الإعلان عن نتائج الحصر الرسمي للباحثين عن عمل قبل أيام قطع الشكوك باليقين في شأن التعددية الرقمية القائمة على الاجتهادات حول الحجم الحقيقي للمشكلة بما يجعلها مكشوفة الأبعاد أمام صانع القرار، خاصة أن هذا الاعلان يتضمن تحديد المحافظات والولايات الأكثر معاناة . الرقم الرسمي الذي أعلنته الهيئة العامة لسجل القوى العاملة بعد أكثر من ثلاثة أشهر من الجهود المتواصلة بمشاركة الأجهزة المعنية، بما في ذلك جمع البيانات والرصد والتدقيق والتحليل، لم يكن بالضخامة التي تضاربت تقديراتها بين جهة وأخرى، فقد تبين أن العدد الفعلي للباحثين عن عمل في عموم السلطنة مئة وثلاثة وخمسون ألفاً وثلاثمئة وستة وعشرون مواطناً من بينهم خمسة وخمسون ألف ومئة وأربعة وستون من الذكور يشكلون نسبة ستة وثلاثين في المئة، وثمانية وتسعون ألفاً ومئة واثنان وتسعون من الاناث يشكلن نسبة أربعة وستين في المئة . نتائج الحصر الفعلي حددت أيضاً الولايات الأكثر معاناة من المشكلة، والتي تصدرتها كل من "صلالة وصحم وصحار والسويق وعبري والسيب" مشكّلة ما نسبته ثلاثة وثلاثين في المئة من العدد الاجمالي، الأمر الذي قد يفسر الدافع الرئيس وراء "الاحتجاجات والاعتصامات" التي كان الشارع العماني شهدها قبل عامين بكل ما يعنيه ذلك من "سوءات" غياب الرقم الصحيح وقاعدة البيانات الدقيقة التي هي بمثابة أضواء كاشفة لأبعاد المشكلات الوطنية، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو حتى أمنية . حملة شهادة الدبلوم العام - الثانوية العامة فما دون- يشكلون ثمانية وثمانين في المئة من إجمالي الباحثين عن عمل حيث تصل أعدادهم إلى مئة وثلاثين ألفاً تقريباً، يقابلهم أكثر من سبعمئة ألف وافد يحملون شهادات الابتدائية والإعدادية والدبلوم، ما يعني ستة أضعاف المواطنين العمانيين من ذات المؤهلات، وهم- في معظمهم- ليسوا من بين الكفاءات النادرة التي لايمكن لعجلة الإنتاج أن تدور في ظل غيابهم . وإن صحت هذه الأرقام - ونظنها كذلك- فلا بد من التسليم بعدم وجود مشكلة حقيقية اسمها "البطالة" في الواقع العماني، وانما نحن أمام أزمة مجتمعية ثلاثية الأبعاد، يتمثل بعدها الأول في غياب ثقافة العمل باعتباره واجباً وليس حقاً فحسب، وسيادة ظاهرة عدم القبول بالفرص المتاحة من جانب بعض المواطنين الذين تفشت بينهم رذيلة الاتكالية خصماً من فضيلة الاعتماد على الذات والقبول بالأعمال المتاحة، الأمر الذي فتح المجال واسعاً أمام تدفق العمالة الأجنبية إلى سوق العمل المحلي . والبعد الثاني يكمن في قضية "التدريب والتأهيل" التي تحتاج إلى مراجعة في ظل مئات الملايين التي تنفقها الحكومة سنوياً في "اتفاقيات" للتدريب أصبحت لا تؤتي أكلها حتى ولو بعد حين، حيث لازالت الثغرة مفتوحة لنفاذ أصحاب الأعمال متحللين من مسؤولية تشغيل مواطنيهم بحجة أنهم غير مدربين أو مؤهلين لشغل الوظائف التي تحتاجها مؤسساتهم، خاصة أن أكثر من أحد عشر ألفاً من إجمالي ثمانية عشر ألف باحث عن عمل هم من حملة الدبلوم الجامعي فأعلى من أصحاب التخصصات "ذات الطبيعة الإنسانية والنظرية والتربوية وادارة الاعمال" بنسبة تزيد على الستين في المئة، والتي نادراً ما يحتاج اليها سوق العمل المحلي بعد أن أتخمته مثل هذه التخصصات . والبعد الثالث يتعلق بأصحاب الأعمال الذين يستعذب القسط الأوفر من بينهم الاكتفاء بلافتة يؤجرها لوافدين يتسترون من خلفها مكتفين ببضعة ريالات يتقاضونها مع نهاية كل شهر، بينما "أدمن" قسط آخر التعامل مع "بابو وكومار" ثقة واهمة بقدراتهما الخارقة على صناعة المعجزات بدلاً من "خلفان وسعيد" الباحثين عن فرصة من أجل حياة كريمة في وطنهما، وهي مسألة تحتاج إلى "طبيب نفساني" أكثر من حاجتها إلى أي شيء آخر . وعلى الرغم من وجود الكثير من الدلالات في ثنايا الأرقام، الا أننا نكتفي في هذه المساحة بتثمين جهود الهيئة العامة لسجل القوى العاملة وكل المعاونين لها من أجل الوصول إلى "الرقم الذي كان غائباً"، والذي تؤكد رسالته الأولى أن الحديث عن مشكلة "بطالة فعلية" لم يكن سوى مجرد أضغاث أحلام . [email protected]