3إذا أمريكا والسوفيت هما اللتان تتصارعان على بسط النفوذ في العالم بعد الحرب العالمية الثانية وفي ظل ما سميت الحرب الباردة، فالأنظمة الجمهورية ظلت أقرب للسوفيت والملكية أو غير الجمهورية أقرب لأمريكا، ولكن مع فوارق أو مفارقات أهمها واحدة، وهي أن السوفيت ربطوا الصراع بأيديولوجيتهم الأممية، فيما أمريكا اكتفت بتوظيف واقع كل منطقة لصالح صراعها كأولوية ومن ثم ما يمت للأيديولوجيا بصلة. إذا وفي ظل صراع ساحة اليمن "القومية- الرجعية"، فالذي كان يطرح هو أن هذا الصراع يهدد مصالح أمريكا الاستراتيجية وليس مصالح السوفيت. ربما تشابك سقوف وأطراف هذا الصراع هو الذي أسس لوضع ونقاط ضعف النظام في صنعاء منذ قيام الثورة، فإذا النظام بعد الثورة وبالتدخل المصري لم يستطع بسط نفوذه في كل أنحاء اليمن وظلت القوات المصرية تستنزف من هذا الواقع وفيه فلا تهديد للأنظمة الرجعية أو لمصالح أمريكا.. فواقع النظام في صنعاء كان رأس حربة للمد القومي وفي ذات الوقت خط دفاع بكفاءة عالية عن الأنظمة الرجعية ومصالح أمريكا. إذاً فاليمن تصلح لأن تكون رأس حربة للمد الأممي وفي ذات الوقت خط مواجهة الزحف الشيوعي وحماية مصالح أطراف أخرى، والمسألة ليست بالضرورة عمالة كاملة أو قبول كامل بالوعي لثقل الرجعية والإمبريالية أو ثقل الأممية لأن ربط المتغيرات بالخيارات تفرض مستوى من الأمر الواقع. ولهذا فإنه مهما جرت حوارات واقعية وموضوعية وجادة بين الجمهوريين والملكيين ما كان يتم الوصول إلى اتفاق الصلح وتطبيقه إلا من متغير هزيمة 1967م وانسحاب القوات المصرية ولذلك أيضاً ومهما كانت الحوارات والاتفاقات الوحدوية سليمة وجادة ما كان سيتم الوصول إلى تحقيق الوحدة لولا انهيار السوفيت. في ذروة الحرب الباردة أو بين المحطات الأهم مثلاً فأولوية مواجهة الإلحاد والجهاد في أفغانستان باتت أولوية للسعودية وليس قضايا خلافية كالحدود مع اليمن، وهذه الأولوية تفرض نفسها على واقع بلدان كما اليمن وحتى مصر بعد توقيع اتفاق ومعاهدة السلام مع إسرائيل. منذ تحقق الوحدة اليمنية وغزو وتحرير الكويت مثل الفترة الانتقالية إلى النظام الدولي الجديد أو أولوياته، وحيث هي فترة الأولويات لصراع عالمي أو للنظام الدولي الجديد فهذا الفراغ يملأ بالصراعات والقضايا الأصغر والسعودية رسمت معظم حدودها كما اليمن رسمت كل حدودها في هذه الفترة، وإذاً فأطراف قضايا كهذه كأنما كانت في مفاوضات بالصراع والتوترات أو بالحوارات، والربط بالنظام العراقي أو حتى بالإرهاب كانت من استعمالات قضايا وأطراف في هذه الفترة وتأتي من ذلك اشتقاقات صوملة وأفغنة ونحوها. كلا الطرفين في صراع اليمن بعد الوحدة كان كل منهما يعي الكثير من هذا، ولكن كل طرف ظل يستخلص هذا الوعي لصالحه ومصالحه، ومثلي مثلاً خياره كقناعة وإيمان أن يكون في جبهة الوحدة وإن لم تكن ثقته عالية أو كاملة بانتصار الوحدة بقياسات كل الصراعات السابقة. إذا تمرد "الحوثي" استمر ست سنوات وخاض حروباً ستة لاحقاً، فذلك يعطي مؤشراً لأن تكون ثقة من سار في خيار أو قرار الانفصال أعلى من الذي سار في خط الدفاع عن الوحدة. من السذاجة تصور سقف مثاليه عال لكلا النظامين اللذين سارا في تحقيق الوحدة، لكن لو انعدمت المؤشرات والاستجابات الخارجية الداعمة لكل طرف أو لطرف، فأي طرف يرى أنه المتضرر كان يملك وسائل كثيرة وكبيرة للضغط دون تصعيد إلى واقع أو خيار الحرب، لكنه عند ما تصبح هذه المؤشرات الخارجية هي المستعملة لفرض شروط تمثل إجهاضاً للوحدة أو النظام فذلك خنقاً هو حرب أو من الحرب قبل الحرب. المدينة الفاضلة التي تصورها أفلاطون "مثالية" والنظرية الأممية ترتكز على مثالية، وكذلك ما سميت وثيقة العهد والاتفاق، وبمتراكم التحارب والتحريب تصبح المثالية والغلو فيها من السياسة.. والاتحاد السوفيتي ظل يبشر بمثالية الشيوعية وينشرها دون أن يجسد في الواقع أمثلة وقدوة لهذه المثالية، كما هو لم يجد ما يعمل لموازاة ومواكبة إنجازات الغرب والامبريالية في واقع الحياة العامة كرفاهية وسلع خدمية واستهلاكية. نحن في اليمن وقد استهلكنا القومية كمثالية في الشعارات ثم الأممية فمن السهل على أي طرف القفز إلى المثالية في الديمقراطية أو الامبريالية وهذه المثالية هي إجهاض للطرف الآخر وفي أحسن الأحوال تعجيز. الحوارات إن لم تكن في الغالب مثالية فإنه يغلب في معطاها المثالية بأي قدر، ولهذا فأي مثالية إما أن تكتسب العقلانية من مدى واقعيتها أو تكتسب واقعية من واقعية الواقع الذي تدمج به أكان داخلياً أو خارجياً أو واقع وواقعية الغائيات والأهداف. ففكرة الحق الإلهي أو اشتراط البطنين التي ارتكز عليها الحكم الإمامي تدان الآن بالمباشرة والأغلبية الأكبر كتخلف.. ولكن الذي لا يلتفت له واقعية السير فيها بواقع فترة من الزمن والتاريخ واستجاباته.. فلا طرف يستطيع تطبيق الشيوعية في واقع اليمن كما السوفيت.. ولا طرف يستطيع النقل التلقائي للديمقراطية إلى مستوى أمريكا، ولهذا ففي فترة من صراعات الاشتراكي لجأ طرف لمثالية القيادة الجماعية أو التخيير بين منصب رئيس الدولة ورئيس الحزب، وبالتالي تصبح المثالية بين وسائل وأدوات الصراع وليس تصويباً أو إصلاحاً. إذا صفي رئيسان للنظام في صنعاء خلال عام واحد فإنه يمكن تصور سقوط النظام وتحقيق الوحدة شيوعياً بالقوة، والمشكلة ربما ومن هذا التصور هي في صعوبة أو استحالة تطبيق الشيوعية باليمن ومن ثم التقاطع مع مصالح آخرين أو أي تهديد بأي مسمى حيوية أو استراتيجية ونحوه. إذا طرف في صراع مارس وفرض غلو مثالية لا واقعية فيها فيما عرفت "وثيقة العهد والاتفاق" فالطرف الآخر مارس مثالية المسايرة بانتظار واقعية الصراع للطرف الآخر في التوزع من هذه المحطة على عواصم كشف المكشوف. وطننا لا نحميه وكفى.. ولكننا نحميه لنحتمي فيه وبه والانتماء الوطني سقفه الثوابت والانتماء المصالحي سقفه الواقعية والوعي وكل نظام يفلسف المفهوم إلى المثالية التي تعنيه أو تخدمه وإلى الواقعية مع النظام وليس الواقع العام وبالتالي فالمثالية تصبح انتقائية للصراع أو من الصراع. حوار 2009م الذي انتهى باتفاق النظام والمشترك على تأجيل الانتخابات كان حوار انتخابات أفضى إلى التعطيل بالتأجيل، فيما حوار 2010م الذي سينتهي العام 2010م قبل أن يبدأ عنوانه "الحوار الوطني" فهل لتوسيع الحوار وإشراك أطراف وأثقال أخرى أم لاتساع في أهداف الحوار وقضاياه؟ هل يعني انتقالنا إلى حوارات بسقف الوطن وواقعية قضايا واقعه وليس بأسقف صراعات خارجية وقضايا آخرين؟ المتلقي العام والواقع العام مقتنع بأن النظام والمشترك أرادا تأجيل الانتخابات وهو غير مقتنع بأسباب التأجيل ولم يسع طرف لتوضيح أسباب أو لإقناع إلاّ إذا تهاوى وانهيار النظام يجعل من مصلحة المشترك التأجيل أو إذا ضعف وانعدام شعبية المشترك تجعل التأجيل لصالح النظام وذلك ضد الفهم والمفاهيم فكيف يفهم؟ يفترض تفهم النظام لواقع المعارضة وتفهم المعارضة لواقع النظام في إطار الواقعية العامة والواقعية الوطنية الوعيوية كإطار عام لحوار واعٍ وواقعي في مداخلاته لتكون المخرجات واعية وواقعية. المشترك هو أنظمة مد وصراعات انتقل في ظل الديمقراطية إلى دور المصدر للمثاليات الكلامية الشعاراتية بما يجعل النظام تلقائياً كالمصادر لقدر من هذه المثاليات، وكلما زايد المشترك بالتصدير ترك النظام الواقع وصراعاته لتمارس المصادرة. أخطر ما في الصراعات أنها باتت تستنزف القيم بالتصدير والمصادرة، فنحن في الكم أضفنا للقيم المفترضة ما تسمى قيم الديمقراطية وقيم الحوار وهي في التطبيق أو الممارسة إضافة بالسلب أو سالبة فهل يعيد الحوار الجديد الاعتبار لقيم المصداقية والموضوعية؟!.