لماذا نحكم على الأشياء والأشخاص والأعمال بتلك القسوة المتناهية؟ لماذا تحولت الأمور عندنا إما أبيض أو أسود؟ لماذا أصبحنا نقيّم الناس الذين نحبهم بتقديس الذين يعبدون البقر فى الهند، أو أصبحنا ننتقد الذين نخالفهم الرأى وكأنهم أنجاس من عبدة الشيطان والعياذ بالله؟ من أين جاءت ثقافة «اغتيال شخصية» الغير؟ وكيف تحولنا من ثقافة «مجتمع التسامح» إلى ثقافة «التربص» بأفعال وأقوال الغير؟ أصبح الحكم على الأمور شخصياً إلى آخر مدى، واختفت صبغة الموضوعية فى تقدير الأمور ومحاولة فهم وتفهم الظروف والملابسات المحيطة بأى قرار، خاصة إذا كان يأتى من السلطة الحاكمة. أصبحنا نشك فى أى سلطة ونشكك فى نواياها ودوافعها وقدراتها، وشكلنا محكمة للتفتيش على نوايا البشر وتحولنا إلى قضاة قساة نحكم على الجميع بقانون أحمق اسمه كل من هو مسئول متهم حتى لو كان بريئاً؟ هذه ليست دعوة مجانية للدفاع عن أصحاب السلطة فى البلاد، ولكننى هنا أتحدث عن أنه حتى يمكن إدارة شئون المجتمع، أى مجتمع، فى أى زمان ومكان، لا بد أن يكون هناك حد، ولو أدنى، من «الثقة» و«حسن الظن» فى من نوكّلهم لإدارة شئوننا. العبرة بأن المسئول صالح، والاستثناء هو أنه فاسد أو فاشل، والجهة التى تحكم على صلاحه أو فساده هى القضاء، والجهة التى تحكم على نجاحه أو فشله هى المؤسسات السياسية، وأخيراً الصندوق الانتخابى. أما منطق إسقاط أى طائر قبل أن يحلّق فى السماء، فإن هذا منهج عبثى وعدمى ومدمر لأى عملية جادة للبناء والتطوير. لا يوجد من هو فوق مستوى النقد، ولا يوجد من هو غير قابل للمساءلة، ولا يوجد أى ملف غير قابل للنقاش، ولكن شريطة الابتعاد عن منطق الثأر والتشكيك وتصفية الحسابات ومحاولة الصعود السياسى على جثث الغير. من البديهى أن يسعى كل تيار سياسى إلى الوصول إلى أعلى سلم الشعبية والنجاح فى أى تنافس ديمقراطى محترم عبر الوسائل المشروعة التى اتفق عليها كل عاقل وعادل، ولكن ليس من الطبيعى أن يتفشى الفكر «الإسقاطى» القائم على إسقاط كل فكرة وكل مبادرة وكل سعى صائب أو خاطئ لتطوير المجتمع. فلنمنح كل طرف فرصة كاملة ثم نحاسبه فلنحاول ألا ننزع قضبان القطار ثم نتهم السائق بأنه تسبب فى كارثة قتل الركاب!!