* أكتب هذه السطور وقد غادرت للتوّ برفقة الصديق الأديب محمد عمر العامودي الحفل الذي أقيم احتفاءً بإصدار عزيزنا الإعلامي -المعروف- الأستاذ عدنان صعيدي، والموسوم «على الموجة الصغيرة»، كنت متوقعًا عند دخولي القاعة المخصصة للتوقيع أنني سوف أنعم برؤية الوجوه الشابّة في ميدان العمل الإعلامي، والصحافي، وما إن لمح أحدهم خطواتي المتثاقلة، وأنا أصعد الدرج الذي يفضي إلى القاعة، فإذا به الابن الصحافي والإعلامي عمر جستنية، وبشهامته المكيّة يسرع الخُطى، ويشعرني بمؤازرته بالألفة والمودة، ويقدم لي بزهوٍ محمود أبناء عزيزنا «عدنان»، وزاد من شعوري بالألفة عندما جمعتني طاولة واحدة بعدد من الإخوة الذين ربما شعروا بضعف الذاكرة عند جيل تجاوز الستين في رحلة العمر الذي كان أصدق وصفٍ لها قوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في كبد)، وكان يجلس أمامنا -أنا وأبوعلاء- الكاتب والأديب الدكتور عبدالله مناع، الذي وصف أسلوب -عزيزنا عدنان- في الكلمة التي أثبتها المؤلف في مفتتح الكتاب، وصفه بقوله: «أمّا الشق الثاني فهو يتعلّق بقلمه السهل والبسيط والتلقائي»، ولعل ذلك يعني أن أستاذنا المنّاع يمتدح الحس الأدبي الذي يتمتع به الكاتب، ولعله لم يغب عن الأذهان تلك القامات الشامخة من المذيعين الأوائل التي جمعت بين حُسن الإلقاء أو روعته -إن صح التعبير- وبين الإبداع الأدبي من أمثال: طاهر زمخشري، وعباس فايق غزاوي، بل إن إذاعتنا في الثمانينيات الهجرية -الستينيات الميلادية- كانت تحتفي بأحاديث العالم الجليل السيد علوي بن عباس المالكي -رحمه الله- الذي كان قادرًا بأسلوبه المتميّز والشجيّ والمؤثّر أن يجعل المستمعين في منازلهم يتجمّعون حول المذياع صباح كل يوم جمعة، كما كان الناس في مرحلة لاحقة يطربون لصوت أستاذ الرواية محمد حسين زيدان، وهو يتحدث بتلقائية فريدة، وكذلك لشيخنا علي الطنطاوي ببرامجه المعروفة، وفي مقدمتها «على مائدة الإفطار»، ويُحسب لعزيزنا وأخينا الأكبر الإعلامي الكبير الأستاذ عبدالله رواس دوره في تهيئة تلك البرامج التي تعكس الثقافة الموسوعية للشيخ الطنطاوي، والتي يندر توفرها في الأجيال اللاحقة، وبعضهم -للأسف- يلهث خلف هذه أو تلك القنوات الفضائية وسواها، ولكن مع كل التقدير لما يحفظون ويقولون يفتقدون لمقوّمات الأداء وبراعته. * في إحدى المقالات التي ضمّها هذا الكتاب الباذخ أتى المؤلف عرضًا على أصوات عُرفت -إن صح التعبير- بفن الإنشاد، وكانت إذاعتنا تحتفي بهم، ولكنهم اختفوا، بل وغطّاهم النسيان إن لم يكن الجحود، بركام ثقيل -تصعب إزاحته- وربما كان لتغيّر الذائقة دور في ذلك، أين سعيد أبوخشبة الذي أنشد رائعة طاهر زمخشري «ربّاه»، وأجيال يأتي فيها: حسن جاوة، وحسن لبني، وحسين هاشم، وحمزة قزاز، وعلي باعشن، وعبدالرحمن مؤذن، وعلي شيخ، ومحمد بن شاهين، وزيني بويان، وحسين عبدالستار بخاري -رحمهم الله-، ولكن الأمم حتى وهي تتطلع إلى المستقبل، وتواكب المتغيّرات لا يمكنها أن تنسى في خضم الجديد، ذلك القديم ورموزه. * حمدت لأخي عدنان أن يعترف لشريكة حياته بالفضل، ولا أعلم أين قرأت يومًا أن زوجة المفكر والأديب والمبدع، يلحقها ظلم كبير من وراء عشق الكتاب واليراع، وفي حالة «عدنان» المذياع، كما يذكر المؤلف، ويُعدُّ ذلك وفاءً إنسانيًّا يحمد له -أساتذته الذين شجّعوه حتى يحسن فن الإلقاء، ويجيد الخطابة المرتجلة، وكذلك للزملاء الذين حثّوه وشجّعوه على جمع مادة الكتاب، ومراجعتها، ومن ثم نشرها، وكانت قراءة الزميل الدكتور زيد الفضيل قد تميّزت بالعمق والإيجاز -معًا- ثم كان لكلمة معالي الأستاذ عبدالرحمن الهزاع -رئيس هيئة الإذاعة والتلفزيون- وقع صادق حيث تجشّم عناء السفر ليكون ضمن الحضور وليلقي كلمة أحسست أنه من خلالها بتعاطفه وتقديره لمن يعملون معه، وتلك من شيم المروءة، وما أحوجنا في هذا العصر لنفحات الوفاء لتزيح عن نفوسنا ما ران عليها من غفلة، أو قسوة، فالعصر بمادياته يكاد يغيّب هذه الصور المضيئة، تُرى ما الذي سوف نورثّه للأجيال اللاحقة؟ إن لم نجعلهم يتذوقون طعم الود والوصال، ويتجاوزون مرارة الجحود والنسيان. صحيفة المدينة