خلال حفل استقبال أُقيم مساء الاثنين في القصر الرئاسي بمناسبة الذكرى الثمانين لتأسيس تركيا الحديثة، حدث ما لم يخطر على بال، عندما وقف قائد الجيش الى جانب عقيلتي رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء رغم تحجبهما، في مشهد لم يُعهد له نظير من قبل. في السابق لم يكن افراد النخبة العسكرية يقفون قط الى جانب امرأة ترتدي ما أصبح منذ زمن طويل رمز الصراع الدائر في تركيا حول دور الدين في الحياة العامة. فهم يعتبرون أنفسهم ورثة التقاليد التي أرساها مؤسس تركيا العلماني مصطفى كمال اتاتورك، الذي أقصى الدين عن الحياة العامة بلا هوادة. ورفضوا طيلة السنوات السابقة حضور مثل هذه الفعاليات احتجاجًا على الحجاب. وبنظر الكثير من الأتراك، فإن حفل الاستقبال أكد حدوث قطيعة مع الماضي عندما كان المدنيون يخضعون لمشيئة العسكر، والاسلام كان مستبعدًا من الحياة العامة. وقال المعلق في صحيفة "حريت" طه اكيول "إن الجيش التركي ينسحب الآن من السياسة". وإذ يُروج ازدهار تركيا الاقتصادي وجمعها بين قيم الديمقراطية والاسلام بوصفهما نموذجاً للعالم العربي الذي يتلمس طريقه نحو الديمقراطية بانتفاضات شعبية، فإن تركيا نفسها تواجه صراعات داخلية بين الاسلاميين والعلمانيين، بين القادة المدنيين والقادة العسكريين. ويمكن لنتيجة هذه الصراعات لا أن تحدد مستقبل تركيا فحسب بل وشكل المنطقة عمومًا مع تعاظم دورها في شؤون الشرق الأوسط. وفي حين يرحب كثيرون بانحسار سطوة الجيش في الحياة السياسية فإن منتقدين يقولون إن هذه الصراعات رفعت الغطاء أيضًا عن مواطن ضعف وخلل في الديمقراطية التركية، مشيرين بصفة خاصة الى حملة الحكومة ذات التوجه الاسلامي ضد المعارضة وتكميم الصحافة حتى أن عدد الصحافيين المسجونين في تركيا يفوق اليوم عددهم في أي بلد آخر. واطلق هذا الواقع موجة من مظاهر الاحباط تبدت بشكل ساطع في الشوارع خلال احتفال تركيا بعيد ميلادها الثمانين. ففي العاصمة انقرة اشتبك آلاف من المحتجين العلمانيين مع قوات مكافحة الشغب بعد أن عقدوا اجتماعاً حاشداً للاحتفال بيوم الجمهورية، الذي أُعلن عطلة رسمية بمناسبة تأسيس تركيا الحديثة عام 1923 رغم المنع الذي فرضته حكومة رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان متعللة على نحو مبهم بتقارير استخباراتية حذرت من وقوع مواجهات عنيفة خلال التظاهرة. وعلق الكاتب ياوز بيدار في صحيفة "زمان" الناطقة بالانكليزية قائلاً "إن من أعراض ما آلت اليه حال الديمقراطية، تقييد حق الاحتفال السلمي بالعيد الوطني". ومن التغييرات العديدة التي اجرتها حكومة اردوغان الذي أحدث عهده تحولاً جذريًا في الاقتصاد التركي نحو النمو بوتائر متسارعة لكنه استعدى عليه الحرس القديم العلماني، أنه بسط سيطرة المدنيين سيطرة محكمة على الجيش الذي وضع نفسه فوق القانون اربع مرات في تاريخ تركيا الحديثة باسقاط حكومات منتخبة. وفي اواخر ايلول (سبتمبر) صدرت على اكثر من 300 ضابط احكام بالسجن بعد ادانتهم بالتآمر لقلب نظام الحكم في ما عُرف بقضية "المطرقة". واحدثت المحاكمة استقطابًا عميقًا في المجتمع التركي، واثارت تساؤلات عن استقلال القضاء، لا سيما وأن المحكمة كانت، على ما يبدو، تعتمد أدلة مفبركة. ولكن القضية تمثل نقطة انعطاف في تاريخ تركيا بالحد من سطوة المؤسسة العسكرية التي ظلت طيلة عقود تقوم بدور الوصي على علمانية تركيا. واعلن اردوغان مؤخراً "أن زمن الانقلابات في هذا البلد ولى بلا رجعة". وقال تقرير اخباري عشية حفل الاستقبال بمناسبة يوم الجمهورية "إن هذه الفعالية الرمزية ستؤشر بداية حقبة جديدة في العلاقات بين المدنيين والجيش في تركيا". ويذهب مراقبون الى أن الدلالة الرمزية لحفل الاستقبال وكذلك التظاهرات التي خرجت بمناسبة يوم الجمهورية في انقرةواسطنبول للاحتجاج على ما يسميه كثير من العلمانيين تسلط اردوغان، اكدت الانقسامات العميقة في المجتمع التركي والتهديد الذي يرونه محدقًا بالعلمانية، لافتين الى جذور حزب العدالة والتنمية في الاسلام السياسي وعلاقاته الوثيقة بجماعة الأخوان المسلمين في مصر. وفي عام 2007 سعى الجيش التركي الى منع انتخاب عبد الله غُل رئيسًا للجمهورية لأن زوجته محجبة مثل زوجة اردوغان. وفي البداية كانت سيدة تركيا الأولى هيرونيسا غُل، تتجنب الظهور في بعض الفعاليات العامة مراعاة لحساسيات الجيش. وفي حفل الاستقبال الذي أُقيم مساء يوم الاثنين، لمح اردوغان الى ذلك الماضي قائلاً في تصريحات نقلتها قناة ان تي في التلفزيونية "عار على الذين لم يسمحوا لي بالمجيء الى هنا مع السيدة امينة اردوغان حتى هذا اليوم". ويبدو أن تركيا تعاني انفصامًا بين ماضيها العلماني ومستقبل مجهول. وهي تمر بمخاضٍ عسير لكتابة دستور جديد يحل محل الدستور الذي فرضه الجيش بعد انقلاب 1980. ويمكن أن يثمر الدستور نظامًا جديدًا يوسع سلطات الرئاسة التي تعتبر في النظام الحالي منصبًا مراسيميًا في الأساس. ويعتزم اردوغان الترشيح لمنصب الرئيس في غضون عامين. واحتشد يوم الاثنين مئات في شارع الاستقلال وسط اسطنبول ملوحين بأعلام تحمل صورة اتاتورك. وكان احد الهتافات التي رددها المتظاهرون يقول "تركيا علمانية وستبقى علمانية" وهتاف آخر "نحن جنود مصطفى كمال". وانضمت الممرضة نلغون تكير مع زوجها وطفلهما ابن الأربع سنوات الى التظاهرة قائلة لمراسل صحيفة نيويورك تايمز "نحن لا نريد نظامًا اصوليًا كما في ايران". واعلن مراد كوجوك وهو صاحب مطعم في الثلاثين من العمر شارك في التظاهرة بقميص يحمل صورة اتاتورك أن ما يحدث في تركيا اليوم "ثورة مضادة ". واضاف أن يوم الجمهورية اكبر ايام تركيا "وهو ميراثنا من مصطفى كمال". وكثيرا ما تتبدى هذه المواقف بين نخبة المدن في اماكن مثل اسطنبول وليس بين الجماهير المحافظة في منطقة الاناضول التي تشكل معقل اردوغان. ولكن مثل هذه المظاهر العامة يمكن أن تتبدى ايضاً في اماكن غير متوقعة كما حدث مساء الأحد عندما فازت لاعبة التنس الاميركية سرينا وليامز على الروسية ماريا شرابوفا. فخلال تقديم الجوائز للاعبتين كان الجمهور يستقبل السياسيين بالصفير وصيحات الاستهجان كلما تقدم سياسي لتسليم جائزة. ولم تسلم من الصفير وصيحات الاستهجان حتى الوزيرة فاطمة شاهين التي وعدت باقامة دورة الألعاب الاولمبية عام 2020 في اسطنبول. ودعت الوزيرة لاحقًا في حسابها على تويتر "اولئك الذين لا يفهمون الجهد المبذول هنا ولا يرون الجمال في هذه البطولة الى أن يستوعبوا المكانة التي بلغتها تركيا. ومن حق بلدهم عليهم أن يقدروا ما تحقق هنا".