أدَعُكِ إلى محاورة أبي ، عسى أن تقنعيه أو يَرُدَّكِ رداً جميلاً ، وعسى أن ألقاكِ .
وانطلق به فرسه كالسهم الثاقب ، ووقفت أمه تُشيِّعه بناظريها ، ولسانها يعلو شيئاً فشيئاً :
- تعقَّلْ يا ولدي ، وكن رحيماً برضائي عنك. آه ! إنه يذكِّرني بخاله " سرداح " المشهود له بالعناد .
* * * * *
تربعتِ الشمس ذياك النهار على عرشها في صدر السماء ، وأخذت ترسل سهام أشعتها في شيء من الغضب ، وتنفث أنفاساً حارة تكوي أديم الأرض ، وتلفح الوجوه السمراء المعروقة بصهد لاهب ، فيتوقف النشاط الذي كان يدبُّ في الأجساد ، وأصبح كل شيء في قرية بيت جبرين يتحرك برتابة يفرضها عليهم ذلك القانون الصارم الذي أحسوا سطوته ساعة الظهيرة في يوم من أيام شهر تشرين ، فيترك كثير من الفلاحين معاولهم ، ويريحوا بهائمهم التي ما فتئت تَكِدُّ وتكدح في عملها الشاق دون تذمر أو تمرد . ويُهرع الجميع إلى ظلال الأشجار يندسُّون تحتها يستريحون ويُطعَمون ويشربون
مما تحملهم لهم أزواجهم من طعام وشراب وهم في حواكيرهم يعملون .
وبينما هم في قيلولتهم ينعمون بقسط من الراحة حتى أحسوا الأرض تهتز من تحتهم ، وسمعوا صخباً قادماً من بعيد ، ففزعوا منها وأخذوا ينظرون ، وإذا بجماعة من الفرسان تمتطي صهوات أفراسها تُطِلُّ من فرجة بين تَلَّتَيْن تسابق الريح إلى قريتهم ، فاستيقظ الرعب في قلوبهم ، وبدأ يتململ في صدورهم شيء اسمه الخوف ، فطفقوا يلملمون حوائجهم ويتهيأون للعودة إلى بيوتهم حيث أولادهم وبناتهم وأزواجهم ، وهرولوا مسرعين يسوقهم الهلع وشيء آخر مما يتوقعون .
كان نوَّاف وصَحْبُه ينكشون الأرض بحوافر خيلهم فتثير سحاباً من غبار ، وتفرض ظلمة في نهار ، فخفقت القلوب ، وتلاحقت أنفاس هؤلاء الفلاحين الذين كانوا تحت وطأة الخوف . فتطفو على سطح الذاكرة صور ملؤها الرعب مما كان يفعله رجال العصفوري بالقرية ، فيُحْدِثون فيها الأذى ، ويتركونها تئن وتتوجع . أسرعت أقدامهم ، وأسرعت عيونهم ، فارتمت العيون في الأفق ، وإذا بفارس ينهب الأرض وحده فتبيَّنوه ؛ كانت بينه وبين نوَّاف وصَحْبِه مسافة ، هو يراهم أو هو يرى الغبار الذي تثيره خيولهم ، ولكنهم لم يروْه . ولو أنه قد عدا أو أسرع الخطو لجاز له أن يشبه سهماً يشق طريقه ليلحق بهم ، ولكنه تباطأ في عدوه وتردَّد في سعيه ، تدفعه إلى أمام قوة خفية من الكبرياء وتشدُّه إلى وراء نوازع إنسانية شفوقة . وإنه ليسعى سعياً مستأنياً رفيقاً ، يفكر في نفسه وفي أبيه وإخوته والعشيرة ، ويفكر في أمه التي حاولت أن تردَّه وتثنيه عن المشاركة في هذا الشر الذي يسعى نوَّاف ليُنْزِلَه بهؤلاء البسطاء من أهل بيت جبرين فيُحْدِث فيهم حَدثاً يزيد من حزنهم ويزيد من ُسُخْطهم . ويمضي عزام في تفكيره يُقَلِّب الأمور على مختلف وجوهها، وإنه لا يتعجل شيئاً ولا يقف عند شيء ، وإنما يمضي إلى غايته كما يمضي الزمان إلى غايته في أناة ومُهْل وحزم ، وإنَّ الأيام لَحُبْلَى ؛ تأتي بما لا يُقَدِّر المرءُ وقوعه .
شاع بين أهل القرية أنَّ رجال العصفوري قد جاءوا بيت جبرين لاستعراض القوة وإنزال الرعب ، وأذاع آخرون أنهم قادمون في حملة تأديبية كعادتهم ، وتبلبلت الأفكار
فأَعْيَتْ عقول الرجال ، وطارت الأخبار تدخل كل زقاق ، وتنفذ إلى كل دار. وأخذ القوم يُعِدُّون أنفسهم لما قد يصيبهم على أيدي قساة القلوب : نوَّاف ومنصور ومسعود.... وآخرين ، وارتجفت قلوب النساء فأسرعْنَ يَحْشُرْنَ أطفالهن في المنازل خوفاً عليهم مما قد يؤذيهم وطمعاً في نجاتهم ، وقد اتجهت تضرعاتهن إلى الله في عليائه باللطف فيما هو واقع على هذه القرية من أوجاع .
ويجوس نوَّاف ورجاله خلال القرية التي غَلَّقَت الأبواب على نفسها ، فيذرعون شوارعها على ركائبهم وهم يطلقون الرصاص في الهواء ، ويمشطون بالسياط من يستبطئ في مشيه ، فلا يميزون طفلاً من عجوز ، ولا رجلاً من امرأة . فأحدثوا جَلَبَة من صهيل الخيل وصياح الرجال وصرخات النساء والأطفال الذين تئز فوق رءوسهم طلقات " بواريدهم " ومسدساتهم فتزيدهم رعباً وفزعاً . وكان عزام يَقْطُر خلفهم دون أن تمتد يده بأذى ، ويتسابق رجال العصفوري يداهمون البيوت فيُحْدِثون فيها الخراب والدمار، إذ لا يعرفون غير لغة الحطم والتكسير واستلاب ما تصل إليه أيديهم من أغنام أو جِمال أو غِلال ، ولم يتركوا بيتاً حتى اغتصبوا ما فيه من أموال ومتاع ، ولم يتركوا البوايك والمطامير حتى نهبوها ، وسارت خلفهم قاطرات الحمير والبغال والجِمال تئن بأحمالها الثِّقال . ولكنهم لم يعودوا بالديك ، ولم يعودوا " بميسون " ولا بسارق " ميسون "، ولكنهم باءوا بالخسران المبين وبنشوة النصر الكاذب تملأ قلوبهم ورءوسهم ، وعادوا يتضاحكون ويتفاخرون ، ويتباهى كل منهم بحجم ما أوقعه من الأذى والألم والترويع ، وبمقدار ما نهب وسلب .
قال منصور:
- ليهنأ أبونا بما نحمل إليه !.
نظر إليه نوَّاف نظرة لا تخلو من إنكار ، وقال :
- هناءته أن يرى " ميسون " في مربطها أمام ديوانه .
- هيهات ! .
- أتستبعد عودتها إليه ؟ .
- أخشى أن تكون في قرية أخرى .
- أَفْصِحْ يا منصور .
- أتساءل أحياناً وأقول لنفسي : لماذا نُصِرُّ على أنَّ السارق من أهل بيت جبرين ؟.
- وهل لك رأي آخر ؟ .
- إنه خاطر قد لاح .
- وما أظنه إلا شك ، لا أكثر .
- حياتنا كلها شك في شك .
- لأننا لا نلتفت إلى اليقين فنقصده .
- ما رأيك لو أني بُحْتُ لأبي بهذا الخاطر؟.
- لا تفعل يا منصور، لئلا تنكأ عليه جراحه من جديد .
ويقول مسعود بشيء من السرور الذي يخالطه التباهي :
- دعونا ندخل على قلبه فرحة ما أثمرت به حملتنا .
وهنا يخرج عزام عن صمته ويردُّ بعصبية :
- وماذا أثمرت حملتكم ؟. هل عادت " ميسون " ؟. هل عاد إليه الديك الأحمر؟. هل أمسكتم بالسارق ؟. كلا ! بل إنكم ضربتم وبطشتم ونهبتم ما وصلت إليه أياديكم . أهذا برأيكم هو الذي يفرحه ؟ .
ويردُّ مسعود مخاطباً عزام :
- يكفي أننا ننال رضاءه ، ويكفيك سخطه عندما يعلم أنك قد تخلفتَ عنا ، وعندما يقف على ما صدر عنك من الإحجام حين كنتَ بيننا .
- يكفيهم قسوتكم وسطوتكم عليهم ، فهم أضعف من أن يحتملوا المزيد .
وهنا يتدخل نوَّاف ناهراً كليهما :
- أوقفوا مثل هذا الحديث الذي يجلب النزاع ، وهيَّا نحثُّ الخُطَى ، فقد غربت
الشمس وأظلنا الظلام .
* * * * *
تنفَّس الصبحُ فغمر الكونَ ضياءً بهيجاً ، وصَحَتِ القرية تحت وطأة أوجاعها ، وأصاخت سمعها فإذا ببعض الألسنة تتمطَّى بأخبار لا تتسع لها الأسماع ، ولا تستوعبها الأفهام ، فزاد خوفهم من مجهول قادم .
لم يكن أهل القرية يُقَدِّرُون عواقب تبعيتهم للشيخ العصفوري أنها ستصل بهم إلى هذا الحد من الهم والغم ، ولم يكونوا يُقَدِّرُون أنَّ حياتهم ستنحدر بهم إلى هذا الجحيم الأليم ، فكانوا في مجالسهم يهربون من محاسبة أنفسهم ومراجعة أعمالهم ، وإنهم ليعترفون بأنَّ العصفوري هو مصدر آلامهم ، ولكنهم لم تبدر منهم بادرة من شأنها أن تزيل عنهم هذا الاسترقاق ، ولم يجرؤوا على التصدي لِكَفِّ الظلم والهوان عنهم ، فكم من مرة زلزلت الأرض زلزالها من تحت أقدامهم ، وإنهم دائماً يدفعون باهظ الأثمان ، فلماذا لا يدفع العصفوري جزءاً من الثمن ولو مرة واحدة ؟ .
ها هم أهل قرية بيت جبرين وزيتا وتل الصافي ورَعْنا وعجور وغيرها من القرى المجاورة ، لا يأمنون على أنفسهم ليل نهار. فكلما جنَّ الليل يستعجلون الصبح ، وإذا طلع عليهم النهار يستحثُّون خُطَى المساء ، فلا الليل يمنعهم من وحشته وخوفه ، ولا النهار يمنحهم أنسه وأمنه .
وها هو الفجر قد شقشق من بين طيَّات أردية الليل ، وها هو الصبح قد تنفَّس فأقبل يسعى مستأنياً بأخبار تجوس خلال الديار والأزقة ، فتَدُقُّ في الأجساد ساعة عتيقة قد أصابها العطل ، أو هي كجذوع الأشجار النخرة تكاد تطيح بها نفخة من ريح صرصر عاتية . ويُقْبِل بعضهم على بعض يتساءلون قبل دخولهم المسجد : ما الأخبار ؟ . ماذا حدث يا ناس ؟ . هل أمطرت علينا السماء وابلاً جديداً ؟ .
ويتحلَّق الرجال حول أحدهم ، الذي انبرى يقول بصوت خفيض يشبه الهمس ، بينما كانت عيناه تجولان هنا وهناك خوفاً من الرُّقَباء الواشين :
- يقولون إنَّ جماعة من الفرسان قد كمنت لرجال العصفوري مساء أمس وهم
خارجون من قريتنا في طريقهم إلى خِرْبة العَطَّار.
- وماذا حدث ؟.
- تناوشوا فيما بينهم بإطلاق الرصاص عن بُعْد .
- وهل أسفرت عن نتيجة ؟ .
- كل معركة تنتهي بنتيجة .
- أَفْصِحْ بما عندك من أخبار! .
- يقولون : إنَّ رجال العصفوري قد نجوا من هذا الكمين ، ووصلوا إلى ديارهم دون خسائر.
- وماذا عن الآخرين ؟ .
- لا أدري !.
- ولكننا سمعنا بعد صلاة العشاء صوت الرصاص جهة قصر العصفوري .
- تلك معركة أخرى ، لا نعلم تفاصيلها .
وظلَّ الخبر ناقصاً لا يروي الظمأ ، فلم يتبيَّنوا هوية المهاجمين ودوافعهم ، ولم تصل بهم الأنباء إلى تسمية القتلى والجرحى . وما إن أتموا صلاتهم حتى خرجوا فتجمهروا بباب المسجد رافعين رءوسهم وألسنتهم إلى السماء ضارعين إلى الله أن يلطف بهم .
- إنه ديْن يُضاف علينا ، سندفعه قريباً .
قال أحدهم :
- وما لنا فيما حدث من يد ، فلماذا نحمل وزره ؟! .
- وهل أنتم متأكدون أنَّ المهاجمين ليسوا من رجال الدَّرَك الذين يتربصون بالمهربين ؟ .
- يقولون إنهم من قُطَّاع الطرق .
تفرَّق الرجال ، فمنهم مَنْ قصد بيته ، ومنهم من قصد ديوان المختار أبي سفيان ، ولم يخرج أحد منهم إلى حواكيرهم وحقولهم ، ولم يخرج أحد عن صمته ، فكلهم ينزوي تحت حائط قد صدَّعه الزمن البالي ، فكلحت وجوههم وهم جلوس حول المختار الذي
بدا عليه السهوم والوجوم . وبينما هم في صمتهم هذا إذا بخالد يدخل عليهم وينشر السلام ثم يقعد ، فإذا بهم يصوِّبون إليه نظراتهم ، فيغضُّ عنهم بصره ، ثم يجول به على وجوههم، ثم يرتدُّ طرفه ، ويطلق من صدره تنهيدةً حارة ، ويشهق من الهواء ما يكفي قلبه لأن يهدأ بعد قلق واضطراب فيستقر في مكانه ، ثم استرق نظرة أخرى إلى الجالسين ، فرأى العيون تُصَوِّب نظراتها إليه ، بل إنها ترقبه بشيء من الريبة أو هكذا
خُيل إليه ، ولكنه استيقن من علامات التساؤل التي ترتسم على وجوههم أنهم في شوق إلى معرفة الأخبار اليقينة .
- ما وراءك من أخبار يا خالد ؟ .
هكذا ابتدره المختار أبو سفيان بصوت رزين لا يخلو مِنْ ارتعاشة خفيفة في أوتار صوته جعلته يتنحنح لتسليك مجرى النفس ، فيردُّ خالد وقد انفرجت شفتاه عن ابتسامة مغتصَبة لا تدعو إلى الاطمئنان :
- ليس لدي أكثر مما لديكم يا مختار .
ذَبُلَ الرجاء على وجوه القوم الذين توقعوا أن يسمعوا شيئاً من خالد يشبع نهمهم . وأطرق المختار أبوسفيان كسيفاً وأطرق معه الآخرون ، ولكنَّ الشيخ عبد السلام يفجؤه قائلاً :
- أين كنتَ ليلة أمس يا خالد ؟؟ .
احتضنت عينا خالد المختار أبا سفيان مشفقاً عليه وعلى نفسه ، ثم ارتدَّ طرفه وأجاب بصوت خفيض :
- كنتُ في القرية .
- قل غير ذلك .
- لا تتعجل الأمور يا عماه ، فكل أمر بميعاد .
لاحت ابتسامة رقيقة على وجه المختار أبي سفيان وقال مسعِفاً خالداً :
- لا تثقل يا شيخ عبد السلام بأسئلتك على خالد .
التزم الشيخ عبد السلام الصمت ، وأخرج مسبحته من جيب قمبازه ، ثم أخذت
أصابعه تتقافز فوق حبات المسبحة ، بينما أخذ بصره يتقافز فوق وجوه الحاضرين ، وقد غلب عليه الظن أنَّ كثيراً منهم لم يتسرب الفهم إلى عقله ، ولا وعَى مما دار شيئًا .
انطوى خالد على نفسه ، وتدثَّر بلباس الصمت يرقب العيون التي تحاصره ، فتراءى له حجم القلق الذي هم فيه يرتعون ، ومع هذا فقد ظل قابعاً في صمته ، ولم
يشارك القوم فيما هم فيه من حوار وجدال ، فهو يعتكف في واد وهم في واد آخر يهيمون ، ومع هذا فالأمل يجري في عروقهم ، يرقبون بشائره من بعيد ، ومنذ زمن بعيد . وفيما هم عليه من حال ، يدخل رجل عجوز ديوان المختار أبي سفيان ، فيحيِّ ثم يجلس . أخذ المختار أبو سفيان يمدُّ بصره إلى وجه هذا الرجل يستقرئ ما فيه من أنباء ، وقال له :
- ما وراءك يا أبا سليمان ؟ .
أخرج الرجل من جيب سترته علبة التبغ ، وانتزع ورقة من دفتر السجاير، وملأها من الهيشي ، وأخذ يبرم سيجارته ، وقبل أن ينتهي منها أعاد عليه المختار سؤاله :
- ماذا وراءك من أخبار يا أبا سليمان ؟ .
وضع السيجارة بين شفتيه ، وأشعل قداحته وقرَّبها من السيجارة فتوهجت ، ونفث الدخان من فيه ، وقال :
- إنه شر مستطير .
انطلقت هذه الكلمات من فيه تنشر الذعر وتثير الفزع ، فوجم القوم واغبرَّ جو الديوان بألسنة الدخان المتصاعد هنا وهناك ، واكتحلت العيون بشر يسعى ، فقال المختار مستغيثاّ من خوف قادم :
- يا ستَّار يا رب !! .
كفَّت الألسنة عن أحاديثها ، وأخذ القوم يمدُّون آذانهم لأبي سليمان ، وقد تقطَّبت جباههم ، واختلجت شفاهم تتعوَّذ بالله من الشيطان الرجيم ، وفردَ الصمت جناحيه
على رءوس الحاضرين ، ولكنَّ الشيخ عبد السلام نهره قائلاً :
- تحدَّثْ يا رجل ، ولاتُدارِ! .
انطلق صوت أبي سليمان يشقُّ ستار الصمت :
- لقد سمعتُ أنَّ جماعة من الملثمين قد داهمت حِمَى العصفوري الليلة الفائتة ، فأفسدت في ممتلكات قصره ، وأتلفت الشيء الكثير من عمائره ، وأشعلت النيران في مستودعات الغِلال والأتبان ، وكسرت أبواب البوايك مُحْدِثَة فزعاً عظيماً في غفلة من الجميع ، وهربت تحت جنح الظلام . وقد أفاق العصفوري ورجاله على صوت طلقات البنادق بينهم وبين أحد الخفر، فأفزعه مرأى النيران الأكولة ، فأرسل في إثرهم كوكبة من أبنائه ورجاله ، لملاحقتهم وهم في الطريق إلى خِرْبة " أم بُرْج " حيث تراشقا الطلقات ، وحيث احتدم القتال .
- وبعد...؟ .
- إنَّ ما بعد ذلك لأشد مصيبة .
- هل أمسكوا بهم أو بأحدهم ؟ .
- كلا ! .
- هل عُرِف أولئك الملثمون ؟ .
- كلا !.
- إذن ، ماذا ؟. تكلم .
أخذ أبو سليمان يلفُّ سيجارة أخرى بين أصابعه ، وكلهم شوق إلى سماع آخر هذه الجولة الجريئة من رجال مجهولين . ثم قال أبو سليمان بعد أن أشعل سيجارته ، ورشف فنجان القهوة دفعة واحدة :
- يبدو أنَّ الملثمين استطاعوا الوصول إلى خِرْبة " أم بُرْج " التي كانت تعجُّ برجال منهم كثير ، فاشتد القتال وتكاثروا على رجال العصفوري ، فقُتل نوَّاف وآخر مِن رجاله اسمه النَّمر خادم القصرين ، وأُصيب مسعود وجاسر ، وفَرَّ
الآخرون سالمين ومن بينهم منصور ، ليته ما نجا ! .
- وما الخسائر في الملثمين ؟ .
- نَجَوْا جميعاً سالمين إلا واحداً إصابته بالغة ، وآخر جرحه بسيط .
وتوقف أبو سليمان ، وأخذ ينظر في وجوه القوم .
- وماذا علمتَ أيضاً ؟ .
- بل سمعتُ أنَّ سعيداً قد هرب من السجن .
انبرى الشيخ عبد السلام قائلاً بلهجة يختلط فيها الفرح بالحزن ، والارتياح
بالخوف :
- ماذا تقول يا أبا سليمان ؟! . سعيد خارج السجن ؟ إننا لم نَرَ له ظلاً في قريتنا .
قال أبو سليمان وهو يبسط كفيه :
- هذا ما سمعته ، فلا أجبركم على تصديق هذه الأخبار حتى تتكشف حقائقها.
انطلقت ألسنة الحاضرين في همهمات مبهمة ، وبدا على وجوههم شيء من السرور الذي يخالطه القلق ويشوبه الارتياب ، ومال المختار أبو سفيان إلى الشيخ عبد السلام متسائلاً بلهجة يفوح منها الشك :
- أَتُصَدِّق ما سمعت ؟ .
- وما رأيك أنت ؟ .
- مازلتُ على الشك ، مع أننا ما عهدنا على أبي سليمان الكذب ، فهو عندنا الصادق الأمين ، وأنت تعرفه .
- نعم.... نعم ، ولكنْ مسألة هرب سعيد من سجنه هي التي تدعوني إلى عدم التصديق ، فدَعْنا نتريث .
لاذ خالد بجدار الصمت مرة أخرى ، فهو يرى ويسمع ويتابع تعليقات القوم ، وإنه ليعجب أشد الإعجاب بأبي سليمان الذي أسمته القرية بالمذياع المتنقل ، وأحياناً ينعتونه متفاكهين : مراسل الأخبار، هذا الرجل الذي استطاع أن يهدم جدار الصمت ،
وأن يأتي بالأخبار وكأنه شاهد عيان على الأحداث التي جَرَت على أرض المعركة في خِرْبة " أُم بُرْج ". وابتسم خالد في نفسه ، وهَزَّ رأسه مُشْفِقاً علَى سعيد مِن عاقبة
انتشار خبر خروجه من السجن ، فلن يتركه رجال الدَّرَك ورجال العصفوري الذين سيجتهدون في ملاحقته ، وسينشطون في مطاردته . ولكن ليس اليوم كالأمس ، فالدولة العثمانية مشغولة بحربها الكبرى ضد الإنجليز ، والعرب ينتظرون هزيمة الأتراك على أمل أن تعطيهم حليفتهم بريطانيا الاستقلال !!!. وكادت أفكاره ترسله إلى بعيد ، لولا صوت الشيخ عبد السلام قد شدَّه إليه قائلاً :
- أيها القوم ! إني أرى رأياً ، فاسمعون .
قال المختار أبو سفيان :
- وماذا ترى ياشيخنا ؟ .
- أرى أن نسرع في تعزية العصفوري قبل أن ننال من شره ما نكره ، وعلينا أن ندسَّ في رأسه أننا مازلنا أتباعه ، وأننا نستنكر ونشجب ما حدث ، ولا بأس أن ننعت هذه الفعلة والفاعلين بالجريمة النكراء التي قام بها مجرمون ، ونحن منهم بَرَاء .
قال خالد معترضاً :
- ولماذا نستنكر ؟ وماذا نشجب ؟ .
ردَّ الشيخ عبد السلام بنبرة واهية ولكنها لاذعة :
- إنها مجاملة نتقرب بها إلى الشيخ العصفوري زُلفى ، فمازلنا نخشى بطشه .
ثم يلتفت إلى يمينه وإلى شماله ويقول :
- ما رأيكم فيما أرى ؟ .
أعلن الحضور موافقتهم ، واختاروا أعضاء الوفد الذي ينوب عن أهل القرية في تقديم واجب العزاء للشيخ العصفوري ، وكانوا من الشيوخ ، وعلى رأسهم المختاران والشيخ البكري والشيخ عبد السلام والحاج زكي وآخرون ، وقد امتنع الحاج حسين أبو النُّور والشيخ زيدان عن المشاركة ، وتواعد القوم للخروج في ساعة من نهار .
[email protected]
دنيا الوطن


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.