مواضيع ذات صلة حسام عيتاني يقف الرئيس ميشال سليمان بكامل قيافته محاطاً بنظيره اليوناني وبعقيلتيهما ووراء الجميع أعلام لبنان واليونان والاتحاد الأوروبي. يشدد رئيس لبنان على أهمية الامن والاستقرار و «هناء عيش شعوبنا» وعلى البحث عن «مقاربات وحلول مشتركة لمشكلات وتحديات سياسية واقتصادية باتت شاملة الأبعاد». الكلام السليم في الزيارة الرسمية إلى أثينا، تكرار لكلام مشابه، لكن كلاماً أقل انتباهاً إلى أخطار العنف والظلم في عالمنا العربي، كان قد أدلى به رئيس الوزراء نجيب ميقاتي في زيارتين إلى باريس وروما. سلامة الكلام اللبناني أثناء جولات المسؤولين في الخارج، يبدو نتيجة تفكير عميق بما يجري في محيط لبنان القريب، في سورية ومصر وفلسطين. لكن ثمة مفاجأة في ثنايا هذا «الخطاب»، ذلك أن الوضع اللبناني الداخلي، يتأرجح قرباً وبعداً من كارثة حرب أهلية وانهيار اقتصادي في آن. الرئيس اللبناني ألقى كلمته في الاحتفال الرسمي اليوناني في وقت كانت ثاني أكبر المدن اللبنانية، طرابلس، تشتعل باقتتال طائفي ترك خلال ثلاثة أيام أكثر من 12 قتيلاً وعشرات الجرحى فضلاً عن مئات الأُسر التي اضطرت لمغادرة منازلها القريبة من خطوط التماس الأزلية بين منطقتي التبانة وجبل محسن في المدينة. واللافت أن جولة القتال الحالية بدأت بعد ساعات قليلة من تحركات في أحياء المعاناة الدائمة من الاحتراب السنّي – العلوي، تطلب تحقيق وعود الحكومة اللبنانية بالتعويض على ضحايا الجولات السابقة ومن تضررت بيوتهم ومصادر أرزاقهم. ومن مآسي طرابلس أن ضحايا الاشتباكات الأخيرة، ربما زادوا عن عدد مَن سقطوا في المكمن السوري للمسلحين الإسلاميين في بلدة تل سارين أثناء توجههم للمشاركة في القتال إلى جانب المعارضة السورية. وكان مقتلهم السبب المباشر لتوتر أجواء المدينة الشمالية ثم اندلاع الجولة التي اعتبرت من أعنف ما شهدته طرابلس من معارك منذ سنوات. ظلت التقديرات عن قتلى الإسلاميين في مكمن تل سارين تتراوح لأيام بين أربعة واثني عشر قتيلاً. والحال أن ما تطرحه طرابلس على الدولة اللبنانية غاية في الإحراج لكل ما يمكن أن تدعيه دولة ذات سيادة على أراضيها. من ناحية هناك التناحر الطائفي المستمر في المدينة، بوتائر صاعدة وهابطة منذ السبعينات، المرتبط بعوامل التجاذب الإقليمي، بين حافظ الأسد وياسر عرفات، في مرحلة سابقة، ثم بين «تيار المستقبل» وحلفائه الإسلاميين والوجهاء المحليين من جهة وبين الممثلين الطرابلسيين لقوى الثامن من آذار في الشمال من جهة ثانية. تحضر في خلفية المشهد حال من الفقر الشديد (بعض مناطق طرابلس لم تعرف معنى للتنمية منذ استقلال لبنان) حيث لا تحضر الدولة ومؤسساتها إلا كرجل أمن وجابٍ للضرائب والرسوم. وتتخلى أجهزة الدولة، في المقابل، عن كل أدوارها الاجتماعية والاقتصادية لمصلحة مجموعة من السياسيين يتنافسون في استغلال بؤس وحرمان أهالي الأحياء التي تعيش نكبة لا أول لها ولا آخر. ولا تغفل الحكومة عن هذه البداهات. فوزير الداخلية مروان شربل يرى أن «الفقر هو السبب الرئيس للأحداث». لكن ذلك لا يشكل دافعاً كافياً للنظر في أحوال المدينة التنموية، بل على العكس، ففي نظر شربل، الدولة حاضرة بجيشها الذي «يقوم بواجبه ويتحمل ما لا يستطيع أحد تحمله». وما من داع للتذكير بأن المعالجات الأمنية لمشكلات طرابلس هي سلسلة من الإخفاقات منذ نهاية عقد التسعينات عندما فشلت الدولة اللبنانية في التقاط إشارة التحذير التي وجهتها «أحداث الضنية» بين مسلحين إسلاميين وقوات الجيش. الأنكى أن الدولة التي تدفع أجهزتها الأمنية للفصل بين المتقاتلين وإجراء الاتصالات للتوصل إلى وقف للنار لا يعمّر سوى أسابيع قليلة، وليس لقمع المسلحين ومطاردتهم على ما يفترض بها، تمتنع حتى عن التعويض على المتضررين وهو الواجب عليها بسبب تقصيرها في الوفاء بمهماتها الأبسط: ضمان أمن مواطنيها. فلا حل في ظل التوازنات التي تحكم أداء المؤسسات الرسمية اللبنانية، غير محاولة عزل طرابلس والعمل لمنع امتداد الورم الذي يأكلها إلى أجزاء أخرى من البلد، في انتظار قضاء الله وقدره الذي قد يأتي على شكل انهيار مأمول للنظام السوري وتغيير في موازين القوى المحلية، بالتالي. بيد أن المحاولة هذه محكومة بالفشل. فالعلامات على تفشي العلة ظاهرة ولا تحتاج إلى خبرة كبيرة لاكتشافها. هي حاضرة في صيدا التي تهتز على دوي خطابات التحريض والاستفزاز الطائفيين، وفي بيروت التي بات بعض أحيائها يبز الحارات الطرابلسية فقراً وانغلاقاً. وعلى رغم تعاقب السنين، قد تكون أعمال الباحث الفرنسي ميشال سورا عن «الأمة - الحارة» وعن بربرية النظام السوري ودوره في زعزعة محيطه للحفاظ على نفسه ما زالت صالحة كمدخل لنقاش حال طرابلس في ما يتجاوز وضعها الأمني ونفوذ رجال الدين المحليين والسياسيين الذين يزدادون فساداً وتفاهة مع الزمن (سورا ذاته ذهب في 1986 ضحية عقلية «الأمة - الحارة» التي كانت آخذة في التبلور في غير طرابلس). عليه، في الوسع الجزم بأن التوتر الطرابلسي الدائم لا يمكن حصره ومنعه من التمدد إلى مناطق أخرى في لبنان تتقابل فيها الطوائف المتشنجة، وتناقضاتها وصراعاتها السياسية. فالفقر الطاغي على لبنانيين كثر، يصم الأسماع ويحول دون الإنصات إلى خطابات حكيمة يلقيها رئيسا الجمهورية ومجلس الوزراء في القاعات البعيدة. هذا ناهيك عن الغربة الشديدة عن فكرة «هناء عيش شعوبنا».