مواضيع ذات صلة محمد خواجة استبشر كثيرون من العرب خيراً، برجوع تركيا الى فضائها الإسلامي المشرقي، إثر تغريبة قاربت المئة عام. وهلّل هؤلاء، ونحن منهم، لوقفة أردوغان في دافوس، وغضبه جراء قتل نشطاء سفينة مرمرة، ظنّاً منّا أنها خطوات أولى على درب القطيعة مع الكيان الصهيوني، ومراجعة تحالفاته الإقليمية والدولية. لكن سرعان ما سلكت الأمور منحىً صادماً؛ فالعلاقة بين حكومة أردوغان وواشنطن، ترسّخت أكثر من ذي قبل، والعداء تجاه تل أبيب، لم يتعدَّ دائرة العتب والمطالبة باعتذار طال انتظاره. وبدل «تصفير» الأزمات مع الجوار تزايدت حدّتها، لتطيح بفلسفة العمق الإستراتيجي. وفي السنتين الأخيرتين، خطت تركيا خطوتين استفزازيتين، لا تزال مفاعيلهما ترتدّ سلباً على علاقتها بمحيطها الإقليمي والدولي، وهما: أولاً: نصب رادارات الدرع الصاروخية الأميركيةعلى أرضها، ليكتمل عقد مثلّثها، بعد نشر صواريخها في كل من تشيكيا وبولونيا. وتتمثّل الوظيفة المعلنة لهذه الدرع، بحماية فضاء الولاياتالمتحدة وبعض الدول الأوروبية، من مخاطر الصواريخ العابرة للقارات. وتسعى واشنطن لزرع منظومات إضافيةٍ من الدرع الصاروخية، في الخليج العربي والمحيط الباسفيكي وغيرهما، بقصد تشديد قبضتها على الفضاء الكوني. وهذه المنظومات وليدة برامج حرب النجوم، التي سعّرت، إبّان ثمانينيات القرن الماضي، سباق التسلّح مع الاتحاد السوفياتي، ما أنهك اقتصاده وسرّع عملية تفكّكه. ثانياً: استقدام بطّاريات «الباتريوت» الأطلسية، لنشرها في مدن أضنة وغازي عينتاب وقهرمان مراش القربية من الحدود السورية، وهي معدّة لصدّ الصواريخ البالستية التكتيكية. وبهذا يكتمل حزام الربط الصاروخي الأميركي، ليزنّر كلاً من روسياوإيران وسورية والعراق... واللافت، أن هذه الدول لا تشكّل أي خطر على تركيا، وتنسج معها علاقات مميزة في مجالات شتّى. منذ البداية، لم تقنع الرواية الأميركية موسكو، بأن الدرع الصاروخية موجهة ضد الدول «المارقة»، واعتبرت التهويل بخطر الصواريخ الإيرانية توريةً وتمويهاً، نظراً لقصر مداها، وعجزها عن الوصول الى أراضي الولاياتالمتحدة. وفرضاً، امتلكت طهران صواريخ أبعد مدى، أبإمكانها استهداف العمق الأميركي، وهي تدرك، سلفاً، العواقب الكارثية التي سترتدّ عليها؟ من هذا المنطلق، تتصرف القيادة الروسية، بأن الدرع الأميركية مخصّصة لترسانتها الصاروخية بالدرجة الأولى، بهدف تقييد مناورتها وشّل ديناميتها، في حال نشوب نزاع. وفي إجراء دفاعي، نشرت موسكو صواريخ «اسكندر- آي» المتطوّرة، ذات المسار المنحني، داخل جيب كالينغراد الملاصق للحدود البولونية، ووضعت الرادارات المنصوبة لدى تركيا، في مقدمة أهدافها العملانية. ويصنّف «اسكندر» كصاروخ بالستيّ تكتيكي، يصل مداه من 280-500 كلم تبعاً لطرازه، ويحمل رأساً متفجراً زنة 900 كلغ، ويُمكن تزويده برؤوس غير تقليدية. ويتميز بالقدرة على المراوغة، وتضليل الرادارات الحديثة، فضلاً عن دقّته العالية، بحيث لا تزيد نسبة انحرافه عن الهدف، سوى بضعة أمتار فقط. في الآونة الأخيرة، تناقلت وسائل إعلام روسية نبأ توريد موسكولدمشق منظومات صواريخ «اسكندر»، بعد سنوات من الامتناع والخضوع للضغط الإسرائيلي. وإذا صحّ النبأ، يُدرج كردّ مباشر على نشر الباتريوت في تركيا، التي تذرّعت بخطر سوري يهدّد أمنها!!! والذريعة هذه مدعاة للسخرية، فسوريا في عزّ تألّقها الإقليمي، لم يكن بمقدورها مجابهة القوة التركية، وقد اضطرّت العام 1998 لقبول اتفاق أضنة المجحف بحقّها، تجنباً لنشوب الحرب. فإذا كان الحال هكذا، آنذاك، فهل باستطاعة سورية الغائصة في وحل نزاع دموي مدمّر، أن تقدم على فعل حربي ضدّ بلاد الاناضول الآن؟ ومن الأجدى التنبّه الى خطر تركيا الأردوغانية، المنغمسة كلياً، في لجّة الصراع السوري الداخلي. وللسيطرة على إدارته، أنشأت غرفة عمليات «أممية» فوق أراضيها، تُعنى بتدريب وتجهيز وتنظيم القوى المسلحة المناوئة للنظام في دمشق. كما شرّعت أبوابها لآلاف العناصر المتطرفة، العابرة من جهات الأرض الى البلد الجار. بالعود الى صواريخ الباتريوت، من يدقّق بجغرافية النقاط المنتقاة لنصبها، يدرك وظيفتها الحقيقة المتمثّلة بالدفاع عن قاعدة «إنجرليك» الأطلسية، حيث غرفة العمليات، وقاعدة «كورجيك» التي تحوي رادارات الدرع الصاروخية. وهي مشبوكة مع رادارات الاسطول الخامس الأميركي الراسي قبالة شاطئ البحرين، والتي بدورها مربوطة بمنظومات الرصد والتعقّب الإسرائيلية. وتحمل بعض سفنه صواريخ اعتراضية، من طراز «ثاد» و«إيجيس» و«باك 3»، ومن ضمن مهامها تأمين أجواء الكيان الصهيوني. ويتيح وجود الرادارات قرب ملاطية، رصد أيّ صاروخ إيراني خلال ستّ دقائق من انطلاقه، بينما تحتاج مثيلاتها الإسرائيلية، لحوالى 12 دقيقة لكشف الصاروخ ذاته. وهذا الفارق الوقتي، يسمح لمنظومات العدو الصاروخية، بالاستعداد المبكّر لتعقّبه، والعمل على تدميره. ما تقدم يدل على ان استقدام وسائل الحرب الغربية مع طواقمها الى تركيا، ليس بغاية درء الخطر المزعوم عنها، وإنما لحماية المواقع الأميركية والأطلسية فيها، ربما تحضيراً لحرب محتملة على إيران. هذا المعطى أدى الى ارتفاع منسوب التوتّر والتسلّح والعسكرة في المنطقة، من دون مبرّر جوهري. وباتت تشهد مناخ حرب باردة إقليمية، تُسهم سياسات حكومة أردوغان في إذكائها. وبالتأكيد هذه الحكومة، لا تقدم خدمات مجانية، رغم تماهيها مع المشروع الأميركي في جزئيته الشرق أوسطية. ويبدو أنها قايضت نصب الرادارات والصواريخ، واستخدام أراضيها لإدارة الحرب في سورية، مقابل توكيلها بزعامة إقليمية تحنّ اليها، منذ سقوط السلطنة. وهذه الزعامة ضرورية لأنقرة، لكي تمسك بملفّ التغييرات الحاصلة في أكثر من قطر عربي، والتحكّم بمساراتها ونتائجها، حتى وإن أفضت طرق تخريجها القسرية أحياناً، الى شروخ واصطفافات أتنية وطائفية ومذهبية، تهدّد وحدة الكيانات القائمة... إن الجنوح الأمبراطوري لحكومة أردوغان، جعلها تنتهج استراتيجية حرق المراكب، من دون الاكتراث بمخاطرها، التي لن تكون تركيا بمنأى عنها، لكونها تشبه الآخرين بتركيبتها وتنوعاتها الديموغرافية والثقافية... ولربما يظهر الآتي من الأيام مدى كلفة مغامرتها على الإقليم بمجمله.