العدو الصهيوني يواصل خروقاته لإتفاق غزة: استمرار الحصار ومنع إدخال الوقود والمستلزمات الطبية    عدن.. هيئة النقل البري تغيّر مسار رحلات باصات النقل الجماعي    الدوري الاسباني: برشلونة يعود من ملعب سلتا فيغو بانتصار كبير ويقلص الفارق مع ريال مدريد    الدوري الايطالي: الانتر يضرب لاتسيو في ميلانو ويتصدر الترتيب برفقة روما    الشيخ علي محسن عاصم ل "26 سبتمبر": لن نفرط في دماء الشهداء وسنلاحق المجرمين    انها ليست قيادة سرية شابة وانما "حزب الله" جديد    فوز (ممداني) صفعة ل(ترامب) ول(الكيان الصهيوني)    تضحياتٌ الشهداء أثمرت عزًّا ونصرًا    الأستاذ علي الكردي رئيس منتدى عدن ل"26سبتمبر": نطالب فخامة الرئيس بإنصاف المظلومين    مرض الفشل الكلوي (27)    فتح منفذ حرض .. قرار إنساني لا يحتمل التأجيل    الأمين العام لجمعية الهلال الأحمر اليمني ل 26 سبتمبر : الأزمة الإنسانية في اليمن تتطلب تدخلات عاجلة وفاعلة    ثقافة الاستعلاء .. مهوى السقوط..!!    تيجان المجد    الشهادة .. بين التقديس الإنساني والمفهوم القرآني    الزعوري: العلاقات اليمنية السعودية تتجاوز حدود الجغرافيا والدين واللغة لتصل إلى درجة النسيج الاجتماعي الواحد    الدولة المخطوفة: 17 يومًا من الغياب القسري لعارف قطران ونجله وصمتي الحاضر ينتظر رشدهم    سقوط ريال مدريد امام فاليكانو في الليغا    الأهلي يتوج بلقب بطل كأس السوبر المصري على حساب الزمالك    نجاة برلماني من محاولة اغتيال في تعز    الرئيس الزُبيدي يُعزي قائد العمليات المشتركة الإماراتي بوفاة والدته    قراءة تحليلية لنص "مفارقات" ل"أحمد سيف حاشد"    مانشستر سيتي يسحق ليفربول بثلاثية نظيفة في قمة الدوري الإنجليزي    محافظ العاصمة عدن يكرم الشاعرة والفنانة التشكيلية نادية المفلحي    الأرصاد يحذر من احتمالية تشكل الصقيع على المرتفعات.. ودرجات الحرارة الصغرى تنخفض إلى الصفر المئوي    وزير الصحة: نعمل على تحديث أدوات الوزارة المالية والإدارية ورفع كفاءة الإنفاق    في بطولة البرنامج السعودي : طائرة الاتفاق بالحوطة تتغلب على البرق بتريم في تصفيات حضرموت الوادي والصحراء    جناح سقطرى.. لؤلؤة التراث تتألق في سماء مهرجان الشيخ زايد بأبوظبي    تدشين قسم الأرشيف الإلكتروني بمصلحة الأحوال المدنية بعدن في نقلة نوعية نحو التحول الرقمي    شبوة تحتضن إجتماعات الاتحاد اليمني العام للكرة الطائرة لأول مرة    صنعاء.. البنك المركزي يوجّه بإعادة التعامل مع منشأة صرافة    رئيس بنك نيويورك "يحذر": تفاقم فقر الأمريكيين قد يقود البلاد إلى ركود اقتصادي    وزير الصناعة يشيد بجهود صندوق تنمية المهارات في مجال بناء القدرات وتنمية الموارد البشرية    اليمن تشارك في اجتماع الجمعية العمومية الرابع عشر للاتحاد الرياضي للتضامن الإسلامي بالرياض 2025م.    الكثيري يؤكد دعم المجلس الانتقالي لمنتدى الطالب المهري بحضرموت    بن ماضي يكرر جريمة الأشطل بهدم الجسر الصيني أول جسور حضرموت (صور)    رئيس الحكومة يشكو محافظ المهرة لمجلس القيادة.. تجاوزات جمركية تهدد وحدة النظام المالي للدولة "وثيقة"    خفر السواحل تعلن ضبط سفينتين قادمتين من جيبوتي وتصادر معدات اتصالات حديثه    ارتفاع أسعار المستهلكين في الصين يخالف التوقعات في أكتوبر    علموا أولادكم أن مصر لم تكن يوم ارض عابرة، بل كانت ساحة يمر منها تاريخ الوحي.    كم خطوة تحتاج يوميا لتؤخر شيخوخة دماغك؟    محافظ المهرة.. تمرد وفساد يهددان جدية الحكومة ويستوجب الإقالة والمحاسبة    هل أنت إخواني؟.. اختبر نفسك    سرقة أكثر من 25 مليون دولار من صندوق الترويج السياحي منذ 2017    عين الوطن الساهرة (1)    أوقفوا الاستنزاف للمال العام على حساب شعب يجوع    أبناء الحجرية في عدن.. إحسان الجنوب الذي قوبل بالغدر والنكران    جرحى عسكريون ينصبون خيمة اعتصام في مأرب    قراءة تحليلية لنص "رجل يقبل حبيبته" ل"أحمد سيف حاشد"    مأرب.. فعالية توعوية بمناسبة الأسبوع العالمي للسلامة الدوائية    في ذكرى رحيل هاشم علي .. من "زهرة الحنُّون" إلى مقام الألفة    مأرب.. تسجيل 61 حالة وفاة وإصابة بمرض الدفتيريا منذ بداية العام    على رأسها الشمندر.. 6 مشروبات لتقوية الدماغ والذاكرة    كما تدين تدان .. في الخير قبل الشر    الزكاة تدشن تحصيل وصرف زكاة الحبوب في جبل المحويت    صحة مأرب تعلن تسجيل 4 وفيات و57 إصابة بمرض الدفتيريا منذ بداية العام الجاري    الشهادة في سبيل الله نجاح وفلاح    "جنوب يتناحر.. بعد أن كان جسداً واحداً"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إقليم كردستان الرقم الصعب في المعادلة العراقية
نشر في الجنوب ميديا يوم 27 - 12 - 2012

بينما الأزمة بين كردستان العراق والحكومة المركزية في بغداد على أشدها، فاجأ مرض الرئيس العراقي جلال الدين الطالباني العراقيين، ليرسم مشهداً جديداً يحبس الجميع فيه أنفاسهم، انتظاراً لما ستؤول إليه الحالة الصحية الحرجة التي يمر بها "مام جلال" . وقد فتح مرض الرئيس ملفات العلاقة بين الأكراد وبقية مكونات الطيف العراقي بمعناه الواسع سياسياً واجتماعياً بل ومؤسسياً أيضاً . كما فتح أيضاً ملفاً لم يكن مطروحاً للنقاش بالمرة هو ذاك المتعلق بالداخل الكردي، وميزان القوى بين الأحزاب والتنظيمات الكردية وبعضها البعض . ولما كانت الأوضاع سواء داخل العراق لاتزال تتسم بالدقة والتطور المتسارع، فإن وضعية الأكراد ضمن مجمل السياسة العراقية داخلياً وخارجياً تصبح أكثر أهمية وبالتالي ومحورية .
من يخلف الإطفائي؟ يلخص هذا التساؤل الوضع العراقي الحالي بعد الحالة المرضية المفاجئة التي أصابت الرئيس العراقي، حيث يتداول العراقيون في ترقب وقلق مصير رئيسهم الذي سيؤثر بالضرورة في الوضع السياسي الداخلي، خصوصاً لجهة العلاقة بين الأكراد وبقية مكونات الطيف العراقي . فضلاً عن الخشية من اختفاء الطالباني بما تعنيه من افتقاد صاحب الشخصية المقبولة من الجميع الذي كان يتدخل عند الضرورة للتوسط بين مختلف القوى والتيارات بغض النظر عما إذا كان الأكراد طرفاً أم لا، فقد كان الطالباني صمام أمان الأزمات السياسية العراقية في السنوات العشر الماضية .
ساحة مضطربة
منذ عدة أشهر والساحة السياسية العراقية تعاني حالة من السيولة وعدم الاستقرار، بفعل الاختلاف حول طريقة إدارة رئيس الوزراء نوري المالكي للأوضاع الداخلية . وهو ما دفع بعض القوى السياسية على السعي نحو سحب الثقة من حكومة المالكي، بيد أن عوامل متداخلة حالت دون تحقيق تلك الخطوة . وكان من بين أبرز تلك العوامل دور التهدئة الذي لعبه الرئيس العراقي جلال الدين الطالباني . لكن التعقيد الذي يميز الساحة السياسية العراقية يتجاوز مسألة سحب الثقة من المالكي، خاصة بعد أن بادر المالكي نفسه على خطوات كان من شأنه استعداء بعض مكونات النسيج السياسي والاجتماعي العراقي ضده . الأمر الذي جعل العلاقة بين المالكي ومن ورائه ائتلاف دولة القانون أو حزب الدعوة، وبقية القوى والتيارات العراقية، شديدة التوتر وتزداد احتقاناً بمرور الوقت . إلى حد جعل إخفاق محاولات سحب الثقة من رئيس الوزراء غير ذي جدوى لجهة تخفيف الاحتقان وتحسين العلاقات بين الكيانات العراقية سواء على مستوى الحكم أو على مستوى الطبقة السياسية ككل . بل يمكن -من زاوية أخرى- القول إن محاولات الإطاحة بالمالكي وإسقاط حكومته، هي ذاتها أسهمت في تعميق الأزمة وتعقيدها، أولاً من جهة الذهاب في الخلاف مع المالكي إلى أبعد مدى ممكن وهو الإطاحة به بشكل كامل وإخراجه من الحياة السياسية العراقية على الأقل إلى حين . وثانياً أن تلك المحاولات التي تكررت أكثر من مرة على مدى العام الحالي، دفعت المالكي إلى رد فعل قوي وعدائي أيضاً . اتخذ أشكالاً متعددة تراوحت بين إجراءات وقرارات إدارية تستهدف خصومه السياسيين بشكل مباشر، والظهور المفاجئ والمتتالي لعمليات الملاحقة القضائية لرموز وقيادات مهمة في الأطياف العراقية المناوئة للمالكي .
وكانت الخطوة الأبرز في هذا السياق هي ملاحقة نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي قضائياً، ثم صدور عدة أحكام عليه بالإعدام، بتهم ممارسة الإرهاب والتورط في أعمال عنف واغتيالات، وكان الهاشمي قد استشعر وجود نية لاستهدافه قضائياً فسارع إلى الخروج من العراق، بينما تم القبض على عدد من مرافقيه وحراسه قتل بعضهم أثناء توقيفه في ظروف غامضة . كان هذا تطوراً لافتاً في إدارة العلاقة بين القوى والتيارات السياسية العراقية، لما يمثله من دلالات مهمة لجهة التوازن الطائفي بين الشيعة والسنة بشكل مباشر . ولما يعنيه أيضاً من وصول العلاقة بين المؤسسات وأصحاب المناصب الكبرى في السياسة العراقية إلى حد استخدام الأدوات القانونية والملاحقات القضائية، مع ملاحظة أنه ما من دليل رسمي على أن الملاحقات القضائية سواء بحق الهاشمي أو غيره تمت بتعليمات رسمية من المالكي أو حكومته . لكن في الوقت ذاته يجب الإقرار بأنه يصعب التعويل أو الوثوق بشكل كامل ومطلق في القضاء والمؤسسات العدلية في الدول التي لاتزال تبتدئ في الممارسات الديمقراطية، خصوصاً تلك التي خرجت لتوها من مرحلة احتلال تغيرت خلالها المنظومة الحاكمة للعلاقات داخل المجتمع . ومما يرجح هذا التحليل أن الملاحقة القضائية لنائب الرئيس العراقي لم تكن الأخيرة في المناورات السياسية وأوراق الضغط المتبادلة التي يجري استخدامها بين القوى والتيارات السياسية والاجتماعية العراقية . فقبل أيام تم القبض على عدد من حراس وزير المالية رافع العيساوي بتهم تتعلق بأعمال إرهاب .
لكن قبل الإشارة إلى التطور الجديد المتعلق بوزير المالية، يجب الرجوع إلى الدور الذي قام به الرئيس العراقي جلال الدين الطالباني في اتجاه إخماد الفتنة التي كادت تنشب في العراق بسبب الحكم بالإعدام على الهاشمي . فقد نجح في إقناع القوى السياسية العراقية السنية، وكذلك أطرافاً سنية من خارج العراق، بأن الأمر سيقف عند هذا الحد ولن تسعى بغداد إلى مزيد من الاستهداف، كما نجح في إقناع رئيس الوزراء العراقي بعدم اتخاذ إجراءات إضافية بحق الهاشمي ووقف الضغوط على تركيا لتسليمه . وتم نزع فتيل الأزمة بالفعل، وأصبح وضع الهاشمي معلقاً حتى إشعار آخر . هذا الدور الذي لعبه الطالباني لم يجد من يلعبه في الأيام القليلة الماضية بعد مرض "مام جلال"، الأمر الذي سمح بوقوع أفراد من طاقم حماية وزير المالية قيد الاعتقال . ونتيجة الدلالة غير الجيدة للتوقيت الذي تمت فيه الخطوة، بعد أيام قليلة من مرض الطالباني، فإن ردود الفعل السنية عليها جاءت أوسع من واقعة الحكم على الهاشمي، فقد أعلنت حالة العصيان المدني في محافظة الأنبار (غرب بغداد)، وخرجت أعداد من سكان الأنبار في تظاهرات قطعت الطريق الدولي احتجاجاً على واقعة العيساوي . وسريعاً بدأت القضية تتفاعل وتتجه الاحتجاجات من مجرد رفض الإجراء المتخذ بحق العيساوي إلى المطالبة بإسقاط المالكي وحكومته . فقد رفع متظاهرون في الرمادي والفلوجة لافتات تدعو إلى إسقاط المالكي وترفض ما وصفته ب "تهميش" الطائفة السنية . وكان لافتاً أيضاً أن الشعارات المرفوعة تضمنت مطالب بإطلاق سراح المحكومين بالإعدام من أفراد حماية الهاشمي . ومن الإشارات إلى احتمال تطور الموقف إلى ما هو أبعد، أن بعض أعضاء البرلمان العراقي من الأنبار انضموا إلى تلك التظاهرات، بالإضافة إلى شيوخ عشائر ورجال دين وأعضاء في مجلس المحافظة . وإزاء ذلك التأزم، لم يجد المالكي بداً من التجاوب مع محاولات تسوية الأزمة، فاستجاب لوساطة رئيس مؤتمر صحوة العراق الشيخ أحمد أبو ريشة، الذي نجح قبل أيام في الاتفاق مع المالكي على حل مبدئي قبله المالكي، وهو تحويل ملف أفراد حماية العيساوي إلى لجنة قضائية محايدة . خاصة أن وزير المالية أصرّ على إطلاق سراح أفراد حمايته المقبوض عليهم، مشيراً على ضرورة التحقيق معهم قضائياً لتأكده من براءتهم .
و تشير تلك التطورات إلى أن الضوابط التي كانت تحكم العلاقة بين المكونات العراقية الأخرى - خلاف الأكراد - قد تشهد حالة من الانفراط، خصوصاً بعد غياب الطالباني الذي كان أحد أهم تلك الضوابط وصمام أمان بين تلك المكونات وبعضها البعض .
المالكي وبارزاني
قبل أن يفاجئه المرض بساعات، كان جلال الطالباني قد نجح في نزع فتيل أزمة "عمليات دجلة" بين بغداد وكردستان، وذلك في اجتماع عقده مع المالكي، حيث اتفقا على وقف الحملات الإعلامية بين الجانبين . وأن تجتمع اللجان العسكرية الفنية ذات الاختصاص وتشكل مجموعات متساوية من سكان المناطق المتنازع عليها، تتولى مسؤولية حفظ الأمن هناك، على أن يتلو ذلك انسحاب القوات التي دخلت إلى تلك المناطق . ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الأزمة بين بغداد وكردستان كانت قد نشبت الصيف الماضي، بينما كان الطالباني يقضي فترة نقاهة من عملية جراحية أجراها سابقاً، الأمر الذي يعني أن احتمال تفجر الأزمة مجدداً يصبح قائماً بعد مرض الطالباني الأخير . وبالفعل فبعد ثلاثة أيام فقط من مرض الطالباني، دخلت طائرة استطلاع تابعة لوزارة الدفاع العراقية منطقة تواجد قوات البشمركة الكردية في كركوك، فتم استهدافها وإسقاطها . في حادث يشير إلى مدى التوتر والتحفز المتبادل بين الجانبين . وفضلاً عن أن هكذا حادث ربما لم يكن ليقع لو أن الطالباني ليس مريضاً وغائباً عن الساحة، الأخطر أنه قابل للتكرار ربما على نطاق أوسع، ما لم يتم التعامل مع الأزمة سريعاً، وتنفيذ ما اتفق عليه الطالباني قبل مرضه مع المالكي .
من هنا فإن غياب الطالباني سينعكس في المقام الأول على العلاقة بين بغداد وكردستان، حيث ينتظر أن تشهد مزيداً من التوتر وربما المواجهات السياسية على الأقل، وإن لم يكن بالضرورة بسبب كركوك . ذلك أن قائمة الملفات الخلافية والقضايا المعلقة بين الجانبين طويلة وقابلة للتفجر في أي لحظة ما لم يكن الطرفان حريصين على تثبيتها معلقة أو مؤجلة .
والملمح الأبرز في هذا الاتجاه أن غياب الطالباني سيجعل العلاقة بين بغداد وكردستان محصورة ولو مؤقتاً في التفاعل بين المالكي ومسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان . حيث ينظر إلى بارزاني باعتباره من الصقور في كردستان، ما يعني أن اختفاء الدور الملطف الذي كان يلعبه قد يزيد من قوة وثقل الجناح المتشدد في القيادة الكردية برئاسة بارزاني، ووجه الخطورة في ذلك أن بارزاني من أنصار إقامة دولة كردية مستقلة، على خلاف الطالباني الذي كان يتعامل مع هذه القضية بسياسة وتدرج ويعتبرها بحاجة إلى توافر مقومات كثيرة لم تكتمل بعد . من هنا ليس من المستبعد أن يسمح غياب الطالباني بتصعيد المواقف ضد المالكي والدفع باتجاه قيام دولة كردية مستقلة .
في المقابل لن يكون من المستغرب أن يتبنى المالكي بدوره مواقف متشددة تجاه الأكراد، بعد غياب الرجل الدبلوماسي الذي كان يضطر المالكي بأسلوبه ووسطيته إلى التعامل بكياسة وهدوء . ما يعني أن القيد الأخلاقي والسياسي المتمثل في شخص الطالباني قد تحرر منه المالكي بمرض الرجل .
وفي الإطار الأوسع هناك خشية من مستقبل العلاقة بين الأكراد وبغداد بشكل عام، فكردستان تملك قوة عسكرية كبيرة تكفل لها التعامل من موضع قوة أو على الأقل ندية مع الحكومة المركزية، كما أن اقتصاد كردستان قوي ولديه مقومات اكتفاء ذاتي بعيداً عن المخصصات الفيدرالية . يعضده في ذلك شبكة علاقات خارجية واسعة وقوية أقامتها حكومة الإقليم في السنوات القليلة الماضية، حتى وصلت إلى إقامة روابط اقتصادية وسياسية وثقافية مع تركيا الجار اللدود التي تمثل القضية الكردية بالنسبة لها مصدر قلق دائم وهاجس استراتيجي .
ولعل هذا الوضع الجديد هو ما حفز أعضاء القائمة العراقية التي يقودها إياد علاوي، على الاتجاه نحو التنسيق مع الأكراد للاستفادة من المتغيرات والمستجدات في الضغط على المالكي وتغيير موازين القوى بشكل عاجل . حيث نقلت الأنباء أن القائمة العراقية تنسق مع الأكراد بهدف الانسحاب من الحكومة العراقية وأن رئيس مجلس النواب أسامة النجيفي زار إقليم كردستان والتقى رئيس الإقليم مسعود بارزاني لهذا الغرض . وهو ما يعني أن العلاقة المتوترة المتوقعة بين المالكي وبارزاني لن تقتصر على ما يتعلق بالمسار الثنائي بين بغداد وأربيل، وإنما ستمتد أيضاً إلى دور الأكراد في ومواقفهم في إدارة العلاقة بين القوى والمكونات العراقية وبعضها البعض . وإن كان ذلك يشير إلى استمرار أهمية العامل الكردي في السياسة العراقية ومحوريته في تحقيق التوازن القائم أو الإخلال به، إلا أنه يعني في الوقت ذاته أن القوى الأخرى بدأت في التحرك ومحاولة استغلال غياب الطالباني لخلخلة الوضع القائم أو إعادة تشكيله بما يتوافق ومصالحها والتنسيق مع الأكراد للتوافق على مصالح مشتركة في هذا الاتجاه .
الداخل الكردي
لا يقل الوضع في الداخل الكردي تأثراً بغياب الطالباني عن العلاقة بين بغداد وكردستان، فمعروف أن ثمة انشقاقات وتباينات وقعت في النسيج السياسي الكردي خلال الأعوام الثلاثة الماضية، على خلفية توزيع المناصب الكبرى بين القوى والتيارات السياسية الكردية . وكان لطالباني دور أساس في استيعاب تلك المتغيرات واحتواء مواقف بعض القوى الكردية التي تحفظت عن توجهات القوتين الأساسيتين (الحزب الديمقراطي والاتحاد الوطني) خصوصاً "حركة التغيير" التي انشقت عن الاتحاد منذ عام 2009 . وحافظ الطالباني على علاقة عمل قوية ومتوازنة مع الحركة بقيادة نوشيروان مصطفى الذي كان نائباً لطالباني في الاتحاد .
غياب الطالباني سيؤثر في العلاقات داخل القوى الكردية من زاويتين، الأولى فيما يتعلق بمنصب الرئاسة الذي تطمح القوى الكردية إلى الحفاظ عليه حسب التوافق القائم بين المكونات العراقية . الزاوية الثانية هي اختلال ميزان العلاقة بين القوى والمؤسسات الكردية سواء الرسمية في الإقليم أو الحبية بعد اختفاء الإطفائي الطالباني .
على المستوى الأول، يمكن القول إن ثمة إجماعاً داخل الطيف الكردي على ضرورة الاحتفاظ بمنصب الرئاسة . ومواجهة محاولات تشير إليها بعض التسريبات حول احتمال توجيه المنصب إلى شخصية سُنية . خاصة أن الدستور العراقي ينص على أن يخلف الرئيس في منصبه أحد نائبيه، ومع هروب طارق الهاشمي من العراق فإن النائب المتواجد حالياً هو خضر الخزاعي . ويثير هذا الكلام ردود فعل رافضة داخل الأكراد تطغى على جدل آخر يدور حول الشخصية الكردية التي تستحق ترشيحها لهذا المنصب . حيث تشير الدلائل إلى تصاعد احتمالات ترشيح زوجة الطالباني السيدة هيرو إبراهيم لرئاسة الجمهورية في حال وفاة الطالباني . وهو ما قد يرحب به رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني كبديل مقبول بالنسبة له، على خلاف برهم صالح أو غيره من الساسة الأكراد الآخرين .
ولا ينفصل هذا السجال الدائر حالياً عن الزاوية الثانية المتعلقة بالعلاقات والتوازنات القائمة داخل النسيج الكردي، فحركة التغيير بقيادة نوشيروان مصطفى قد تنضم مجدداً إلى حزب الاتحاد الوطني حال تولي هيرو رئاسة الحزب . وذلك على خلفية علاقات وروابط عائلية لهيرو مع قيادات الحركة .
بيد أن هذه الاحتمالات تقابل بالصراع الحاصل بين كوسرت رسول وبرهم صالح، لخلافة الطالباني على رئاسة الاتحاد الوطني الكردستاني . وهو ما قد يدفع بعض القواعد والكوادر السياسية بالحزب على الانتقال للانضمام إلى حركة التغيير . وهو أمر سيعزز بالضرورة نفوذ مصطفى في السليمانية، ويجعلها مركز قوة كبيراً في مواجهة أربيل وبما يعنيه ذلك من تغير كبير في ميزان القوة لصالح التيار المناوئ لمسعود بارزاني، ممثلاً جزئياً في الاتحاد الوطني، وبشكل كبير في حركة التغيير .
وفي هذا الخصوص يرى بعض المحللين احتمالاً لتحقق رؤية أمريكية كانت تقضي بالتنسيق بين الأكراد والقائمة العراقية، وتبادل المناصب السيادية بينهما، فتحصل القائمة العراقية على رئاسة الجمهورية فيما يتولى الأكراد رئاسة البرلمان . ويرتبط هذا الأمر بما سبقت الإشارة إليه من محاولات تجري للتنسيق بين الجانبين للإطاحة بحكومة المالكي عبر الانسحاب منها، وبالتالي إسقاطها .
مفاد كل هذه المتغيرات والاحتمالات، أن التفاعلات والمسارات المتدفقة بين القوى والتيارات العراقية أصبحت متقاطعة ومتداخلة إلى حد بعيد، بعد غياب صمام الأمان الذي كان يضبط تلك التفاعلات ويحدد اتجاه ووتيرة تلك المسارات، الأمر الذي يعني بدوره أن غياب الطالباني لن يفتح الباب وحسب أمام فتح ملفات وقضايا مؤجلة أو مسكوت عنها في الساحة العراقية، لكنه أيضاً سيتيح المجال أمام تبلور وظهور توازنات سياسية ومؤسسية جديدة قد تقلب الخارطة العراقية في المدى القريب، خاصة أن كل القوى بلا استثناء، تسعى إلى استعجال الاستفادة من صدمة غياب الطالباني وتحقيق أعلى مكاسب ممكنة في أقصر مدى زمني .
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.