لقد كان اول لقاء لي معه وجها لوجه بداية العام 1982م وهو تاريخ توظيفي في وزارة الاتصالات آنذاك وتم قبولي كفني سنترالات لأجيب على اتصالات المشتركين واعيد الحرارة الى هواتفهم وانا الذي عمري لم ارفع سماعة هاتف قبل ذلك ابدا بل لا اعرف التلفونات الا من خلال الأفلام والمسلسلات ولم ادري بوظيفتي الا عندما اخذوني من الدور الثالث الى الدور الأرضي في مبنى الاتصالات في قلب ميدان التحرير بصنعاء واوصلوني الى مكان لم اكن اتخيل بوجوده في كل الكرة الأرضية أصوات المكائن وجرسات الإنذارات ووميض اللمبات وشباب في حركة دائمة ذهابا واياب وانا في وسط كل هذا كالقبيلي الذي اخذوه من القرية في اليمن الى وسط مدينة نيويورك وتركوه هناك لا صديق يدله ولا لغة تسعفه ولا خبرة تلهمه كيف يتصرف ويتعامل مع المجتمع الذي سيعيش معه من اليوم وقد انقذني من الصدمة والورطة التي انا فيها استاذي وزميلي المهندس عبد الكريم أبو غانم حيث بادرني بالقول انت عرفت المكان روّح اليوم ومن غدا الساعة الثامنة صباحا توقيع حضور معنا هنا واليوم إجازة اذهب. وقد عدت الى البيت مشوش البال الجميع مسرور بوظيفتي الأولى وانا اقلّبها في رأسي كيف سأتكلم في التلفون وكيف سأتعامل مع كل تلك الأجهزة والآلات التي لم أرى مثلها حتى في الأفلام فكانت فرحة مشوبة بالقلق والترقب وكان ذلك النهار من أطول الأيام في حياتي فرغم الرهبة الا انني كنت اريد ان اخوض التجربة واكتشف هذا العالم الجديد (عالم الاتصالات) وبالكاد اشرقت الشمس وكانت الساعة تشير الى تمام السابعة والربع وكنت في حوش السنترال قبل ان يفتح السنترال وقبل ان يفتح مكتب التوقيعات ورويدا رويدا بدأت الحركة تدب في المكان وانا منتظر شارد الذهن كالضائع وجاء المهندس المختص وفتح باب مكتبه والذي هو عبارة عن غرفة صغيرة فيها أجهزة من الأرض الى السقف عرفت فيما بعد انها أجهزة التحكم بالكهرباء المهم انتظرت حتى وقع اخر شخص امامي وتقدمت للتوقيع الذي لا اعرف ما هو ولما هو هذا التوقيع كما انني لا اعرف اسم هذا الشاب الأبيض الوسيم جدا المصري الجنسية والذي عرفت فيما بعد انه المهندس صفوت صلاح الدين وكان لطيفا معي جدا وبادرني بالقول عايز ايه يا ابني والا عاوز مين قلت له اريد ان أوقع فرد عليا باستغراب عاوز ايه أه أه انت من الموظفين الجُداد فافتتحت لي أبواب السماء وقلت نعم قال اكتب اسمك هنا ووقع امامه كتبت اسمي وعملت خط بالقلم كتوقيع نظر صفوت الى توقيعي وضحك وقال ايه ده يلله معلش بكره يكون معاك توقيع اجمل من ده. اخذ بيدي المهندس صفوت وقطعنا بضعة امتار في الحوش ودخلنا الى نفس المكان الذي كنت فيه بالأمس ولكنه لم يعد بتلك الغرابة والرهبة التي شاهدته بها امس نحن الان في ممر صغير وعلى يساري 3 أجهزة هاتف معلقة في الحائط وجهاز آخر على ماسة حديدية وبجوارها كرسي قال لي صفوت اجلس هنا على الكرسي ده حتى يأتي المهندس عبد الكريم أبو غانم ليبدا بتدريبك جلست على الكرسي وامامي باب زجاجي كبير ووسطه باب صغير يدخل المهندسون وعمال النظافة منه الى داخل اكبر سنترالات اليمن آنذاك ولان ومضات اللمبات لم تعد تشدني اليها رفعت نظري الى اعلى الباب الزجاجي فاذا انا امام صورة زيتية كبيرة ملونة معلقة فوق الباب مباشرة انها صورة الشهيد علي عبد المغني وكان ذلك اول لقاء لي مع هذا الرجل الأسطورة. ومن هنا بدأت حكايتي مع علي عبد المغني ومع ثورة 26 سبتمبر 1962 الخالدة التي لم اكن اعرف منها حتى ذلك الوقت الا العرض العسكري وايقاد الشعلة فقط رغم انني أصبحت في المرحلة الثانوية. وبدأت الأسئلة تدور في راسي لماذا صورة علي عبد المغني معلقة هنا وأين صور بقية الثوار أسئلة كثيرة قطعها صوت احد المهندسين يقول يا الله ادخل مع زملائك الجدد للتدريب وكانت فرحتي غامرة بوجود زملاء جدد مثلي وان كان بعضهم سبقني بأيام وبعضهم بأسابيع وبعضهم بشهور ودارت العجلة سريعا ولم تمضي سوى خمسة اشهر حتى تم اختياري لأكون بين المناوبين الذين هم اساطية السنترال آنذاك وكان النظام المعمول به استلم 24 ساعة بعدها ارتاح ثلاثة أيام بدون عمل وخلال فترة الخمسة الأشهر الأولى لم تفارقني صورة الشهيد علي عبد المغني ليس لأنها امامي وانظر اليها في اليوم عشرات المرات ولكن لماذا صورته هنا سألت زملائي الجدد عنه واكتشفت ان الكثير منهم لا يعرف من هو صاحب الصورة وسألت المهندسين الاقدم والذين لهم سنوات في هذا العمل وكان ردهم توظفنا ووجدناها هنا ولم نسأل لمن هي ولماذا هي هنا كما تسأل انت ،ونتيجة لهذه الإجابات ازداد اصراري لمعرفة سبب وجود صورة علي عبد المغني هنا وربما ان ما زاد من اصراري وفضولي انني تلك الأيام كنت اقراء روايات (اجاثا كريستي) وكلها روايات بوليسية والغاز واسرار وملاحظات. واليوم بالذات اعتقد انه كان لها دور أساسي في بحثي الدائم ذاك وجاءت لحظة اللقاء الأولى مع اول يوم لي في الاستلام حوالي الرابعة عصرا وقد توافد الى غرفة الاستلام اكبر قيادات الاتصالات من المهندسين تلك الأيام وفي مقدمتهم استاذي الكبير المرحوم المهندس حسين علي القواس مدير الاتصالات واستاذي الكبير المهندس محمد علي مرغم اطال الله بعمره وكل مهندسي الكابلات والخطوط الهوائية وغيرهم الغرفة مكتظة عن اخرها والضحكات تتعالى وانا الوحيد الذي أقوم بخدمتهم وارد على الاتصالات واقوم بمراقبة حركة الاتصالات ذهابا وإيابا وليس لي أي معرفة بأي واحد منهم فأنا كالغريب والان وصل زميلي المستلم معي وهو المهندس المرحوم عبد الله قاسم حميد الدين وبوصوله جلست وتربعت في مدكاي ولأنهم اول مرة يشاهدوني ولا يعرفون اسمي فقد كان شعري الطويل هو ما لفت نظر المدير حسين القواس ونادني قائلا وهو يضحك يا صاحب القعشة ايش اسمك ارتبكت ورديت عليه وبدا التنكيت على الشعر الطويل واصحاب الحدا وانني يجب ان احلق صلعة موس ودخلت المعرفة بيني وبين جميع المخزنيين وكان الفضل الكبير في ذلك للأستاذ المرحوم حسين علي القواس فقد عرف انني اشعر بالوحدة بينهم فخاطبني كثيرا ووجه الي الحديث مرارا حتى ادخلني في جو الجلسة وانا ممتن له كثيرا لعمله المؤدب والذكي. وظل الحال هكذا حوالي العام ولكن معرفتي برؤسائي وزملائي توثقت وحانت ساعة اللقاء مع بداية الإجابة لكل تساؤلاتي فقد جاء عيد سبتمبر العظيم واجتمعنا في غرفة الاستلام ودار الحديث عن الثورة فالتقطت طرف الحديث وطرحت سؤالي على المهندس الكبير حسين القواس لماذا صورة علي عبد المغني معلقة هنا على مدخل السنترال وما هو السبب؟ وقد خيم الصمت على الجميع ونظر الأستاذ حسين القواس الى رفيقه المهندس محمد مرغم وقال له سمعت يا محمد مرغم ما قال صاحب الحدا. أجاب المهندس محمد مرغم سمعته وانت بتلاحظ انه اول موظف يسأل هذا السؤال فرد عليه والا اجبت عليه انا فقال المهندس حسين علي القواس هل تعرفون ان التخطيط لثورة 26 سبتمبر تم في هذه الغرفة التي نحن مخزنيين فيها الان! وزادت الدهشة لنا جميعا وواصل الثائر والمهندس حسين القواس قائلا انا ومحمد مرغم زملاء مع الشهيد علي عبد المغني من المدرسة الثانوية وكان الشهيد هو رئيس المدرسة وقائد الطلاب وقد توظفت انا واخي محمد هنا تقريبا في العام 58 ومن يومها لم تنقطع زيارة علي عبد المغني لنا وبعد تخرجه من الكلية الحربية كنا نجتمع هنا في أوقات متفاوتة وكان الشهيد علي عبد المغني يأتي ومعه بعض الضباط ونقراء مقالات الصحف التي تصل الى اليمن وبعض صفحات الكتب التي كانت ممنوعة من الدخول الى اليمن وهل تعرفون ان الفريق حسن العمري كان هو مسئول اللاسلكي في الاتصالات وكان دائم الاجتماع بالشهيد علي عبد المغني لأوقات طويلة ومنفردين واحيانا مع بعض الضباط هنا أيضا في هذه الغرفة التي تجلسون فيها الان وللتغطية على اجتماعاتنا المتكررة واجتماعات الضباط الاحرار فقد شكلنا فريق لكرة القدم وفيه اذكى طلاب الثانوية العلمية وبعض الضباط والتجار واشتهرت مبارياتنا وعندما يتم تحديد اجتماع لضباط الثورة تقام مباراة حامية الوطيس لا تنتهي الا بنهاية الاجتماع وهنا في هذا السنترال وضع علي عبد المغني كل خطط الثورة وهنا اجتمع علي عبد المغني بكل قادة ثورة 26 سبتمبر 1962 وكنت انا واخي المهندس محمد مرغم نحضر اكثر هذه الاجتماعات واحيانا نقود المباريات كلاعبين حتى تأتينا الإشارة بانتهاء الاجتماع وننهي المباراة ونحن أحيانا على مشارف الموت من التعب والخوف وكانت الملاعب ترابية وبعضنا يلعب حافي القدمين واكثرهم لا يعلم شيئا عما يحدث وكان يجتمع جمهور كبير لمشاهدة هذه المباريات والتي كانت في أحيان كثيرة تمويها للتخطيط للثورة ومازلنا نحتفظ بالكثير من الوثائق والاسرار والمواقف التي حدثت لنا مع هذا القائد الذي لا يتكرر رغم صغر سنة مقارنة بمن كان يحضرهم معه للاجتماعات وما وضعنا صورته هنا الا للحفاظ على ذكرياتنا معه وتخليدا لذكراه وللمكان الذي رسم فيه خطط تفجير ثورة 26 سبتمبر الخالدة. ومن بعد هذا اليوم بدأت رحلتي لمعرفة ثورة 26 سبتمبر واحداثها وابطالها وكانت صورة علي عبد المغني هي البداية فقط لعملية طويلة من البحث والقراءة والاطلاع. │المصدر - الخبر اليمني