الرئيس الراحل أحمد الغشمي - الذي هو أقل من حكم في اليمن ولحوالي ثمانية شهور فقط قبل الرسول الشيوعي والحقيبة الناسفة التي أودت بحياته - جاء في فترة صعبة أو عصيبة بعد مقتل الرئيس إبراهيم الحمدي. مطهر الأشموري كأنما تلك الفترة تمثل فترة انتقالية من التفعيل المباشر للصراعات الخارجية إلى تفعيل غير مباشر موازٍ في إطار الصراعات الداخلية على الحكم. على سبيل المثال مما كانت تعرف بشركة الطباعة والنشر تعرضت للحريق في عهد الرئيس الحمدي الذي أصدر قراراً بعد ذلك بإنشاء مؤسسة سبأ العامة للصحافة والأنباء، وجاء الغشمي والوضع الطباعي غاية في الصعوبة لعدم توفر آلة أو آلات طباعة الصحف. حين بلغه ما يتصل بهذا الوضع أمسك الهاتف واتصل مباشرة بمسؤول أو مدير المطبعة من وضع مفاجأة وارتباك، حاول مدير المطبعة إيضاح عدم وجود آلة لطباعة الصحف بمستوى من حداثة ذلك الزمن أو حتى الجيل الذي قبله، فرد الرئيس بغضب جامح: "لماذا لا تستعملون الآلة أو المطبعة التي قدمت هدية هل لأنها رجعية؟!!". هذه الآلة الطباعية المقصودة كانت مقدمة من الشقيقة السعودية ولم تكن المشكلة في قدمها ولا في كونها مستعملة، ولكن في كيفية التركيب والتعامل مع نواقص إن بسبب الاستعمال أو من أسباب تفكيك وتركيب وشحن وتحميل وتفريغ وهكذا. حتى قبل ذلك الزمن وحتى بالشراء والاستيراد كأوضاع بلد كان يؤتى بآلات مستعملة كما في مصنع سجاير كمران، ولكن الجهة المورد منها توفد من يركب ويدرب. فمثل هذه الحادثة تقدم مشهداً من أزمات البلد كصراع سياسي واستشهاد لما في الواقع من أزمات. إذا ثورة سبتمبر قامت واليمن في وضع العصور الوسطى أو ما قبلها، فيستحيل أن يكون هذا الواقع بأسوأ تخلف رأس حربة مناسب لمد أو وعي قومي، وإذا الصراعات الداخلية أو الخارجية فرضت عليها هذا الوضع فذلك منعها من انتماء للتجانس في التطور مع محيطها. دعونا لا نتوقف عند سقف الصراعات العربية أو الأقليمية فقط بل نقيس من سقف الصراعات العالمية، فهل الشيوعية والشرق أم الإمبريالية والغرب أم الصراعات الداخلية أم كل هذه الأطراف اختارت اليمن لتكون رأس حربة الشيوعية من تفاعلات وأوضاع ما بعد هزيمة 1967م؟!.. إذا استعرضنا التطورات من هذا السقف فسنجد أنه ليس غنى محيط اليمن فقط هو الذي طوره بل لخيارات واستراتيجيات وتكتيكات الصراعات العالمية دور في تطويره في إطار رؤية طرف لمصالحه أو توازنات لصراعات ومصالح الطرفين. فالخيار القومي أو الاستراتيجية الشيوعية كان كلاهما يتبنى التثوير ومن ثم التطوير كأولوية تحرير بلدان الرجعية بعد التحرر من الاستعمار أو حتمية الثورة العالمية الأممية، وبالتالي فالجهد الأساسي كان ينصب في الجانب والدعم العسكري أو الحد الأدنى من ميزانية إنفاق تُسيِّر مؤسسات الدولة وتؤدي المهام الأساسية، وهذا ما استنزف ثقل القومية أو الشيوعية. الطرف الآخر الغرب أو أميركا ركز على استخراج الثروة النفطية لتصبح هذه البلدان هي المصدرة للنفط وهي المستوردة للسلاح، وبالتالي هي تتحمل الإنفاق ولا تحمله وهذه الثروة كثراء تستطيع اختصار الزمن في التطور البنيوي كطرق وكهرباء ومياه ومن ثم كتعليم. أن تكون اليمن هي رأس حربة الشيوعية بعد أدائها رأس حربة المد القومي حتى هزيمة 1967م، فذلك يعني ثقة الثقل القومي أو الشيوعي بأنه سينتصر من خلال رأس حربته. ما دام المد القومي انكسر بهزيمة 1967م وثقل الشيوعية اندثر بعد ذلك بعقدين أو أكثر، فالذي انتصر هو استراتيجية وتكتيك الطرف الآخر، فماذا كانت اليمن في تكتيكه أو استراتيجيته لنفهم؟!. لنسلم بأن الاتحاد السوفيتي لم يدعم حروب توحيد اليمن شيوعياً كما دعم حروب توحيد فيتنام، فيما بدت حروب توحيد اليمن شيوعيا كفاقدة الأهمية، وتركت الوضع وتخويل الصلاحية والتقدير للرياض وذلك ضمن تكتيك مرحلي أو استراتيجي لكلا الطرفين الدوليين!. توجيه حروب الجهاد الإسلامي ومواجهة الإلحاد إلى أفغانستان، تؤكد تجاوز اليمن استراتيجياً من طرف أميركا والغرب، وأنه تم التعامل مع اليمن كرأس حربة من طرف الغرب تكتيكيا وليس استراتيجيا. إذاً فالشرق القومي أو الأممي كانت أولويته من اليمن كرأس حربة ثورية وليس تطور وأميركا والغرب كانت أولويته في اليمن تكتيكية وليس استراتيجية. لو أن ثقل المد القومي أو الأممي هو الذي انتصر فإنه كان سيعدل حتى من باب مقاربة الظلم، حيث يقال: "المساواة في الظلم عدل" فبغض النظر عن أخطاء أو تطرف أيديولوجيا أو مد ولكنه بواقعية صراعه كان يعطي لليمن قيمة استراتيجية وليس مجرد تقاسيم وتقاطيع تكتيكية. من جانب آخر فإن المد القومي أو الأممي لو انتصر لوحد اليمن قومياً أو أممياً بلا اتفاقات ولا ديمقراطية ولا استفتاء قبل الوحدة ولا صراعات وحروب وتمردات بعدها. أما وحيث انتصر طرف الخيار التكتيكي لليمن أو باليمن، فالوحدة حتى لو تحققت بكل خطوات المشروعية الكاملة داخلياً واقليمياً وعالمياً فأطراف في الصراعات الداخلية فقدت كل أعدائها التقليديين الذين ظلت تفرغ عداءها تجاههم من الاستعمار وأعوانه إلى الرجعية وعملائها إلى الإمبريالية ومرتزقتها، والوحدة أو "نظام الوحدة" بات عدواً لمن فقد عدوه أو "عدو من لا عدو له". فألمانيا الغربية من أجل تحقيق وحدة ألمانيا لديها قدرة على التعامل مع المؤثر الخارجي الأكثر تأثيراً لتدعم روسيا بأربعة أو خمسة ملايين دولار في وضعها الصعب بعد التفكك، فهل طبقت أميركا في اليمن مشروع "مارشال" لتصبح شيئا من هذا الوضع؟!. نعم لقد ظلت أوضاع اليمن وواقع تخلفها مرتبطة بنظام إمامي منغلق ونظام استعمار عتيق يجزئ "المجزأ".. أما بعد ثورة سبتمبر واكتوبر فقد ارتبطت أكثر بالصراعات الخارجية وتحديداً قطبي الحرب الباردة بشكل مباشر أو غير مباشر. واختيار اليمن تكتيكياً في الاستراتيجية الأميركية هو الذي ألحق باليمن أضراراً فوق خصوصيات تضررها تخلفيا، وهو لم يعضد اليمن وإنما عضد أوجاعها وسوء أوضاعها، فهو إن لم يكن له دور مباشر في خلق الإرهاب فله دور مباشر يعيه أو لا يعيه في صنع بيئة الإرهاب. فأميركا أدركت مبكراً وبداهة أن المنطقة ليست بيئة مناسبة للشيوعية، والاتحاد السوفيتي استدرك في هذا الفهم، وهو لهذا لم يدعم حروب التوحيد شيوعياً كما فيتنام بقدر ما ظل يبحث عن مكان في القرن الأفريقي عن طريق محمد سياد بري "الصومال" أو أفورقي أرتيريا حتى النجاح ب"مانجستو" أثيوبيا. فأميركا بقدر ما أدركت مبكراً بداهة أن المنطقة ليست بيئة مناسبة للشيوعية، هي تدرك بداهة ومنذ ذلك الوقت أنها بيئة مناسبة للإرهاب، وبالتالي هي اكتفت بحماية البيئة من الشيوعية، ومجرد هذا الخيار يؤدي إلى ترعرع ونمو الإرهاب، فمواجهة الشيوعية اختياراً أو اضطراراً ببيئة الإرهاب يخلف إرهاباً أخطر من مواجهة الشيوعية بالإرهابيين. كان واقع اليمن "صوملة" خلال الحرب بين الملكيين والجمهوريين كانعدام سلطة لنظام في معظم المناطق الواقعة تحت حكم النظام بصنعاء، والذي حمى واحتمى من الصوملة هو "مخزون حضاري" في الوعي واللا وعي لدى هذا الشعب، فيما تهديدات الصوملة والأفغنة بعد الوحدة كانت تخريجات لصراعات موجهة لها أهداف واستهدافات. إذا "أم القصر" كانت الهدف التكتيكي وبغداد الاستراتيجي خلال غزو العراق، فمعاناة وآلام وإيلام أم القصر، ثم التضحيات هي أكثر من بغداد، فالذين يختارون للتكتيك هم الأكثر عذابا وتعذيبا وهم الأكثر ضحايا وتضحية أكانت بلدانا أو بشراً.. فالمهام التكتيكية للاستراتيجيات أسوأ بكثير من مهام الاستطلاع في الحروب في الزمن والمد والمخارج وإمكانية الرجعة والتراجع. إذا أفغانستان هي الأنسب كمحطة متقدمة في الصراع للسوفيت، فاليمن ظلت معمل التجريب الواقعي والمسرح الحي في الواقع للوصول إلى وثوقية ومن كامل تعبوية تلك الخطوة. هذا الطرح لا يعني تنصلنا من المسؤولية تجاه الإرهاب أو تجاه الحرب على الإرهاب، فاليمن كانت الإرهاب قضيتها قبل أميركا بأي مسمى وعناوين وبأي أساليب أنسب للمواجهة.. والإرهاب هو خطر على اليمن أكثر من أميركا والغرب، لكنه لا يفترض في ظل الانتقال من المد القومي والمد الشيوعي والأصولي إلى امتدادات للصراعات الداخلية ألاَّ يكون حاصل الأحداث أو ما يحدث وكأنما أميركا أو الغرب هو من يطالب مصداقيتنا في الحرب على الإرهاب، بل نحن من يطالب أميركا والغرب بالمصداقية حضارياً وأخلاقياً وإنسانياً يتجاوز إدخال وطن وشعب في دوامة المرارات والعذابات والمكابدة والمعاناة بالخيار التكتيكي لصراع الحرب الباردة أو لما بعدها كاحتمال. ليس فقط الأنظمة التي رحلت أو اندحرت هي التي اخطأت بل لكل الأنظمة القائمة أخطاء من أكبر وأقوى نظام إلى أصغره أو أضعفه.. أي فارق هو في نسبة ونسبية الأخطاء، ولكن أخطاء نظام "طالبان" تبرر غزو أفغانستان وأخطاء النظام العراقي لا تبرر الغزو إلا إذا بات الغزو مرحلة للاستراتيجية وقراراً استراتيجياً، والتبرير تخريجات غطاء واقعي أو أخلاقي كما تمارس أثقال في المعارضة اليمنية تتمنى تكرار للزحف الطالباني على الحكم ولكن بيافطة مشترك كل الصراعات. في أي عمل أو مصالح أو أهداف مشتركة من حق كل طرف أن يتعامل ويتعاون ويراقب، لكنه مثلما ليس مقبولاً أي خطأ للنظام فيما يتصل بالحرب على الإرهاب أو معالجة بيئة الإرهاب، فليس مقبولاً كذلك أن تتحول "أخطاء نظام" إلى شماعة لاستمرار أو تجديد تكتيك أو لأي مطالب أو اشتراطيات سرية غير مقبولة وطنيا. أميركا تعرف قبل غيرها وأكثر من غيرها أن اليمن بدأ الحرب على الإرهاب قبلها بأنسب قدراته ووسائله وأدواته، ومن حق أميركا كما هو حق لأي طرف آخر من أميركا التأكد من حقائق واستحقاقات هذا الموقف، وليس لأميركا بعد حق مس نظام أو معرفة أو كشف أو إحراق أي أدوات وآليات للنظام في الحرب ضد الإرهاب. أين كانت أميركا واليمن تحتاج إلى آلة لطباعة صحيفة؟!.. وأين كانت واليمن تحتاج إلى مائة مليون أو نصف مليار دولار فقط لتوقف زحف الشيوعية لتوحيد اليمن بالقوة؟!. اليمن الواقع هو هذا الواقع "واقع تكتيك أميركي".. واليمن النظام هو من هذا الواقع وكان في هذا الواقع يصارع الصراعات بوعيه وواقعيته وأدواته، وبما لا يضر ذاته ولا يضر آخرين. بين كبرى الصحف الأميركية من توقعت وأكدت بعد مجيء علي عبدالله صالح أنه لن يستمر في الحكم أكثر من ثمانية شهور، ولكنه استمر سنوات بل عقوداً باستيعاب ماهي معطيات وماهي مؤثرات في الواقع بما فيها المعطى التكتيكي لاستراتيجية الصراع الأميركية عالميا فيما يعني اليمن، فأميركا لم تكن حريصة لا على استمرار حاكم ولا استقرار نظام أو استقرار في اليمن، وإن لم تكن كذلك يعنيها بالمباشرة إقصاء نظام أو هز استقرار. فالنظام فرض عليه الواقع بصراعاته ومرراته أن يصبح خياره ولصالحه المصداقية مع القوة اقليمياً أو دولياً، يحمي ذاته ووطنه وليتعامل من أرضية هذه المصداقية بثقة لتوفير هذه الحماية. فالنظام لم يكن يحتاج لمعارضة أميركا وأثقال أقليمية واثقال الشارع في مسألة الجهاد الإسلامي في أفغانستان، ولكن أقل حق له كنظام تحميل كل طرف في الواقع مسؤولية موقفه فيما النظام كأنما يصبح في الحالات الاستثنائية مجرد طرف من حقه تحفظ أو عدم موافقة أو رفض دون الوصول إلى معارضة ما دام ذلك يضره أكثر من أي طرف آخر. الطبيعي من ثقافة وخيارات أثقال معارضة أن نربط الإرهاب باليمن النظام وليس بأي طرف خارجي، وهي حين تصف مؤتمر لندن بالوصاية على اليمن، فليس اقترابا من وصف أميركا بالاستعمار ولكن لاستهداف النظام في اليمن. وبالرغم من أن هذا الكيل المغدق في هذه المسألة هو تجنب أي تلميح أو إشارة إلى كون النظام في اليمن هو أول من استعان بالإسلاميين لمواجهة الزحف الشيوعي للتوحيد بالقوة كدفاع أمام الآخر وليس لاقتلاع الآخر. عدم الإشارة إلى ذلك ليس لخوف شيوعيين التذكير بشيوعيتهم أو قلق إسلاميين من تأصيلهم إلى الأصولية. المسألة المحرجة هي غير ذلك وأبعد وأهم من ذلك، فذلك إما يعني اهتدت من خلال خيار النظام في صنعاء لتواجه الشيوعية بالإسلاميين في أفغانستان، وذلك "لصالح النظام" وإما أن نكون بصدد الاحتمال الثاني الذي تجاوز صلاحية استعماله باندثار الشيوعية "عمالة النظام لأميركا". فالاحتمال الثاني هو أن يكون فكرة أو نصيحة أميركية أخذ بها النظام في اليمن، وهذا السياق ايضا هو لصالح النظام وليس لصالح المعارضة. ما دام انتهاء التدخل القومي ومجيء التدخل الأممي ارتبط بهزيمة 1967م، وانتهاء المد الأممي ارتبط بدحر الشيوعية في أفغانستان، فأميركا والغرب أمام مسؤولية دولية أخلاقية إنسانية تجاه اليمن في حرب متوازية أو احتواء متوازٍ للإرهاب وبيئة الإرهاب. اليمن التي كانت أرض تكتيك لا تعيه لصراعات عالمية، ليست اليوم تواجه مشكلة الإرهاب في واقعها كما عرف العالم أو انتبه مؤخرا، ولكنها واقع صراعات غير واعية يجسدها تناقض يجسد أضيق أفق من مؤتمر، فهذه الصراعات طالبت بفرض شروط على النظام لاستثمار الدعم الدولي، وبعد إقرار الشروط تندد بها كوصاية على اليمن. فالصراعات إما أنه لا وعي لها أو أنها لا تريد أن تعي أو لم تعد تستطيع العمل بما تعيه، وخيارها بات تعبئة الوعي بالصراعات وتلك مشكلة أخرى.