لم أستطع منع نفسي من الجهر بالسؤال الذي كان يلوب بداخلي، مذ أن وطئت قدمي، مع رفقتي في برنامج "الزائر الدولي"، الكنيسة المشيخية في مدينة سان أنطونيو بولاية تكساس، والقسّ يحاضر علينا حيال جهودهم في مساعدة المشرّدين في المدينة، ورفعت يدي –بإلحاح- طالباً المداخلة. قلت له وللحضور: "سامحني على صراحتي في سؤالي هذا، وأنا أسمع عن جهودكم في إطعام وإيواء المشرّدين، أو من تطلقون عليهم "الهوملز" بالولاياتالمتحدة، فأنا لا أفهم كيف أن حكومتكم، تستضيف إعلامياً مثلي من المملكة العربية السعودية لمدة ثلاثة أسابيع، وتتحمّل نفقات لا تقل عن 40 ألف دولار، كان بإمكانها أن توفّر بها سكناً لإيواء مجموعة مشرّدين من مواطنيكم، وقد رأيتهم بعيني في الشوارع وعلى ضفاف النهر، بهيئتهم الرثة، وملابسهم المتسخة، وأشكالهم البشعة؟". كان ذلك سؤالاً سكنني بشدة من وصولي، وأنا أرى الاستقبال والحفاوة والكرم، في مقابل رؤيتي لأولئك المشردين الذين يربون على عدد 550 ألفاً في الولاياتالمتحدة، بحسب إحصائية دائرة البيانات والتنمية الحضرية عندهم لعام 2016م، في مقابل أن برنامج "الزائر الدولي" يستضيف سنوياً ما لا يقل عن 25 ألف زائر من مختلف دول العالم، وأكثرهم في العقدين الأخيرين من المنطقة العربية، وأن حوالى 700 ألف ضيف، زاروا الولاياتالمتحدة ضمن هذا البرنامج من عام 2003م فقط وإلى الآن. طبعاً السؤال كان فوق مستوى أن يجيب عليه القسّ، الذي غمغم لي بكلام بعيد، بيد أنني لوقت كتابتي هاته، ظللت في تفكير متمعّن حيال حرص وزارة الخارجية الأمريكية على مثل هذا البرنامج المكلف، لاستقطاب الشباب والرموز من مختلف أنحاء العالم، ليزوروا الولاياتالمتحدة، ويتعرفوا عليها من داخلها. يحسن بي هنا التعريف ببرنامج "الزائر الدولي" الذي أتطرق له؛ كي يكون القارئ على علم بالذي نتكلم فيه؛ إذ هو برنامج انطلق إبان الحرب الباردة، وكان يركّز على الاتحاد السوفيتي، ضمن ما أسموه برنامج "التبادل الثقافي"، وأخذ بعد ذلك بعداً رسمياً كأحد أهم الأدوات للسياسة الأجنبية الأمريكية أثناء حكم الرئيس الأمريكي آيزنهاور. ففي عام 1955م، التقى آيزنهاور مع الرئيس السوفيتي خروتشوف في جنيف. علق آيزنهاور بعدها بقوله: "إن الموضوع الذي حاز على أكبر قدر من اهتمامي، كان إمكانية زيادة الزيارات عبر البحار بواسطة مواطني دولة ما داخل أراضي الدولة الأخرى"، وعبر هذا البرنامج تمثّلت أكبر نقطة اتفاق ممكنة بين الغرب والاتحاد السوفيتي. اللافتة المرفوعة لنا حيال برنامج التبادل الثقافي هذا، والذي يتبع بالمناسبة وزارة الخارجية الأمريكية، بأنه يسعى إلى تطوير الفهم الثقافي بين مواطني الولاياتالمتحدة ومواطني الدول الأخرى، وأنه ليس من الضروري أن تقوم برامج التبادل بمبادلة فرد بآخر من دولة أخرى، بل إن "التبادل" يشير إلى تبادل الفهم الثقافي الذي ينشأ عندما يذهب فرد ما إلى دولة أخرى، وأنها تدخل ضمن الدبلوماسية الثقافية المنضوية في نطاق الدبلوماسية العامة. بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، ووقتما ضُرب الكبرياء الأمريكي في صميمه من متطرفين هُوج، ثار السؤال الذي ردّده بوش والإعلام الأمريكي وقتها: "لماذا يكرهوننا؟" ما أعاد الحياة لهذا البرنامج من جديد، بعدما خفت وخُفّفت ميزانيته، ساعين لتغيير الصورة النمطية عن الولاياتالمتحدة، وفهمها من الداخل، وكسر النظرة السلبية تجاهها، ومعرفة سبب سياساتها التي تنطلق من قيمها المؤسّسة عليها، وكما ذكرت لكم فإن 700 ألف زائر، معظمهم كان من المنطقة العربية زاروا الولاياتالمتحدة ضمن هذا البرنامج، وهم يرّكزون على الشباب والنخب المؤثرة، والتي يتوقعون منها أن تكون في مواقع المسؤولية، وضمن محاوراتي مع رفقتي في هذا البرنامج، كنت أقول لهم: "لا أصدّق أبداً أن الخارجية الأمريكية تنفق مثل هذه المبالغ علينا لمجرد تثقيفنا وترفيهنا وحسب من نقود دافعي الضرائب لديها، بل ثمة أهداف كبيرة غير المعلنة تحققها من هذا البرنامج المعدّ بطريقة مذهلة ومتقنة ومركّزة لحدّ بعيد". كنت أقيس على نفسي ورفقتي، إذ خلال أيام قلائل، تغيّرت النظرة تجاه الولاياتالمتحدة، ورأيت شعباً منفتحاً لكل قادم، ومجتمعاً متمدّناً قائماً على قيم ومبادئ وضعها الآباء المؤسّسون، يحافظون عليها بحياتهم. دولة مؤسسات حقيقية يحكمها القانون، يتساوون جميعاً تحتها، بها فصلٌ حقيقي للسلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، وكانوا يسألوننا –بدهاء- في كل محطة: ماذا استفدتم من البرنامج؟ فحين يأتي دوري، كنت أقول لهم: "ما أفدته بحق؛ أن حكوماتكم المتعاقبة لا تمثل الشعب الأمريكي، فقد أعطونا صورة غائمة وسلبية عنكم". بالطبع الكثير ممن يأتي من الدول الفقيرة أو التي بها حروب، أو تلك المتأخرة تنموياً؛ يصابون بالصدمة الحضارية، ورأيت ذلك عياناً، للدرجة التي أجزم أن من بين مئات الآلاف الذين انخرطوا في هذا البرنامج؛ يوجد الكثير والكثير منهم من هو مستعدٌ لبيع قيمه ومبادئه بل ووطنه من أجل أن يعيش في هذه الجنة التي يرون، خامات جاهزة تماماً للاستخبارات الأمريكية، ولربما كان ذلك من الأهداف الخفية للبرنامج، ولا أدلّ عليه من قول "أوليج كالوجين"، الجنرال السابق بالمخابرات السوفيتية ورئيس عمليات المخابرات السوفيتية بالولاياتالمتحدة، الذي قال صراحة بأن برامج التبادل هذه كانت بمثابة "حصان طروادة" لأنها ساهمت في "تآكل" النظام السوفيتي، وقد زار الولاياتالمتحدة ما يقرب من 50000 مواطن سوفيتي يتضمّنون كتاباً وسياسيين وموسيقيين ورموزاً فنية أخرى. الأمريكان لا يصرفون سنتاً واحداً عبثاً، ولا يفضّلون على مواطنيهم المشرّدين هناك الذين ينامون على الأرصفة وضفاف الأنهار أحداّ؛ إلا إذا عرفوا أنهم يكسبون، ويحققون غالب أهدافهم. هل تعلمون بأنه –بحسب مكتب الشؤون التعليمية والثقافية الأمريكية- يوجد ما لا يقل عن 200 رئيس دولة (حاليين وسابقين على حدّ سواء)؛ تلقوا قدراً من التعليم في الولاياتالمتحدة من أحد برامج التبادل الثقافي هذا، وشارك ما يقرب من 1500 وزير بارز -عبر دول العالم كلها- بالمثل في هذه البرامج، وأن أنور السادات وتوني بلير وأنديرا غاندي وتاتشر وجملة رؤساء كانوا ضمن هذا البرنامج، وأرجوكم أن تراجعوا سياساتهم ومواقفهم مع الولاياتالمتحدة، لتعرفوا الأثر الكبير الذي خلّفه هذا البرنامج عليهم. شخصياً، عرفت أحد عبقريات السياسة الأمريكية عبر هذا البرنامج، ولماذا سادت الولاياتالمتحدة العالم اليوم!! القوم يقرؤون ويخططون لما بعد 20 عاماً وأكثر، ويرّكزون على الشباب والرموز السياسية والثقافية والفكرية والفنية، التي ستكون في مواقع المسؤولية بالمستقبل، وهم يكسبون من هذا البرنامج بالكامل، ولتعرفوا أن أمثال خيرت الشاطر وتوكل كرمان وناشطون وناشطات ودعاة حقوقيون من السعودية والبلاد العربية كانوا ضمن هذا البرنامج، ولتعرفوا أن كل المؤسسات الأمريكية التي نزور تأخذ عناويننا؛ لتتواصل معنا، خصوصا من الأقليات والناشطين في مجال الحريات. وإن كتبت عن رؤيتي للبرنامج بكل صراحة، فأنا أعبّر عن امتناني الكامل لدعوتي في هذا البرنامج الذي أفدت كثيراً منه، ليس تجاه أمريكا وحسب، بل وفي نواح عدة تشمل اتساع رؤيتي لفلسفة الحياة وحركة المجتمعات، وتعايش أتباع الأديان وحتمية تعاونهم، ولم أنخدع بالواجهة التي كنا نلتقي هناك في حواراتنا مع المعتدلين من القيادات الدينية المتعددة، فقد كنت حريصاً على رؤية ما خلف الستار والواجهة التي نلتقي، وأعرف أن خلف المعتدلين الذين رأينا؛ متطرفين من اليمين الأمريكي، لا يرون الحوار ولا التعايش، تسكنهم نظرة عنصرية نازية تجاه المسلمين واليهود والأقليات، يتكاثرون يوماً بعد يوم هناك، ولربما أن مرحلتي العمرية وحصيلتي الثقافية أسعفتني في رؤية ذلك، ولكن الشباب المنبهر المستلب حقيقة، سيكون أداة طيّعة لكل الأفكار التي يتمّ تشرّبها في اللاوعي بطريقة غير مباشرة، وهنا الخطورة!! عبر البرنامج المذهل "الزائر الدولي" عرفت أحد أسباب سيادة الولاياتالمتحدة للعالم، ولا تملك إلا أن تقف إعجاباً لما يفعلونه، ولا يستطيع أحد لومهم في ما يفعلون، فكل أمة حريصة على أن تسود العالم، ولكن اللوم إن لم نقم نحن بمثل هذه المبادرات لتحسين صورتنا، واستقطاب شباب العالم الغربي الذين سيمسكون زمام الأمور في بلدانهم، كي نكسبهم لصفنا وقضايانا في المستقبل، وهو ما أحاول أن أطرحه في مقالتي التالية.