كان طبيعياً ان تلتهب حنجرتي وأسقط طريحة الفراش عقب إرهاق عدة سفرات متلاحقة في الأسابيع الأخيرة في مهمات طغى عليها التواصل والحوار. وبعد ان عاينني الطبيب زمّ شفتيه.. وقطَّب حاجبيه باستياء وألقى محاضرته الطويلة المعتادة عن أضرار المبالغة في العمل وحق الجسد والنفس في الراحة، دفع إليَّ بوصفة طويلة من الأدوية، وطلب مني الامتناع نهائياً عن الكلام عدة أيام ريثما استعيد صحتي وتسترد حنجرتي عافيتها. ماذا؟.. أمتنع عن الكلام؟.. يبدو هذا عقابا وليس علاجاً ولا استبعد أن تكون مؤامرة.. لأن كثيرين سيسعدهم هذا القرار.. فهي فرصة ليرتاحوا من نقاشاتي، وسيسعدهم بالطبع أن يأخذوا إجازة من ملاحظاتي، أما فريق عملي فقد كانت هذه بشارة حقيقية لهم.. سيتحررون لبضعة أيام من التوجيهات المتلاحقة والركض السريع. الامتناع عن العمل وواجباته تعذيب لمن لا تكفيه ساعات اليوم الأربع والعشرون لانجاز مهامّه.. ولكن ليس أمامي إلا أن أكتم غيظي وأجلس في سريري.. أحاول القراءة. لا بأس فالصمت حكمة ومنجاة ثم قد تكون هذه فرصة للتأمل كأن اتأمل في نعمة النطق، التي شعرت اليوم بقيمتها أكثر من أي وقت مضى، وتخيّلت مدى القهر والعذاب اللذين يعانيهما من حرموا نعمة النطق أو السمع إلى الأبد.. فلا لغة العيون ولا لغة الجسد ولا الكتابة ولا التخاطر ولا أي اسلوب من اساليب التواصل تعوّضك عن اخراج ما في داخلك في بضعة حروف يلفظها لسانك.. فتُبنى الجسور بينك وبين من حولك في لحظات. قد توصل همسة واحدة أحياناً ما لا تتسع له عشرات الصفحات، وقد تفعل في النفوس فعل السحر، فتبلسم الجراح وتداوي الآلام.. اليست "الكلمة الحسنة صدقة"؟.. لكنها في الوقت نفسه سيف ذو حدين، إذا لم يحسن استخدامه قطع الموصول وخرب المعمور، وقد قال صلى الله عليه وسلم - وقد اشار إلى لسانه بيده- بما معناه "لولا هذا لدخلت أمتي كلها الجنة". ولم يخطئ كثيراً من اعتبر النطق الخاصَّة الأساسية التي تميز الانسان عن الحيوان، حين عرَّف الانسان "حيواناً ناطقاً"، أليس الكلام مرآة تعكس محتوانا ومفاهيمنا ومشاعرنا فترسم حقيقتنا التي يتعذر اخفاؤها؟ وقد سأل ارسطو أحد مجالسيه عن سبب صمته ثم قال له "تكلم كي أراك". ألا تحمل بصمة صوتنا ملامح شخصيتنا وما يعتمل داخلنا؟، بل وقد تكون جواز مرورنا إلى القلوب على رأي بشار بن برد: يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا في كل محنة يتعلم المرء جديداً.. وقد اكتشفت الآن أنّ من حولي ليسوا مقلين في الكلام كما اعتقدت دائماً، لكن تدفقي المتواصل لا يترك لهم مجالا للتكلم، لهذا لا عجب ان استثمروا قرار الطبيب بكل ما أوتوا من مقدرة، وأجبروني على الاصغاء اليهم طوال النهار، لكن ذلك لن يفيدهم وقريباً حين ينتهي الخطر تنتظرهم أيام عسيرة، سأعوض ما فاتني في هذه الأيام الثلاثة بالكلام المتواصل حتى أثناء نومي ليضحكوا الآن ما شاءوا.. يضحك كثيراً من يضحك أخيراً!.