بين الوضع الاقتصادي المتردي, وعدم الاستقرار السياسي, ترتفع نبرة الجماعات المتطرفة -الإرهابية- من جهة, والجماعات المتمردة من جهة أخرى لتنشر نفوذها بطريقة أوسع تكشف عن عمق تعقيدات الأوضاع في اليمن. بالتأكيد, عدم الاستقرار السياسي في البلاد له تأثيرات وانعكاسات سلبية للغاية على موارد البلد الإنتاجية, خصوصا إنتاج وإمدادات النفط الذي يؤثر سلبا في خلق العجز السنوي المتكرر في الموازنة العامة للدولة. يمكن استعراض معقدات الوضع السياسي وحالات الاضطرابات في اليمن, بالعودة إلى عدد من المسببات الداخلية منها والخارجية, يأتي في مقدمتها النزعة الانفصالية في بعض مناطق محافظات الجنوب, وهذا ناتج عن وجود قوى سياسية تقليدية ومجموعات تمارس الضغط من أجل فصل محافظات الجنوب عن محافظات الشمال. يليها ارتفاع حالات ومواجهات العنف المسلح مع المتمردين الحوثيين الذين يسعون إلى إقامة دولة شيعية شمال اليمن. وفيما أحزاب اللقاء المشترك وفي مقدمتها حزب الإصلاح الإسلامي, والحزب الاشتراكي اليمني, لا زالت مستمرة في تعزيز سلطة الرئيس الانتقالي عبدربه منصور هادي, وتجاوز معرقلات الانتقال التي تسببها قوى بقايا النظام السابق, والتمهيد لمرحلة جديدة لليمن الحديث, يعيش حزب المؤتمر -حزب الرئيس السابق صالح- أسوأ ظروفه التاريخية والزمنية, وسط سيل من المشاحنات والانقسامات الداخلية في صفوفه, ويفسر تلك الانقسامات, القوة السياسية للحزب غير الموحدة, والطموحات والمصالح الشخصية لعدد كبير من أعضائه. المؤثرات الخارجية ليست أقل تأثيرا على البلد من المؤثرات الداخلية. إيران حالة نموذجية على ذلك. ومن المفيد التأكيد على قيام إيران بدعم الانفصاليين جنوب اليمن تماما, مثلما تقدم الدعم والمساندة للمتمردين الحوثيين في الشمال. وتأمل إيران -كنوع من التمني- في حال حصل جنوب اليمن على حالة من شبه الاستقلال, أن يتعزز الموقف الإيراني بشكل كبير في خليج عدن والبحر الأحمر. ووسط مناخ معقد من الوضع الاقتصادي المتردي, وعدم الاستقرار السياسي الداخلي, وانفتاح البلد على المؤثرات الخارجية, كانت اليمن قد أعلنت إكمالها لشوط مرحلة مؤتمر الحوار الوطني الشامل, الذي انعقد في الفترة ما بين مارس 2013- يناير 2014. وقد خرج المؤتمرون بوثيقة أسموها (وثيقة الحوار الوطني) وهي عبارة عن خارطة طريق للانتقال السياسي نحو يمن حديث خالي من الصراعات والانقسامات. وقد وقع وصادق على الوثيقة الرئيس هادي والمبعوث الاممي إلى اليمن السيد جمال بن عمر. وتحمل الوثيقة شروط وبنود الاتجاه نحو بناء دولة مدنية حديثة, وصياغة دستور جديد, والتأكيد على ضرورة الإصلاح الدستوري, والانتخابات الرئاسية القادمة التي قد يتم التحضير لها بحلول نهاية العام الجاري 2014. كما تحمل الوثيقة المصادقة على مشروع الاتفاق على قيام دولة اتحادية تتكون من ستة أقاليم مع الخضوع بشكل كلي للحكومة المركزية. وفي ظل اتجاه اليمن صوب الانتخابات الرئاسية القادمة وسط هذا المناخ المعقد من الأوضاع الاقتصادية والسياسية وحالة عدم الاستقرار, واستمرار المؤثرات الخارجية, يمكن القول أن وصول اليمن إلى زعيم جديد- رئيس جديد- قد لا يحل كل هذه المشاكل, ولا يمكن إعفاؤه من تحمل كاهل الثقل الذي خلفته سنوات وعقود الأنظمة السابقة, كما لا يمكن لهذا الزعيم الجديد أن يمتلك عصا سحرية لتلطيف هذا المناخ المشحون بالمعقدات على كافة الأصعدة. على مدى الشهور السابقة من المرحلة الانتقالية ظل الوضع في اليمن يلفت الانتباه للكثيرين، وقد أصبح هذا البلد –مؤخرا- ينظر إليه من قبل المجتمع الدولي على أنه يمثل قاعدة صلبة يتربع عليها مسرح الإرهاب الدولي. بالإضافة إلى أن الوضع الاقتصادي الصعب والمتدهور, يسمح للمتطرفين والقوى المتمردة بنشر نفوذها بطريقة أوسع على أقصى نطاق ممكن. تنشأ المشاكل الاجتماعية والاقتصادية في اليمن -في الوقت الراهن- أساسا من انعكاسات الوضع الديموغرافي. ومنذ فترات سابقة ظل هذا هو السبب الرئيسي وراء محاولات الحكومات اليمنية المتكررة حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية بغض النظر عمن هو على رأس الحكومة, لكن يبدو أن جميع المحاولات وحتى الوقت الحالي لم تجلب أي نتيجة تذكر ولم تسق سوى إلى لا شيء. أغلب السكان في اليمن هم من الشباب, ويأتي هذا الارتفاع الملحوظ من السكان في فئة الشباب نتيجة للنمو السريع في الثلاثة العقود الأخيرة. ويترافق هذا النمو السكاني مع ندرة فرص العمل في البلاد، والبطالة الاجتماعية وتواصل الفوارق الاقتصادية بين مختلف الطبقات الاجتماعية. بالنسبة لغالبية سكان اليمن، يمكن وصف الظروف المعيشية التي يخضعون لها من أنها غير مقبولة للرجل العصري. الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي, هنالك الغالبية من اليمنيين الذين لا يستطيعون الحصول على مياه الشرب النقية ومرافق الصرف الصحي، ويأتي هذا مع ترافق الانتشار الواسع للأوبئة, بالإضافة إلى المستوى المتدني والمنخفض للخدمة الصحية العامة. على الرغم من تدفق المساعدة الإنسانية والمالية القادمة من الخارج، إلا أن مثل هذا التدفق من المساعدات ليس كافيا لضمان توفير وسائل التغذية, وخلق ظروف معيشية مرضية لجزء كبير من السكان. من الواضح أن المشاكل الناجمة عن تفاقم الوضع الديموغرافي زاد من تعقيدها أحداث "الربيع العربي" التي أدت إلى اشتباكات مسلحة في محافظات عديدة من البلاد. وهو ما دفع بعدد كبير من اللاجئين والمشردين داخليا. ويبقى أن عدم الاستقرار السياسي في البلاد له تأثير سلبي للغاية على إنتاج وإمدادات النفط التي تؤثر على ملئ الموازنة العامة للدولة. بالإضافة إلى ذلك، تظهر عدد من الخصائص الوطنية التي تجلب تأثيرها على السكان (استخدام القات, الشجرة النباتية المخدرة), بالإضافة إلى ارتفاع نبرة التقاليد السياسية التي تحد من سلطة الدولة (العشائرية، والمحسوبية، والفساد). على خلفية المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، اندلع النضال السياسي المرير للغاية في البلاد. ويعكس هذا النضال المشهد السياسي في اليمن والمتلون جدا – من الإسلاميين إلى الاشتراكيين- وقد استطاع التيار الإسلامي إضافة إلى الاشتراكيين ومن يأتي تحت ما يعرف بائتلاف أحزاب اللقاء المشترك (المناهضة لصالح) أن تصبح الذراع والسند القوي في نقل السلطة إلى الرئيس الحالي عبدربه منصور هادي من خلال ترشيحه لمنصب الرئيس خلفا للرئيس السابق. ويعتبر حزب التجمع اليمني للإصلاح -تيار الإسلاميين- والحزب الاشتراكي اليمني من أقوى الأحزاب والقوى الرئيسية في البلاد. حزب الرئيس السابق صالح "المؤتمر الشعبي العام", حاليا يكشف عن أنه ليس قوة سياسية موحدة، وقد بدأت الاضطرابات الداخلية في صفوفه منذ موجة الاحتجاجات التي أطاحت بصالح ولا زالت مستمرة، ويعتري حزب المؤتمر حاليا موجة من الانقسامات الحادة في صفوفه, بسبب الطموحات والمصالح الشخصية لبعض أعضائه. ومع ذلك، لا يزال صالح يحاول الاطمئنان بأن لديه أنصار عديدون. وتظهر معقدات الوضع السياسي الحالي في اليمن من خلال رشقات نارية تؤجج حمى النزعة الانفصالية في بعض المناطق. على سبيل المثال، في الجنوب، هنالك بعض القوى السياسية التقليدية ومجموعات الضغط التي تهدف إلى فصل المحافظات الجنوبية عن محافظات الشمال. في الزاوية الثانية هنالك ما يعرف بالمتمردين الحوثيين, الذين يسعون إلى إنشاء دولة شيعية شمال اليمن, (وهم جماعة أخذت اسمها من اسم الزعيم الحوثي), ولا زالت هذه الجماعة المتمردة تقاتل ضد الحكومة المركزية منذ يونيو حزيران 2004. على الرغم من التناقضات العميقة، إلا أن المجتمع اليمني لم يفرط في الاحتفاظ بضرورة إقامة حوار سياسي داخلي. في يوم 18 مارس 2013، تم تدشين وافتتاح مؤتمر "الحوار الوطني" في العاصمة صنعاء، والذي حضره 565 شخصا يمثلون الأحزاب والقوى السياسية الرئيسية بما في ذلك المنظمات غير الحكومية، والجمعيات النسائية والشبابية. وقد تضمن جدول أعمال المؤتمر القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. في 24 ديسمبر 2013، وقع المشاركون في المؤتمر على اتفاق يحدد الاتجاه للخروج من الأزمة. بينما تم التوقيع على الوثيقة النهائية والمعروفة بما يسمى "خارطة الطريق" من قبل الرئيس هادي، والمستشار الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في اليمن جمال بن عمر، فضلا عن ممثلين عن الحركات الانفصالية في الجنوب. وكانت الأطروحة الرئيسية لهذه الوثيقة المطروحة والتي اقترحها بن عمر، تقضي بتشكيل دولة فيدرالية تتكون من عدة مناطق، وهي أطروحة ينبغي أن تمهد الطريق لتشكيل دولة مركزية تقوم على مبادئ الفيدرالية. وقد نص الاتفاق على تنفيذ "خارطة الطريق" على مرحلتين خلال الفترة من تسعة أشهر إلى سنتين. وتقترح الوثيقة اعتماد دستور جديد وعدد من القوانين الاتحادية الجديدة، والإصلاح الانتخابي، إضافة إلى عقد الاستفتاء والانتخابات العامة. في 25 يناير من العام الجاري 2014، أنجز المؤتمر أعماله. ومن النتائج الرئيسية التي خرج بها المؤتمر الاتفاق على إنشاء الدولة الاتحادية "جمهورية اتحاد اليمن". ولتنفيذ هذا الاتفاق، أمر الرئيس هادي بتشكيل لجنة لترسيم الحدود الإدارية الجديدة. في السنوات الأخيرة، اتجهت السياسة الخارجية اليمنية تجاه تعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية الكبرى، حيث تتلقى البلاد مساعدات مالية واقتصادية كبيرة، وكذلك مع الدول الآسيوية القوية – الهند والصين وكوريا الجنوبية واليابان بوصفها بلدان رئيسية من حيث الاستثمار في اقتصادها وطلب الاستهلاك. في شهر مارس من العام 2013، استضافت العاصمة لندن الاجتماع الخامس لمجموعة "أصدقاء اليمن" لمناقشة تدابير تشجيع اليمن على التغلب على المشاكل السياسية. وخلال الاجتماع، ناقش المشاركون عملية إعداد وتهيئة البلاد للانتخابات الرئاسية والبرلمانية في عام 2014 والنظر في مسألة تقديم المساعدات المالية البالغة 7,8 مليار دولار أمريكي كانت قد تعهدت بها المجموعة إلى اليمن في عام 2012 لتحسين حياة السكان. السياسة الخارجية ليست أقل صعوبة بالنسبة للقيادة الحالية في اليمن. ويرجع ذلك أساسا إلى حقيقة أن الأوضاع السياسية الحالية في اليمن، وإجراءات السياسة الخارجية لا يمكن فصلها بأية حال عن مكافحة الإرهاب في البلاد والمنطقة حيث لعبت الولايات المتحدة دورا رئيسيا في ذلك. وتعتبر الولايات المتحدة أحد المانحين الرئيسيين لليمن والضامن الفعلي للصيانة والتطوير, ويبدو اهتمام الجانب الأمريكي في قمع بؤر الإرهاب في هذا البلد, وهي بؤر تشكل تهديدا خطيرا للولايات المتحدة أيضا. وتخصص الولايات المتحدة مبالغ كبيرة لتسليح وتدريب الجيش اليمني والقوات الخاصة بمكافحة الإرهاب وتنظيم القاعدة في اليمن. وتقوم الولايات المتحدة بانتظام بإجراء عمليات في اليمن للقضاء على الإرهابيين باستخدام طائرات بدون طيار. على الرغم من هذه الجهود، والاستفادة من ضعف الحكومة المركزية، إلا أن تنظيم القاعدة بدأ في زيادة حضوره في اليمن. في نفس الوقت يستلزم على اليمن المضي قدما وبشكل دائم في تفهم حقيقة أن العلاقات مع روسيا والصين والاتحاد الأوروبي سوف تسمح للدول العربية ببناء نظام متوازن يحمي علاقاتها الدولية. ويحاول اليمن تعزيز مواقعه الإقليمية، ولعل أبرز أولويات القيادة اليمنية في الوقت الراهن هو التقارب مع الدول الأعضاء في مجلس التعاون لدول الخليج العربية – البحرين وقطر والكويت والإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان والمملكة العربية السعودية – للانضمام إلى منظومة مجلس التعاون كعضو كامل العضوية. ومع ذلك، يبدو من غير المرجح نجاح مثل هذا السعي، بالنظر إلى الفجوة الهائلة في مستوى التنمية الاقتصادية والتكنولوجية بين اليمن وبين هذه الدول. مع ذلك، نلاحظ أن مجلس التعاون لدول الخليج العربي قد لعب دورا رئيسيا في عملية الانتقال السلمي للسلطة في اليمن في العام 2011. وتلعب إيران الجار الأقرب لدول مجلس تعاون الخليج العربي دورا رئيسيا في الشؤون اليمنية. وحسب التوقعات، تقوم إيران بشكل مستمر في دعم ومساندة الحوثيين في الشمال والانفصاليين جنوب اليمن منذ بداية انفلات الأوضاع وبدء الاحتجاجات الشعبية. فيما يبدو أن إيران نفسها، على الدوام، ترفض مثل هذه المزاعم. بالإضافة إلى ذلك، فالدعم والمساندة الإيرانية للانفصاليين جنوب اليمن في حال تم انفصال جنوب اليمن عن شماله كدولة مستقلة، من شأنه أن يعزز بشكل كبير موقف إيران في خليج عدن والبحر الأحمر حيث تتركز الاتصالات البحرية الدولية الأكثر أهمية. وعلى المدى الطويل يمكن لذلك أن يعزز التعاون العسكري الإيراني -السوداني ضد إسرائيل ويحفز وصول الأسلحة الإيرانية إلى الفلسطينيين بواسطة الطريق البري إلى قطاع غزة الذي يبدأ من السودان. اليمن الجديد, دولة تحاصرها الكثير من المشاكل التي تعاني منها منذ أكثر من عقد من الزمن. ومع الأخذ بعين الاعتبار تدهور الحالة الاجتماعية والاقتصادية نتيجة لأحداث ونتائج "الربيع العربي"، يبقى أنه في المستقبل المنظور لا يمكن أن تحل هذه المشاكل من قبل أي زعيم أو رئيس قوي للبلد، بغض النظر عن نفوذه الكبير وسلطته بين الناس. وبالتالي، على الرغم من الجهود المبذولة، لا يزال اليمن مصدرا لتهديدات الإرهاب الدولي. - بي في غوستيرين -باحث مشارك - المعهد الروسي للدراسات الإستراتيجية – يونيو 2014