مواضيع ذات صلة وحيد عبدالمجيد يثير الصراع الشديد الدائر حول مسألة الدستور أسئلة عدة بشأن مستقبل مصر وكيفية إدارة الشأن العام فيها. وفي مقدمة هذه الأسئلة يبرز سؤال الثقافة السياسية في المجتمع وأثرها في طرق معالجة الخلافات والمشكلات في مرحلة جد دقيقة. وإذا كان للثقافة السياسية أثرها المعلوم في تحديد سلوك المواطنين أفرادا وجماعات ومؤسسات تجاه القضايا العامة في كل وقت, فهي تكتسب أهمية كبري في فترات الانقسام والاضطراب والاحتقان في أي مجتمع. فربما تساعد الثقافة السياسية في عبور مثل هذه الفترات الصعبة بسرعة وبدون خسائر أو بأقل قدر منها. كما أنها قد تؤدي في المقابل إلي إطالة أمد فترات عدم الاستقرار وزيادة الفاتورة المترتبة عليها والتي يتحملها المجتمع في مجمله. وكانت الثقافة السياسية في مجتمعنا, ولاتزال, أحد أهم عوامل إطالة أمد الأزمة الدستورية الممتدة في مراحلها المتوالية منذ أن بدأ الخلاف علي إجراء انتخابات أم إصدار دستور أولا وحتي الاستفتاء علي هذا الدستور مرورا بالنزاع علي مسألة المبادئ الحاكمة للدستور ومعركة تشكيل الجمعية التأسيسية سواء الأولي أو الثانية. ويعني ذلك أن الثقافة السياسية في مصر تعيد إنتاج نفسها بأشكال مختلفة, ولكنها لا تتغير في محتواها الذي ينطوي علي ثلاث مشكلات رئيسية تلازمها منذ أواخر القرن التاسع عشر علي الأقل. وقد ظهرت هذه المشكلات كلها في الصراع بشأن قضية الدستور. فالثقافة السياسية في بلادنا لا تساعد علي تحقيق توافق عام في المجتمع بسبب ضعف فكرة قبول الآخر والاعتراف فعليا وليس فقط لفظيا بأنه شريك في الوطن لابد من التفاهم معه علي مشتركات أو قواسم مشتركة بدلا من السعي إلي إخضاعه. ولا تقل قيمة التوافق في المجتمع عن أهمية الأساس الذي يوضع تحت الأرض عند بناء أي مبني. فعند الشروع في مثل هذا البناء, لا يجوز الاختلاف علي كميات الحديد والأسمنت والرمل وغيرها من المكونات اللازمة للأساس الذي يقام عليه. فإذا حدث خلاف علي هذه المكونات, حمل في طياته عوامل انهيار البناء. وقل مثل ذلك عن السياسة والمجتمع. فليس ممكنا تحقيق تقدم في القضايا الكبري, مثل قضية الدستور, بدون توافق وطني عام. ولكن ضعف الثقافة اللازمة لتحقيق التوافق حال دون التوصل إلي مشروع دستور يحظي بقبول عام في المجتمع. فكان صعبا تحقيق التوافق المطلوب منذ أن قرر المجلس الأعلي للقوات المسلحة في13 فبراير2011 تعطيل العمل بدستور.1971 ولم يتيسر التفاهم علي العلاقة بين الدستور والانتخابات. ولذلك حسم الخلاف علي هذه القضية بالأغلبية في استفتاء19 مارس2011, وليس بالتوافق. كما ظلت المسافة بعيدة بين من رأوا ضرورة إلزام واضعي الدستور بمبادئ عامة أساسية قبل إجراء الانتخابات البرلمانية من ناحية, ومن أصروا علي ترك الأمر لهم دون أي توافق سبق من ناحية ثانية. ولهذا السبب أيضا, لم يتيسر التفاهم علي تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور. كما أخفقت هذه الجمعية في التوافق علي مشروع الدستور, الأمر الذي أحدث انقساما شديدا انعكس في الاستفتاء علي هذا المشروع. وأظهر عجز الجمعية التأسيسية عن تحقيق التوافق الذي تشتد حاجة مصر إليه الآن مشكلة ثانية تتعلق بالثقافة السياسية, وهي عدم القدرة علي الحوار البناء الذي يؤدي إلي تفاهم. فالحوار ليس مجرد نقاش بين طرفين يعبر كل منهما عن رأيه, أو توك شو علي الهواء. والشرط الذي لا غني عنه لكي يكون هذا النقاش حوارا هو أن يكون كل من طرفيه مستعدا للإنصات إلي الآخر بجدية ومقتنعا بأنه قد يجد في الرأي الآخر صوابا. ولكن الثقافة السياسية السائدة لا تعرف الحوار بهذا المعني إلا قليلا, وتبدو بعيدة عن تراثنا المستنير في هذا المجال من نوع ما قاله الإمام الشافعي وهو أن رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب. وارتبطت مشكلتا ضعف ثقافة التوافق وهشاشة ثقافة الحوار بمعضلة ثالثة هي الخلط بين الانتخابات والتفويض. وحين يحدث هذا الخلط, يصبح خطر عبور الخط الفاصل بين الديمقراطية والدكتاتورية قائما. ويبدأ الخلط بين الانتخاب والتفويض عندما نعزل صندوق الاقتراع عن سياقه ونختزل العملية الديمقراطية كلها فيه. وقد يشتد الخطر الناجم عن هذا الخلط إلي الحد الذي قد يجعل صندوق الاقتراع تابوتا تدفن فيه الديمقراطية بدلا من أن يكون أحد سبل ممارستها. فالانتخابات لا تعطي الفائز فيها تفويضا كاملا, ناهيك عن أن يكون مطلقا. والتفويض الذي يترتب علي الفوز في أي انتخابات يكون محدودا ومحكوما بقواعد العملية الديمقراطية وفي مقدمتها احترام رأي المعارضة وحماية حقوق الأقليات. كما أنه تفويض مؤقت حتي موعد الانتخابات التالية. ولذلك يصعب فتح طريق التطور الديمقراطي في وجود ثقافة سياسية تخلط بين الانتخابات والتفويض. ويزداد الخطر عندما يحدث خلط بين السلطة باعتبارها أداة حكم لفترة معينة وبين دستور البلد الذي تحكمه هذه السلطة أيا كانت. فالسلطة أي سلطة متغيرة وفقا لمبدأ تداول السلطة. أما الدستور فهو مستمر, الأمر الذي يجعله فوق أي سلطة. وتبقي مشكلة رابعة تسهم في تفاقم الاختلالات المترتبة علي المشكلات الثلاث السابقة, وهي عدم الثقة. ولا يحتاج المرء إلي جهد كبير لملاحظة أن أحدا لا يثق في أحد تقريبا في الساحة السياسية. وهذه مشكلة مستمرة في ثقافتنا, ولكنها تفاقمت في الأشهر الأخيرة علي نحو لا سابق له. وعندما تضعف الثقة إلي هذا الحد, يتوه الناس ويرتبك المجتمع وينتشر الخوف. وحين يحدث ذلك في مرحلة انتقال صعبة بطابعها, تزداد صعوبة التوصل إلي دستور يحظي بقبول تام, وتقل فرص نجاح الحوار الوطني إلي أن يدرك الجميع حاجتهم إلي العمل المشترك.