في صيف عام 1981م تقريبا كانت القرية كلها على موعد في اجتماع حاشد في أحد الأماكن العامة بدعوة من ( الدولة ) وما أدراك ما الدولة آنذاك ؟! وكأي طفل من أطفال القرية المولعين بالتجمهرات نادرة الحدوث والباحثين عن مناسبات تغطي برنامج العطلة الصيفية يعد مثل هذا الحدث فرصة لا تعوض ولا تفوت . اسعد الأطفال هو من يجد له أبا يصطحبه بين تلك الزحمة بينما من لم يكن أباه حاضرا مثلي فليبحث له عن من يقوم بتلك المهمة . جدي صالح ( عليه رحمة الله ) كان المرشح الأقوى للقيام بهذه المهمة في ذلك اليوم . أحتشد ناس القرية كلهم أجمعون وفي حلقة كبيرة مستدير يتصدرها رجال الحزب والدولة وقتئذ القادمون من ( المركز ) سابقا ( المديرية )حاليا . لم يسمح لي سني الصغير وقلة خبرتي بأمور السياسة أن أعي شيئا مما كان يقوله الرفاق ويرددونه في كلماتهم التي لا تذكرني بشئ إلا بما تسترقه أذني بعض الأحيان من صوت مذياع عدن الذي كان لا يغادر شرفة بيت جارنا رئيس الحي . انتهى الرفاق من الكلام فصفق الجميع وصفقنا نحن الأطفال بحماس وانفعال ، ثم خيم الصمت على المكان . رفع أحد المسئولين المرموقين رأسه ونظر نظرة في الحضور، وكله زهو وغرور، ثم قال : تكلموا أيها الناس نريد أن نسمع أسئلتكم واستفساراتكم وملاحظاتكم . قد لا تكون هذه الكلمات بالضبط هي التي نطقها الرجل غير أن ما فهمته بعد ذلك أنه يقصد هذا المعني . لم ينبس أحد الحضور ببنت شفه وكأن كلامه لا يعنيهم أو كأنهم لم يسمعوه . مرة أخرى كرر الرفيق تلك العبارة وزاد عليها : لم نعهدكم هكذا أيها المواطنون في هذه القرية لقد اعتدنا عليكم تسألون وتتكلمون . حينها صدع صوت جدي صالح ( عليه رحمة الله ) وبصوته الجهوري المعهود وهو ينادي من بيعد : كلشي قده مفهوم ، من قبل كنا ما نفهم وكنا نسأل اليوم فهمنا كل شي شكرا . هذه الكلمات المعدودة الصادرة من جدي لا ادري لماذا أشعر بأنها ارتسمت مجسما في جدار عقلي الباطن واستعصت على كل عوامل التعرية هل لأنها صدرت من جدي صالح أو لأني كنت قريبا منه وكان لصوته الجهوري أثرا في قوة اختراقها لحواجز السمع والعقل أم لأن الله قدر لي أن أستخلص منها حكما وعضات . انفض الاجتماع وعاد الناس إلى بيوتهم وعدت ممسكا بيد جدي صالح وكلي فخر واعتزاز أنه لم يتكلم من الحضور غيره . غير أن الشئ الذي لم أكن أتوقعه هو أن كل من لقي جدي صالح من رجال القرية بدلا من أن يشكره ويمدحه كان يعاتبه لماذا تكلمت يا بوعبد الله ؟! حتى قال له أحدهم : أنت لسانك طويلة !!! . يا إلهي لماذا يحسدونك يا جدي العزيز حتى على الكلام ؟؟!! وماذا قال جدي حتى تعاتبونه ؟! عدت إلى البيت وكلي نشوة بما قاله جدي وحزنا على حسد الآخرين له وعتابهم عليه . عدت لأخبر أمي بما حصل . وما قال جدي صالح الذي هو والدها ويا لتني لم أخبرها . حتى هي غضبت من كلام جدي صالح وقالت : الله يهدي أبوي ليش يتكلم وارتسمت على وجهها صورت الخوف والقلق . قلت في نفسي حتى أنا ليتني لم أتكلم . لماذا هل الكلام صار فيما بيننا حرام ؟؟! مات جدي صالح عليه رحمة الله وكبرت أنا وفهمت أشياء كثيرة أيضا لم أكن اعلمها وتعلمت كيف تكون لغة الصمت أحيانا ابلغ من لغة الكلام . والسلام