كنا صغاراً يوم تزوج أبي.. الصدمة وتوابع زلزالها واستهجاننا الفكرة.. جعلنا نرفض نتيجتها.. ونتيجتها كانت شقيقتين.. لم نجتمع بهما للأسف في حياته، وأدركنا بأسى بعد أن فقدناه أن ذلك مزقه طويلا بين قلبه وقلبه. لأننا أحببناه.. افترقنا.. ولأننا نحبه.. التقينا.. أخيراً.. ولكن بعد فوات الأوان.. بعد سنوات طويلة من رحيله.. وفي ظلال شجرة وارفة عملاقة.. بعد عشرين عاما من التبعثر.. احتضنتنا بقعة حانية على ضفاف النيل.. بعد طول اغتراب.. التفّت الغصينات في حنينها لجذعها الأصل.. أليس نسغاً واحداً ذاك الذي يجري في عروقها..؟ بشوق وراتباك امتدت أيادينا تحاول أن تلتقي.. كأطفال كنا فرحين، رغم أن أصغرنا قارب العشرين.. بانبهار أخذ كل منا يتلمّس الآخر.. يستكشفه.. يذهلنا التشابه.. ويعجبنا الاختلاف.. اختنق الكلام الكثير في الصدور، إذ كيف تروى في ساعات أو أيام قصص عشرين عاماً من سفرنا، كل منا نحو الآخر؟. على طاولة العشاء.. أطلتُ التحديق بهم.. أن يضمّنا مكان واحد.. حلم راودنا طويلاً.. أحدٌ منا لم يتناول طعامه.. كان صمتنا حواراً.. وكان الغائب حاضراً.. ومن كرسي خالٍ في آخر الطاولة.. تراءى طيفه يبتسم بحنان وحزن.. فاضت عيناي بدمعتي أسى.. ليتنا التقينا يوم كان لقاؤنا دواءً لوحشته وألمه، ربما لو فعلنا لكان بيننا الآن.. الرجل الكبير الذي ألهمته روح أبي الطيبة أن يجمع ما لم يستطع أبي أن يجمعه في حياته.. يقول برقّة: "أنا لم أعرفه رحمه الله.. لكنني أراه فيكم الآن".. ليتك سيدي عرفته.. فلسنا سوى شذرات منه.. جمع كل فضائلنا.. ولم نملك مجتمعين بعض فضائله.. كان يعرفنا واحداً واحداً.. لكن أحداً منا لم يعرفه.. كان يبصر.. وكنا عمياناً.. كان كبيراً منذ البداية.. وها نحن قرب- النهاية- نحاول أن نكبر. ألا يستحق – ولولاه ما كنّا- أن نحقّق أغلى أمنياته باجتماعنا الآن..؟ "ابتسموا".. أمام آلة التصوير تقاربنا لالتقاط صورة تذكارية، علنا نخلد واحدة من أهم لحظات حياتنا.. أجل لنبتسم من قلوبنا وننسى الماضي.. فالمستقبل كله ينتظرنا.. والحب كفيل أن يلأم كل الجراح..