يمكن الجزم بأن ما من أحد زار معرض الشارقة الدولي للكتاب في دورته الأخيرة، ولم يلتفت إلى الكتب والخرائط القديمة الموجودة في واجهات العرض الزجاجية في ممرات المعرض الرئيسة . ويمكن الجزم أيضاً أن عدداً كبيراً من الزائرين تساءل عن تلك الكتب التي تجاوز عمر بعضها أربعة قرون، خصوصاً مع تّحلّق الكثير من الزوار حولها وإمعان بعضهم في خطوطها، ووجود رجال أمن ينبهون الحاضرين لعدم المكوث طويلاً أمام تلك الواجهات، ليتمكن غيرهم من مشاهدتها . الإجابة تأتي من صاحب مكتبة ابن سراج، عبد العزيز العزّي، الرجل كبير السن المتواجد غالباً حول المعروضات الذي يحكي العربية ممزوجة بالفرنسية، فهو الذي كان مشرفاً على اقتناء كل تلك الكتب والرسوم . وحيث لا يجدي الكاتولوج المركون بجانب المعروضات كثيراً في فهم قصة الكتب المعروضة، فهو يخلو من شرح باللغة العربية، وغالبيته مكتوب باللاتينية والفرنسية، ولا يشتمل إلا على ثلاث صفحات كتبت بالعربية تحكي موجزاً لقصة الكتب . تبدأ القصة في 17ديسمبر/كانون الأول من عام 2011 حين سقطت قنبلة "مولوتوف" في مبنى المجمع العلمي المصري، في ميدان التحرير بالقاهرة، خلال اشتباكات دارت بين المتظاهرين وقوات الأمن، راح ضحيتها آلاف الكتب النادرة والقديمة التي كان يضمها المجمع في مبناه الذي احترق بالكامل ولم يبقَ منه غير الجدران المتفحمة . بناية المجمع احتضنت مكتبة يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر، حوت ما بين 100،000 و200،000 مجلد، تمثل 20،000 عنوان، حيث اشتملت المكتبة على: أرشيفات، ووثائق يعود تاريخها إلى الحملة الفرنسية على مصر خلال الفترة من 1798 إلى ،1801 بالإضافة إلى دوريات، ومجموعات نادرة، وكتب رحلات، ومؤلفات نادرة وثمينة تتعلق بمصر وتاريخها وحضارتها، علاوة على مختلف المنشورات، كنشرة المجمع العلمي المصري، وعمرها أكثر من قرن ونصف . تلك الخسارة التي لا تقدر بثمن عالجها صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، فما أن تناهت تلك الأنباء إليه حتى قام فوراً بالاتصال بمسؤولي المجمع للوقوف على حجم الكارثة، وكان قراره؛ إعادة إعمار المجمع العلمي المصري، وتحمّل كامل التكاليف اللازمة لإعادة تجهيز المكتبة اعتماداً على فهارسها . ولتعمير المكتبة من جديد، طلب صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي دراسة تقيمية من مكتبة ابن سراج في باريس المتخصص في الكتب القديمة والمخطوطات النادرة . وما أن أنجزت الدراسة التقيمية لفهارس محتويات المجمع حتى تبيّن أن ما يقارب من 70% من محتوياته تقريباً كتبت بلغات أوروبية، فرنسية في معظمها، و30% كتبت بالعربية، و90% منها مقتنيات علمية نادرة . وبخصوص نسبة ما يمكن إرجاعه من مقتنيات المجمع، تبين أنه بفضل السوق الغربية، خاصة عن طريق الشبكات الإلكترونية، يمكن تجهيز المكتبة بما ينيف على 80% وفي مدة لا تتجاوز الثلاث سنوات . بناء على تلك الدراسة، كلف صاحب السمو حاكم الشارقة، في آخر يناير/كانون الثاني،2012 مكتبة ابن سراج للبدء في تنسيق وتجميع المقتنيات . وقامت المكتبة بترتيب العمل تبعاً لعاملين؛ الأول اقتناء المؤلفات المتعلقة بمصر مباشرة، والبحث على الكتب النادرة والنفيسة، وخلال شهر فبراير/شباط الماضي، قامت المكتبة باستجلاب الدفعة الأولى من المقتنيات، بالتعامل مع شبكة مكتبات بالمراسلة في باريس ولندن، ونيويورك، وميلانو، ومدريد، . .الخ . وبهذا بلغت المقتنيات 4000 كتاب، وبمناسبة معرض الكتاب الدولي للشارقة الذي انتهى منذ فترة وجيزة، فإن مكتبة ابن سراج عرضت جزءاً من الكتب قبل نقلها إلى المجمع، حيث عرضت ما يقارب 2000 عنوان مرجعي حول مصر والشرق الأوسط، إضافة إلى اختيار نحو مئة كتاب ومجموعة نادرة وثمينة حول مصر مثل: موسوعة "وصف مصر"، وموسوعة ديدرو ودالومبير، و"رحلة في مصر العليا والسفلى" لفيفون-دينون، و"الفن العربي حسب آثار القاهرة" لبريس دافين، و"هندسة القاهرة المعمارية العربية" لكوست، و"ذكريات القاهرة" لبريزيوسي، و"قواعد اللغة المصرية القديمة" لشانبليون، ومنشورات المجمع، مثل النشرة العلمية التي يعود تاريخها إلى أكثر من قرن ونصف . مدير مكتبة ابن سراج، عبد العزيز العزّي، الخبير في الكتب القديمة العربية والإسلامية في باريس، كان لنا وقفة معه حول الكتب المعروضة وأهميتها ومراحل جمع وإعداد الكتب وكلفة اقتنائها . وحول غياب ترجمة عربية لكاتالوج المعروضات، واكتفائه باللغات الأجنبية، فأجاب: "لم يوضع كاتالوج للكتب المعروضة باللغة العربية، لأن الشروح الموجودة في الكاتالوج عن الكتب هي ملخصات موجزة باللاتينية، وفيها وصف فني ومصطلحات في اقتناء الكتب وأنواع الورق والتجليد، لا يوجد لها مرادف في اللغة العربية، وذلك يعود إلى أن ترجمة تلك الملخصات إلى العربية مرهق، ربما تحتاج الفقرة الواحدة بالإنجليزية أو الفرنسية إلى صفحات عدة ليتسنى تفكيكها وشرحها لتظهر بصورة واضحة، يمكن فهمها ومعرفة محتواها" . الكتب المحفوظة بعناية، تظهر ما هي عليه من ندرة وتوحي بأثمان باهظة لإقتنائها، حول ذلك يوضح العزّي: "الكتب المقدمة لمجمع مصر بعضها جاء إهداء من مقتنيات الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، والبعض الأكبر اقتناء من أسواق أوروبية، ولا يمكن حصر التكلفة الإجمالية لهذه المقتنيات والكتب المتبرع بها، لكن معظم الكتب تراوح أسعارها بين 250 ألف يورو ومليون يورو، وقد يرتفع سعرها أكثر وقد يقل، وذلك عائد إلى المزادات التي تعقد لمقتنيها" . ويؤكد أن "الكتب المعروضة تعد من أندر الكتب وأقدمها، خصوصاً في ما كتب عن مصر، لافتاً إلى أن عمر بعضها يبلغ أربعة قرون، ومن النادر تواجده في أسواق الكتب القديمة، وإن توفر فربما كل عشر سنوات مرة واحدة ويكون بأثمان عالية" . ويشير إلى أن "الأهمية في هذه الكتب هي أنها أصلية، أي أن ورقها ورق طبيعي لا يتلف مع مرور مئات وآلاف السنين، كما هو حال الورق المصنع، والطباعة الحجرية ليست سهلة، وكذلك تقنيات التجليد والحفظ، كل تلك العوامل ترفع من قيمة الكتاب، وتزيد من ثمنه وتصعب الحصول عليه" . ويتابع العزّي "إنها تعد من أهم الكتب في ميادينها"، موضحاً أن مواضيعها تتنوع بين؛ التاريخ، والحضارة، والجغرافيا، والعلوم الطبيعية، والعلوم التقنية، والدراسات الإسلامية، والأدب العربي، والمراجع الاستشراقية، وكتب الرحلات، وغيرها، ونظراً إلى أن هذه الكتب المعروضة مكتوبة بالفرنسية والإنجليزية القديمة فإن المتلقي غير المتخصص لا يمكن له معرفة عن ماذا تتحدث الكتب التي تفتح صفحاتها للزائرين . العزّي يتوقف في حديثه عند بعض الكتب ليكشف جانباً من موضوعاتها فيقول: "نجد بين الكتب المعروضة، معلقة طرفة بن العبد، وهي ترجمة من العربية إلى اللاتينية أنجزت في القرن الثامن عشر 1742م، وتعد ترجمة المعلقة الأولى للاتينية وجاءت على يد أحد كبار المستشرقين وهو المستشرق راسيك" . ويضيف: "من الكتب الموجودة الذي يعد من أهم المقتنيات، كتاب "وصف مصر" وهو كتاب أُلف إثر حملة نابليون على مصر ويأتي في 36 جزءاً، وألفه ما يزيد على مئة عالم جاؤوا مع نابليون إلى مصر، وكان نابليون قد أحضرهم معه خصيصاً لهذا الغرض'' . ويكاد يجزم أن "دائرة المعارف الفرنسية" الأهم من بين الكتب المقتناة، بقوله: "يمكن القول إن من أهم الكتب الموجودة، هو "دائرة المعارف الفرنسية" المكونة من 36 جزءاً، لمؤلفها ديدرو ودالومبير الذي كتبها مع عدد من العلماء في عام ،1750 وهي الدائرة التي فتحت باب الحداثة في أوروبا . يشار إلى أن المجمع العلمي المصري من أعرق المؤسسات العلمية؛ مر على إنشائه أكثر من مئتي عام، ضمت مكتبته 200 ألف كتاب، أبرزها أطلس عن "فنون الهند القديمة"، وأطلس باسم "مصر الدنيا والعليا" مكتوب في عام ،1752 و"أطلس ألماني" عن مصر وأثيوبيا يعود إلى العام ،1842 وأطلس "ليسوس" الذي ليس له نظير في العالم وكان يمتلكه الأمير محمد علي ولي العهد الأسبق، وأدخل مركز معلومات مجلس الوزراء، هذه المكتبة النادرة على الحاسب الآلي . أنشئ المجمع في القاهرة 20 أغسطس/آب عام 1798 بقرار من نابليون بونابرت، وكان مقره في دار أحد بكوات المماليك في القاهرة ثم نقل إلى الإسكندرية في عام 1859 وأطلق عليه اسم المجمع العلمي المصري ثم عاد للقاهرة في عام ،1880 وكانت أهداف المجمع العمل على التقدم العلمي، ونشر العلم والمعرفة . وضم المجمع أربع شعب هي : الرياضيات، والفيزياء، والاقتصاد السياسي، والأدب والفنون الجميلة، وفى عام 1918 أجريت تعديلات على الشعب لتحوي الآداب والفنون الجميلة وعلم الآثار، والعلوم الفلسفية والسياسة، والرياضيات، والفيزياء، والطب والزراعة والتاريخ الطبيعي . وكان الباعث على إقامته سببين؛ السبب الظاهر للعيان العمل على تقدم العلوم في مصر، وبحث ودراسة الأحداث التاريخية ومرافقها الصناعية، وعواملها الطبيعية، فضلاً عن إبداء الرأي حول استشارات قادة الحملة الفرنسية، ولكن الهدف الحقيقي هو دراسة تفصيلية لمصر وبحث كيفية استغلالها لصالح المحتل الفرنسي، ونتج عن هذه الدراسة كتاب "وصف مصر" .