إذا ما جرى في إيران الشاه هو فتح الواقع وفرض انفتاح بغلو يتعارض مع الإسلام كغالبية أو تغليب لقيمه وأحكامه هو الذي استفز واستنفر الواقع لإنجاح الثورة الإسلامية، فالسير في خيار الشيوعية والزحف لتوحيدها بالقوة يستفز المجتمع إسلاميا أو يستنفر الإسلاميين. كذلك فإن أولوية تحرير الجزيرة والخليج من الرجعية قومياً أو شيوعياً تستفز وتستنفر المشاعر الإسلامية، وما دام هذا الاستفزاز هو في إطار الصراعات بين أنظمة وبلدان فاستنفاره يعبر عنه بتكوين وتكتيل أو تنظيم اتجاهات سياسية إسلامية أو مؤسلمة. إذا الزعيم عبدالناصر أنذر رئيس العراق عبدالكريم قاسم ومنعه من دخول أو التدخل في الكويت، فذلك يجسد الوعي المفترض بالصراعات الدولية والتعامل مع واقعيتها في إطار صراعاتنا. فتهم الرجعية أو التعامل أو عمالة مع الاستعمار هي تهم مطاطية يمكن تنصيصها على تعامل صدام حسين والنظام العراقي خلال الحرب مع إيران وحتى على تعامل عبدالناصر مع السوفيت قبل حرب 1967م، فالنظام في اليمن فرض في واقعه المد القومي، وهزيمة 1967م فرضت على واقعه الاعتدال الرجعي، لكنه ظل نظاماً جمهورياً يدان بالرجعية أو بالعمالة للرجعية. فالانتصار على عدوان 1956م لم يتم إلا بتدخل الصراعات الدولية.. والصراعات الدولية كانت الأكثر تأثيراً في هزيمة 1967م، كما أن انتصار 1973م حددت سقفه الصراعات الدولية. هزيمة 1967م سببه المباشر المبادرة والبدء والمباغتة من قبل إسرائيل، وانتصار 1973م كان عنصر المفاجأة أهم عوامله، وإذا كان علينا في قضايانا أو واقعنا بالصراعات الدولية أن نحدد أساس وخيارات نضالنا إما من وضع طرف في الصراعات الدولية أو من مساحة التحرر للمناورة في إطار هذه الصراعات الدولية. إذا الخيار الشيوعي هو ربط مباشر عضوي وصميمي بطرف في الصراعات الدولية، فانتقال أولويتنا إلى التحرير والتحرير من الرجعية والوصم بالرجعية أو العمالة للاستعمار من الطرف الشيوعي أو القومي، هو استنزاف للجهد والعمل القومي من ناحية وهو ارتباط أقل مباشرة بطرف في الصراعات الدولية، وهذا الربط أو الارتباط غير المباشر له تأثيرات سلبية حاسمة في المحطات الحساسة كما قبل هزيمة 1967م. إذا أميركا ظلت تتفرج على الحملات والتعبئات ضد الرجعية كصراع بين الأنظمة العربية، فالسعودية بمفردها نجحت واقعياً في استنزاف القوات المصرية باليمن وبتجييش يمنيين كأساس وثقل وغالبية، وبالتالي فأميركا حين التداخل أو الاشتراك مع الأسلمة، فليس لاستهداف نظام شيوعي في اليمن أو أي نظام آخر قومي، وكذلك ليس لاستهداف نظام شيوعي في أفغانستان، ولكن لاستنزاف واستهداف الاتحاد السوفيتي "ثقل الشيوعية" من خلال أفغانستان. نحن ندين وعينا حين عمد استبعاد تأثير الإنذار الأميركي في الانتصار على العدوان الثلاثي 1956م، أو حين نعلل هزيمة 1967م بمؤامرة عربية أو تآمر سوفيتي، لأن هذه صراعات لابد أن يستوعبها الوعي في المواقف وقبل أي حرب. إذا كان هناك مؤامرة ضد النظام في العراق وصدام حسين، فإنه كان عليه ألاَّ يتحول مجرد أداة في السيناريو بغزو الكويت تحت أي وضع. إذا التحرر من الرجعية باتت أولوية قبل تحرير فلسطين، والشيوعية أولوية لليمن ومن ثم الوحدة، فالإسلاميون نقلوا أولويتهم أو نقلت إلى أفغانستان لمواجهة الإلحاد، وكلنا في الهم شرق وكلنا في الوعي لا نستشرق ولا نستشرف. هاهي اليمن التي تمرغت في وصايات الصراعات القومية والرجعية والشيوعية والأصولية منذ تحقق الوحدة وتحررها من واقع وواقعية وبصمات ووصمات في أفعال وتفعيل هذا الواقع، انتقلت إلى الصراع بإسقاطات الوصايات وبثقافة الوصايات. بإلقاء نظرة على المشترك سنجد أثقاله مندوبين للوصاية الاستعمارية والقومية والشيوعية والرجعية والأصولية، وهؤلاء حين يتحدثون عن الوصاية فكل مشكلتنا عدم القدرة الدقيقة إذا ما كانوا يمارسون ثقافة إسقاط الوصاية من مركب نقص تجذر داخلهم، أم يمارسون ثقافة الوصاية فقط كصراع وللصراع دن تأثير لمركب نقص محتمل. فالشيوعية هي التي جاءت بالشوعيين لليمن وليسوا من جاءوا بها كما يطرحون وأميركا هي التي اختارت للإسلاميين الجهاد في أفغانستان وليسوا من اختاروا. وبالتالي فاليمن هي البلد الوحيد التي كانت طرفين وجبهتين في حرب أفغانستان "أسلمة أصولية وشيوعية تقدمية". الطرفان اليمنيان المتطرفان المتضادان في حرب أفغانستان باتا من يطرح اليوم بأن مؤتمر لندن يمثل وصاية على اليمن وفي أوضح بجاحة للاستخدام المطاطي لكيل ومكاييل الصراعات. الذين ارتضوا الشيوعية وصاية على حياتهم وشعبهم ومعتقدهم، والذين قبلوا وصاية أميركا على عقيدتهم وجهادهم يفترضون صمتهم وانخراسهم في أي حديث أو كلام عن الوصايات. إذا المسألة أنهم كمعارضة لا خيار لهم غير الاتجاه المعاكس لمواقف النظام بغض النظر عن صوابها أو خطئها، فهم مخطئون حتى بمعايير واستحقاقات هذه الرؤية الخطأ أصلا، والخطيئة كشمولية فهم بهذا الموقف الصراعي لم يعد لديهم وعي للتفكير حتى بمعاييرهم المتكاسحة وعيرهم الكسيحة ونفيرهم الكساح. المعارضة هي التي تطرح بأن النظام لا يوظف أية مساعدات أو دعم دولي لصالح التنمية، وفي الوقت الذين يدين رؤساء حكومات غربية عدم إيفاء المانحين بالتزاماتهم في مؤتمر 2006م، فالمعارضة في اليمن تؤكد ان المانحين أوفوا بالتزاماتها ولكن النظام لم يحسن استثمارها. المعارضة هي التي مارست حملات تعبئة ليتدخل مؤتمر لندن بشروط لاستثمار الدعم الدولي في المشاريع المحددة له، وفي هذا استجابة لدعوة المعارضة اليمنية أو لما تطرح. المعارضة كان هدفها من طرح كذلك إفشال مؤتمر لندن وليس شيئاً، وكونه حقق أعلى مستوى من النجاح فهي كرد فعل تطرح بأن مؤتمر لندن يمثل وصاية على اليمن. لو مؤتمر لندن استجاب للمعارضة في اليمن، فلن يجد ما يفهم منه وصاية غير تلك الشروط التي طرحها على النظام لاستعمال الدعم الدولي في الأوجه والمشاريع والقطاعات المحددة له في إطار تنمية وتحديث اليمن. الشيوعية في اليمن كانت مع تحرير اريتريا في ظل الامبراطور "هيلا سيلاسي" وبعد مجيء الشيوعية و "منجستو" باتت مع وحدة اثيوبيا وضد التمرد الاريتيري والمروق "الأفورقي". والاسلاميون ظلوا ضد الإلحاد في اليمن حتى بعد انتهاء، ودستور دولة الوحدة "ملحد" ولم يتجاوزوا هذا الوعي وتفعيله من أجل الوحدة واليمن الوطن، ولكنهم تجاوزوه ومسحوه للتوحد في الصراع ضد النظام. فشروط مؤتمر لندن والمانحين هي ما تبنته بالحاح المعارضة اليمنية، والوصاية التي تندد بها المعارضة هي ذاتها الشروط، وإذا فالوصاية سقفها ما طالبت به المعارضة اليمنية، وإذا فمؤتمر لندن معني بالعودة إلى مجلس الأمن المشترك في اليمن ليستوضح ما تريد من شروط ومن سقف للوصاية ولتفكيك الفهم والمفاهيم الملتبسة للمشترك بين الشروط والوصاية. فكلاهما واحد كفهم ومفهوم ولكن المعارضة تحتاج استخدام اكثر من وجه للفهم أو المفهوم الواحد، فالذي يعنيها ان تعارض النظام بما يفرض الشروط ثم ان تستخدم هذه الشروط باعتبارها وصاية لمعارضة النظام. إذا مؤتمر لندن يتحسس من مفردة "الوصاية" باعتبارها ارتبطت بأسوأ فترات الاستعمار المباشر، فعليه إلغاء الشروط التي وضعت على النظام، وبذلك تكون المعارضة صدمت النظام حين عارضت لفرض شروط وحين عارضت لإلغائها. وهكذا حين الانتقال من وعي الصراعات الدولية والوعي بها إلى وعي ورغي وبغي صراعاتنا نتقزم، والانهزام هو في هذه الصراعات والوعي أكثر مما هو في هزيمة أو انتصار محدود. فالسادات الذي أحسن استثمار الصراعات وأوضاع التوافق لم يحسن لا تعظيم ولا استثمار انتصار 1973م لاهتزاز الوعي وفقدان الثقة في خياره الواقعي للمواجهة غير المرتبط أو المرتهن بطرفي الصراع العالمي. فالمعارضة تفرض الشروط على النظام من مؤتمر لندن من الوجه الخارجي لخطابها الذي جوهره "النظام فاسد" لتكون النتيجة "نحن البديل الأفضل لكم في اليمن" وليس وضع وتحديد شروط. فإذا أصبحت هي بديل النظام فكل مشطوبة تلقائياً من العمالة للرجعية والامبريالية وصدام حسين حتى الوصاية، وتصبح كل المجاري وما يجري هي الثورية والوطنية ومشاريع التحديث والمشاريع الحضرية.. وإذا مثل ذلك لم يتم يستعمل الوجه الآخر المتناقض للخطاب الداخلي. إذا من حق اريتريا الاستقلال في عهد امبراطور فليس من حقها في ظل الشيوعية، فإذا هو الامبراطور فالنظام الاثيوبي يستعمر ارتيريا.. وإذا باتت الشيوعية فوحدة اثيوبيا لا تمس ومن يعتبرها تستعمر ارتيريا "يلحس". وهكذا حين يخرج الشيوعيون والاسلاميون من نظام أو شراكة نظام، تنقلب المفاهيم على ذاتها 180 درجة. يتم ليس فقط شطب العمالة للرجعية ولكن تبرئة الاستعمار البريطاني مما هو معروف ويعترف به كاستعمار، فإذا النظام توافق مع الوحدة فالوحدة هي الاستعمار، وإذا توافق مع مؤتمر لندن فمؤتمر لندن هو وصاية على اليمن وآخر الملحقين والملاحقين في الوعي بتفصيل أثر رجعي يقول "سايكس بيكو". إذاً فالواضح ان لدى المعارضة غلواً تجاه النظام يتجاوز غلو الصراع بين أميركا والسوفيت، والنظام في اليمن استخدم الاسلاميين لوقف الزحف الشيوعي "كدفاع عن النفس" وليس لاقتلاع شيوعية هجومياً كما حالة أميركا في افغانستان. أليس مثل هذا الغلو الملموس يدفع لاستخدام كل الأدوات والصراعات ضد النظام كما قضية الوحدة أو وجهي الشروط والوصاية لمؤتمر لندن. هل لا زال احتمالاً واقعياً في ظل هذه الصراعات أو أخرى في الواقع وجود تعاون أو تعاطف مع الإرهاب من وجوه وثقافة التطرف صراعياً بما في ذلك الصراع ضد النظام؟!. أليس الموقف من استقلال اريتريا أو وحدة اثيوبيا ربطاً بالخيار الشيوعي، هو ذاته في حاصل الممارسة مع الوحدة اليمنية؟!. فالموقف مع استقلال اريتريا يحتاج إلى تبرير.. والانتقال للرفض والوقوف مع وحدة اثيوبيا يحتاج إلى تبرير وذات الطرف استطاع التبرير لموقفين متضادين في قضية واحدة، فخيار الشيوعية لم يبرئ اثيوبيا فقط من تهمة استعمار ارتيريا، ولكنه رفع مرتبتها فوق القومية والاسلام، فيما الوحدة اليمنية التي تحققت سلمياً وديمقراطياً بأقوى مشروعية واقعياً واقليمياً ودولياً، لم تمنح في المشروعية لدى المعارضة استحقاق الوحدة الفيتنامية التي فرضت شيوعياً بالقوة. المعارضة مثل طبيب يكتب للمريض العلاج الأول في "الروشتة" ثم يكتب العلاج الثاني الذي يلغي مفعول الأول وينسفه بالضغط لفرض الشروط ثم التنديد بالوصاية، وهذا يعني ان الوعي النخبوي بخياراته الصراعية ما زال قبل وحدة فيتنام أو هزيمة 1967م.